"سلمون إيرلندي" لخليل الرز
إذا لم يكن في وسع النص أن يدغدغ القارئ إلا بما تنضح به دواخله، فإن ذلك سيتكرس بشكل مبالغ فيه في رواية خليل الرز الخامسة، "سلمون إيرلندي"، الصادرة أخيرا عن "دار الينابيع" في دمشق. لن تستطيع الرواية أن تشكل عامل جذب بالاعتماد على الاسترخاء والخدر المطلوب عادة في القراءة، وليس ثمة غواية تربط بين الحوادث، وتجمع أشلاء الشخصيات، وتنسّق الزمان والمكان، وترتّب للقارئ، بمنتهى اليسر، روايته الخاصة والمعدّة له كأرض ممهددة مرشوشة بالطيب.
القارئ في هذه الرواية غير السهلة، هو الراوي الأساسي. وأعتقد أن المغامرة الصرفة التي سيخوضها القارئ - الراوي تبدأ مع تلك الصرخة الدّالة والموحية، والتي قد يحيلها على نزعاته الذاتية: "الجميع قابل للقصف... الجميع". تلك الصرخة ستتأخر حتى الصفحة 131 من الرواية كي تستفزنا، أوان يطلقها سعد البصري، الشخصية التي تدخل فجأة السرد. تلك الصرخة، ستعمل على تكثيف المقولات التي تشي، أو كان من الممكن أن تشي، بها الرواية. وبما ان الجميع قابل للقصف، لماذا لا يبكي الإنسان على بلده المقصوف؟
- سعد البصري القادم من البصرة، والذي سيجول في أطوار النص الزمنية من دون أن يكون ثمة ناظم لزمانه، هو إنسان خارج حمّى القوميات، ومع ذلك هو مطالب بحفظ ماء وجهه حين يُقصف بلده: البصرة. هذا يجعله، ككل مواطن عربي منفعل لا فاعل، ينام ليلاً كأمين سر الثانوية الوحيدة في البلدة التابعة للرقة، ليفيق في الصباح مطالَباً بأن يكون ناطقاً رسمياً باسم البصرة، هو الذي لم يكن قادراً على النطق حتى بصوته الخاص. سعد البصري، الطارئ والمارق بسرعة على الرواية، العاشق لأم كلثوم، الغائص في نغمات الرصد والنهاوند التي تنضح بها أغانيها في أول خميس من كل شهر، سيقول جملة أخرى تمضي في سياق السرد، غير أنها تجيّرنا إلى تاريخ كامل من الأثمان التي يدفعها العرب من دون أن يكون لهم لا قرار، ولا يد، ولا حتى رغبة بذلك: "أنا لست من البصرة، أنا من أم كلثوم، لا أدافع عن حدودها فأقتل لأنها بلا حدود، ولا أحد يورطني بتوسيعها فأقتل لأن الكويت لا تحدها، والإنسان فيها لا يحتاج إلى ماء وجه لأن أحداً لن يسفحه له على الأرض".
على هذا النسق يدأب خليل الرز على رسم شخصياته المنتقاة، كل منها تحاول أن تشكل بؤرة خاصة بها، يدور حولها عالم كامل يكاد أن يكون منغلقاً تماماً عليها. شخصيات متشرنقة وسط حوادث متشظية، نادراً ما يكون لها يد فيها. أحداث تتنسم السخرية، وتشي بأجواء سوريالية، أو هكذا نعتقد، فيما تظهر تهويمات الداخل في وقت ما إلى السطح كي تتداخل مع الحوادث الحقيقية فتوقعنا أحياناً في اللامعقول والغرائبي.
يمكن القول إن تشظي السرد، تشظي الحوادث، وتشظي الشخصيات (المبنية بتفصيلية ودقة عاليتين) هي قوام هذه الرواية المتشظية بامتياز. لكن سرعة الفكر والأسلوب تعني قبل كل شيء الرشاقة والحركية، وهي في رأي إيتالو كالفينو، خصائص تسير مع الكتابة. وفق هذا المنطق، من الطبيعي أن نستطرد، أن نقفز من موضوع إلى آخر، أن نفقد الخيط مئات المرات لنجده بعد أكثر من مئة انعطاف واستدارة. هذا بالضبط ما حاك عليه الروائي حكاياته. وهذا أيضاً ما يجعل القارئ، كما قلت آنفاً، يُجبَر على صنع الرواية مع الروائي.
وكما تقتحم شخصيات دخيلة فجأة نهايات النص من دون مقدمات، تُخلَق الحوادث أيضاً بالطريقة المتسلطة نفسها، في سرد مليء بالتقنيات والتجريب، ليس تبديل ضمير الروي هو وحيدها. فالروي يتنقّل من راوٍ كلّي المعرفة، عالم بالبواطن والظواهر، إلى روي على لسان شخصية ما. هذا الانتقال السلس يجعل القارئ لا يلاحظه. يبدو ذلك مثلاً حين يتبدل الروي من لسان الشاعر قدري الباشا إلى الروي على لسان رغداء، وهذا ما يجعل تشظي الحكاية يزداد ويزداد، وهي تُروى بألسنة مختلفة، من زوايا مختلفة، وبآراء مختلفة أيضاً.
يكرّس الحوار المتشظي ضمن السرد هذه المسألة أيضاً، مسألة التشظي. حوارات عقيمة تدور في أنحاء الرواية، كلٌّ يغنّي على ليلاه فيها، كل شخصية بشرنقتها الخاصة لا يهمّها أحد أو شيء خارجها. هي، فقط هي. رئيس المنطقة يهمّه كتابة خطابه، العمة يهمّها صديقتها العاهرة مدام سوزان، رغداء يهمها ما ستصبح عليه ومن ستتزوج، قدري الباشا يهمه بريستيجه، ورفيق السكري يهمه تسويق رواياته، وهلم. فيما يناوشنا كقراء، وعلى طول الرواية، السلمون الإيرلندي، تيمة الرواية الأساسية، باعتباره السلمون المخدوع، وهي صفة قد تنطبق على أي منا! ونحن، إذ نكتشف الخديعة، خديعتنا، نكون كالسلمون الذي يستغل الإيرلنديون تعلقه بنهره الأول وغواية التمرد التي تسكنه، حيث يعشق التشظي على الصخور وهو يسبح عكس التيار، فيخلقون له أنهراً وشلالات صناعية كي يعتقد أنه بالفعل يعاكس التيار. كأن خليل الرز يريد أن يخبرنا أننا كلنا في هذا الوطن أسماك سلمون مخدوعة، نعتقد أننا نخلق ما يحقق معنى لحياتنا، وأننا نواجه التيار ونعاكسه، فيما نحن محض أسماك كهذا السلمون الإيرلندي. أسماك السلمون تلك ستتشظى على هيئة شخصيات تحاول أن تؤرخ لفترة من حياة سوريا، لا تحكمها إلا الأشباح: أشباح "الأخوان المسلمين"، أشباح السلطة، وأشباح أصحاب الإيديولوجيات.
- الجمركي رزق الله إسحق، الرجل الذي يدعوك إلى نسيانه، هو إحدى تلك الشخصيات. رزق الله، المهمل المنسي الذي هو كاتب كل الخطب الرسمية في الأعياد الرسمية للمسؤولين الرسميين. قدري باشا، الشاعر المزيف واليائس، أو الذي يفتعل اليأس، لأن اليأس مناسب للترويج في زمن الإيديولوجيات والقضايا الكبرى. تبدو رغداء أقرب إلى شخصية تشيخوف الشهيرة، حبوبة، وهي تتبدل في خياراتها الحياتية تبعاً لتغير رجالها واهتماماتهم. تكتشف أنها تريد أن تكون شاعرة حين تتعرف الى الشاعر قدري الباشا، ومسيحاً حين ترى الخوري الإيطالي الوسيم قادماً إلى الدير، ورسامة وروائية حين تعاشر الروائي رفيق السكري، لكنها تقرر أخيراً، وهي تهجره إلى جهة أخرى، أنها لا تريد أن تكون كذلك. تتعرض للاغتصاب ما إن تأتي إلى دمشق نافضة كل ماضيها، أو مقررة أن تنفضه وتمحوه بذلك الاغتصاب، وعبر مشهد دلالي، استسلمت رغداء للشابين المغتصبين وهما يدكّانها في كشك الهاتف في ساحة السبع بحرات قبالة البنك المركزي في الساعة الأولى بعد منتصف الليل.
أما رفيق السكري، الذي يعنى بتسويق نفسه وبعلاقاته أكثر مما يعنى بأي شيء في العالم، فهو كاتب الروايات التاريخية الذي ينتقم من المستعمر بالكتابة، وبالتالي يعيد كتابة التاريخ حسبما يرغب هو، أو حسبما ترغب نزعته القومجية الجاهزة. ذلك أن الرواية التاريخية هي الطريق الأمين لاستعادة الكرامة المسفوحة، الكرامة الوطنية والعائلية والشخصية. هذا أسهل مما تتصور: تنتقم من العثمانيين على الورق، ومن الفرنسيين وجنودهم السنغاليين. لذا، بحث رفيق السكري طويلاً عن صحة رواية أذيعت عن قفة مليئة بأعضاء الجنود الفرنسيين المقطوعة، بُعثت إلى أحد مخافر الدرك في مدينة حلب في زمن المجاهدين.
بعد أربع روايات هي: "سولاويسي" 1994، "يوم آخر" 1995، "وسواس الهواء" 1997، "غيمة بيضاء في شباك الجدة" 1998، إضافة إلى مسرحية "اثنان" 1996، يحاول خليل الرز في هذه الرواية الأخيرة أن يؤرخ لمجموعة شخصيات متنافرة ولمجموعة حوادث متنافرة، في بلاد كلها متنافرة. وأعتقد أني استطيع استحضار ما قاله أمبرتو ايكو في أحد اللقاءات معه من أن هناك فئة من القراء تبتغي مغامرة أدبية أكثر اجتهاداً. وإلا كيف يحصل الكثير من الروائيين المعاصرين على قوتهم؟ لا أعرف إن كان خليل الرز حصل كروائي على قوته، وما المقصود بالقوة أصلاً في عالم الرواية، لكني أستطيع القول إن كتابته لا تنتمي البتة إلى عالم اللغة السهلة، ولا تعترف بقارئ كسول جاهز للتلقي فحسب، بل سيكون قرّاؤه بالتأكيد مغامرين أكثر اجتهاداً من غيرهم وأكثر رغبة بالتجريب والخلق.
روزا ياسين حسن
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد