عن رحيل أنسي الحاج
أنسي الحاج... لن يفسد الذهب، لن تذبل الوردة
سيكون صعباً علينا ان نستقبل الغد وفي بالنا أن أنسي الحاج قد غاب. سيكون صعباً علينا أن نصدق انه فعلاً فارقنا، سنفكر أنه هذه المرة أيضاً مكر بنا، وابتعد. طالما ابتعد أنسي الحاج الذي لم يكن مثابراً البتة، طالما دخل إلى حجرته واختفى فيها، طالما غاب في مكتبه، أنسي الذي لم يكن منضبطاً ولا نظامياً ولا مداوماً ولا محترفاً، الذي كان هاوياً كبيراً ومغامراً صرفاً وقلقاً وعصابياً ومشدوداً باستمرار كالوتر، ما كان في استطاعة شيء أن يحبسه أو ان يلزمه بالوقوف أو ان يسجنه في موقف أو عادة أو تقليد أو بداية. طالما نفض يديه من أي شيء، فكرة كان أو موقفاً أو حرفة أو مجالاً أو حيزاً. مثقفاً كبيراً كان لكن بإيمان شعبي، ارستقراطي مترفع ممشوق، إنما بشغب حقيقي وتخط دائم ولنفسه أولاً، غاضب لكن شغوف، عصابي لكن حنون، متمرد بإلفته، سلبي بسمو، وحيد لكن بين جميع الذين جعلوه وحيداً، فردي بقلب شغوف، شاعر مضاد ولكن نحو البراءة، وما وراء البراءة. عجن اللغة لكن بيدي طفل، هدم الهيكل لكن بغصن وريشة، عبس في وجه الجميع لكن بلطف زائد، كان دونكيشوت ممزوجاً بالمسيح، قديسا في أهاب خاطئ، عفريتا يلعب الشر ويتلاعب به، نبيلاً إلى حد العبث، ساخراً بكرم بلا حدود.
لم يكن أنسي مجمع المتناقضات كما قد يخطر لقارئ أن يحسب. لم يكن متناقضاً في الأساس، لم يكن حتى مزدوجاً. كان شاعراً في نص كما كان شاعراً في شخص. لو مثل الشعر شخصاً لكان أنسي، لو شئنا ان نجعل منه نموذجاً لقلنا هذا هو الشاعر، لكأن أنسي كان يحتاط لذلك، يريد للشاعر ان يسكنه، ألا يفارقه. كانت له طلة شاعر، أحرى بي أن أقول جمال شاعر، ترفع لا يصل إلى الصلف، طيبة لا تصل إلى البساطة. فتوة لا يجري عليها العمر، رشاقة وشباب حفظهما حتى السبعينيات، هذه الطلة كانت تقول وتفكر وتتصرف بما يلائمها وما يتسق معها، ما كان يمكن أن تند من أنسي حركة أو لفتة ليس فيها شعر، يكتب شعراً لكن حركة يده شعر وابتسامته شعر ولفتته شعر، وهذا الشعر يتزايد كلما تقدم في العمر، وكلما مرت العواصف الأولى وأمطرت ياسمينا، كلما لان حطب الغضب وتبدل إلى ريحان، وكلما تحول المزاج المشدود إلى لطف واعتذار وأريحية، وكلما تحول الشعر إلى كرم وكلما التمعت العينان بذكاء طافح بالدراية والفهم.
ما كان أنسي يتيح للشعر أن يغلب الإنسان. لقد جعل منه إنساناً قبل كل شيء، لكأننا ندفن الشعر كلما دفنا شاعراً كأنسي، لكأننا نفقد الشعر كلما فقدنا شخصاً مثله. لأنسي مع الشعر حكاية هي تماماً حكايته مع الحياة، لم يقدس أنسي شيئاً ولا حتى الشعر. لم يكن الشعر عنده أعلى من الحياة، ولا مختلفاً عنها. لم يكن الشعر تأليها لأسلوب أو لغة ولم يكن في وسع أنسي ان يرابط عند أسلوب أو لغة. لم يكن يستطيع أن يمنح نفسه لجملة أو إيقاع، ان يتعبد لجملة أو إيقاع. كان الشعر مغامرته وهي مغامرة لا تطيق الرتابة ولا تطيق الامتثال ولا تطيق الانضباط ولا المداومة. كل مجموعة لأنسي هي معركة، كل مجموعة له انقلاب على نفسه وعلى شعره، كل مجموعة هي امتحان جديد وهي اختبار واسع، لا نصدق ان شاعر "لن" و"الرأس المقطوع" هو ذاته شاعر "ماضي الأيام الآتية" و"ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"، لا نصدق أن شاعر هذين الأخيرين هو شاعر "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" و"الوليمة"، كان أنسي جواب شعر والشعر بالنسبة له قفزة تلو قفزة، كان أنسي يهدم بيديه ما سبق له أن عمّره وبناه. يخون نصوصه نصا بعد نص. يرفع نصبا وما ان يكتمل حتى يلقيه جانباً. يغادر الأشياء في عزها وفي ذروتها، لا يطيق أن يعود إلى عبارة وإلى كلام صنعهما، في الذروة كان يغيب وفي الذروة كان يترك. هكذا فارق الشعر نفسه وهو في عزه، هجر الشعر لأنه لم يعد في عصبه وجسده، لأنه بات حرفة بعد أن كان شغفاً، لأنه صار صنعة بعد أن كان مغامرة.
أما أنسي الذي كان في صداقته أميراً، والذي لم يغادر إلا بعد ان تمتم اسماء أصدقائه وحياهم بها فسيبقى. لطالما حضر وهو غائب وكم كان غيابه مفعماً.
عباس بيضون- السفير
أنسي الحاج.. الرائد، الخلاق، المتمرد
أسطورة
لم يكن الشعر قبل أنسي الحاج شعراً، فكيف سيكون بعد رحيله، لم تكن قصيدة النثر قد ترطّبت بعد بدم الشاعر فكيف ستورق مجدداً، كيف ستستمرّ تلك الجذوة المتقدة التي بدا أنه قابض عليها في حنجرته والتي كان سيموت إن لم يبقها (على حد تعبير شوقي أبي شقرا) لظى وألسنة لهب، كان الشعر (بل والكتابة برمتها) مرهوناً بأكمله في قوارير زجاجية لا رائحة تفوح من دمه النقي ولا ملمس لعصفه، لغة معقمة، مكرورة، خارجة للتو من موازين الصيارفة وعباءات الكهنة، لغة ترتدي أقنعة خلف أقنعة خلف أقنعة يكاد لا يظهر وجهها إلا ليُغطى بالوعظ، بالرغم من وجود شعراء معه وخلفه يشاركونه النظرة المغايرة إلا أنهم كانوا لا يزالون أسرى (الغرض الشعري) أمناء للمبنى والمعنى، فقهاء لا أكثر، ثم حصل أنسي الحاج....
في بيانه الصادم في مقدمة "لن" جلد الأرض بحزامه وقال، قال ما شكّل بياناً أولياً يصلح برنامج عمل لمنظمة ثورية تعمل على انقلاب أكثر مما هو مقدمة لكتاب شعري، بيان غاضب يصلح كوجهة نظر عامة لحداثة منشودة ومرتجاة، في اللغة وفي الفكر وفي النظر بعامة إلى الحياة كيف ينبغي لها أن تكون، قال إن اللغة كائن حي يسقم ويعتلّ وينمو وقد يموت، قال إن الفوضى أجمل من الترتيب وإن الخلاص بالشعر وبالحب وبحب الشعر وشعر الحب، قال إن العالم تنقصه أنوثة والأديان ينقصها حب، وقال إن سرطان الزيف يغشي المجتمع العربي.
لا حاجة إلى الأبطال ليكتب عنهم أنسي الحاج، لا حاجة إلى المنتصرين أيضاً، إذ إن المنتصر يُهزم لحظة انتصاره، يكتب عن عاشق خائب وجذل بخيبته مثلما هو جذل بوصاله، وعن الذين يسقطون من البرج ويرون في اللحظة عينها جمال العالم، رأى الشعر في مكان آخر، بعيداً عن ضجيج العقائد وصراخ الشعارات، رآه في قرية المهزومين والحالمين ومتسولي الشفقة، وضع على رأسه تاج الشوك وسيّره في أزقة متربة، كان قدّيس كلمة وراهب حرف، تعلم بالطريقة الأصعب كيف يخلّص قصيدته من الجاهز ويشحنها بالذهب السائل.
كان شاعراً من طينة أخرى، شاعراً قادماً من توتر لغوي وفكري وليس من عصاب عقائدي، ترك الجميع يتلهون بمعارك جانبية وجلس يدخّن مبتسماً، عارفاً أن الحقيقة ابنة التأمل البارد، ابنة النظر إلى الماوراء، ابنة العزلة والانفراد لا الجموع والصراخ، تركهم يتخبطون في تعريف المعرّف، في تبرير المبررّ وجلس ليكتب، نقل أنتونان أرتو فقال: إنه يسيطر علي، لا أستطيع الفكاك من هذا السرطان، قابل جاك برفير فأرهقه التفكير في القصيدة، حاور سلفادور دالي فأخذ يضحك، أنسي الحاج لا يُتعبك كثيراً في الحصول على معنى من كتابته، لكنه يرغمك على النظر بعمق، شاعر تؤلمه الضحالة ويجرحه التسطيح فيجبرك أن تنزع تلك الغشاوة عن عينيك لتجول في ما فكّر فيه عنك وأعطاك إياه، مجاناً، لتسعد.
أنسي الحاج الآخر، الذي أتعبه مبكراً التصادم مع الزيف والتسليع، مع كهنة المبادئ ومدرّسي المشاعر، استقر طويلا في خواتمه كأنه يصفي حساباً مراً مع اللغة والقيم والأديان، ختم باكراً تمرده وصخب احتجاجه وكتب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" كتب الحب كعاشق مكلوم وجائع، كتب المسيح كقديس أحمر، تصالح باكراً مع من يفترض أن يثور عليهم وظنّ بالكتابة سبيلا إلى احتمال قسوة العالم، كأنه قسم العالم إلى حكمة نافعة - بالمعنى الاستهلاكي - فكرهها وحكمة مجانية لا غاية لها إلا الغوص في الجمال، فغفا في حضن شجرتها.
كل النساء يشتهين أن يكنّ امرأته المكتوبة، يكتب عن امرأة تبيع الزهر في حانة لكحوليين فتصبح حلم الجميع ونروح نبحث عنها بشغف، يخفي بمهارة شياطين رأسه ويروضها، امرأته من شهوة ومعرفة، لن تقبض على صورتها حتى تتفلّت من صورة أخرى أدق وأكثر براءة وشهوانية، امرأة تستطيع أن تغادر جنتك لأجلها غير آسف، يكتب عن المرأة فيجعل ألطف شخص فينا، مقيتاً فائض الذكورة، يكتب خالقته وخائنها، يكتب عن امرأة يكاتبها وتكاتبه، يكتب عن والدته وأخته وعشيقته وابنته، يكتب نساءه بالتبر فننوح لضعفنا، يهدي: مغلوبك ِ، فنرضخ.
كنت حتى وقت قريب خلا أظنه أسطورة لا أكثر، رجل لا يحتاج إلى أن يشعر مثلنا، أن تنتابه المشاعر الاعتيادية، أن يضطر أن يجادل ويماحك ويصحّح ويعترف، حتى عندما كان يكتب عن خيبة أمل ما كان يجعلك تراها كتجربة روحية محضة، ساهم في ذلك ترفعه عن الضجيج الإعلامي وقلة ظهوره، لكن ربما الكتابة الصحافية أرغمته على الخوض في الراهن والحالي، أرغمته على الخوض في السياسة وهو من ترفع عن وُحولها طويلا، ألم يقل: قلمي ذهب أرفض أن يضيع في القتال، كأنه يعيش من دون بشر، من دون أبناء وبلا جيران، يعيش مع ناس رأسه، مع أبنائه الذين خلقهم من حدس وتلمّس في العتمة فأعادوا خلقه من حبر.
قاد أنسي الحاج الشعر من ذهب رأسه إلى حيث لن تجدي، بعد الآن، أية محاولة لحبسه، قاده إلى مأزق الحرية المتجدد وغير المعرّف، وضع نفسه ـ وأي شاعر آخر ـ على الحافة حيث ينبغي له أن يعيش، على حد النصل، حيث يتباهى بموته الوشيك ونجاته الوشيكة.
"الخلق الشعري الصافي سيتعطّل أمره في هذا الجو العاصف": يقول، الخلق الشعري الصافي أي الشعر النقي الذي لا غاية له إلا النشوة، الذي يرفرف حولنا بجناح الخفة ودقة الإصابة، الذي يحيط بهالة رأسه والذي رآه هو وجعلنا نراه، إلى الأبد.
"أيها الشاعر/ أيها المعدن النفيس/ إنها الحياة التي في ذهب رأسك".
محمد دريوس-السفير
ذلك الزمن المغلّف بالحلم والضوء
ذلك الزمن المغلّف بالحلم والضوءأيام الطَيش، لم نكن طائشين، كنا نحبُّ الشعر. أيام الطَيش من زمان، كنا مختلفين بالنسبة إلى ذلك الوقت، بأفكارنا وأحلامنا وتطلعاتنا، كنا نحبُّ الشعر والشعراء، الأدب والأدباء، السياسة والفكر الجديد. كنا نحلُم. أيام الطيش. في أول مشوارنا مع الحياة كان بيت والديّ مشرعاً للجميع وكانت ديك المحدي، هذه التلة الجميلة المطلّة على البحر من جهة، وعلى صنين من الجهة الأخرى، كانت تستقبل السياسيين والمفكرين والمنظرين والشعراء والكتاب من لبنان ومن فلسطين وسوريا والعراق... وكان الباب مفتوحاً للجميع هناك على التلة المشرعة على الضوء والهواء والأفكار.
هناك في بيتنا رأيته لأول مرّة: شاب مُضيء. شاب نحيل شفاف ذو شعر طويل ناعم، شكله مختلف، سكوته لافت، وصوته خفيض هامس. شمعي البشرة واللون مختلف المشية. مختلف الضحكة الخاطفة. خجول. لم يكن مرتاحاً بثيابه الرسمية ولا مع نفسه ولا مع غيره. لكن ذلك كان خياره منذ البداية!
أنسي الحاج، عرفني بنفسه عندما استقبلته كما أستقبل الجميع من الأصدقاء الوافدين دائماً وبحرية وراحة تامة الى بيتنا.
أما الباقون من الشعراء، فكنت أَعرفهم جميعاً قبله: محمد الماغوط وأَدونيس، خالدة السعيد يوسف الخال، شوقي أبو شقرا... ثم لاحقاً، ومن بيت أدونيس حيث انطلق خميس شعر في ديك المحدي أيضاً، سمعت وتعرفت إلى نازك الملائكة وليلى بعلبكي وبدر شاكر السيَّاب.
أحببته كما تحب مراهقة شاباً مختلفاً ولا تعلم لماذا. شاب شاعر أديب صحافي معروف في ذلك الحين، ورغم حداثة سنه، رغم شبابه. لا شك في أنّ عبقريته كانت مبكرة. عرفته مع الكثير من الشعراء والأدباء لكنه هو الذي سكن مخيلتي. أحببتُ شِعره وخجله وابتسامته العابرة السريعة.
أنسي الحاج. الآن وبعد خمسين عاماً أظن أني أحببتك من النظرة الأولى. ولم أكن أعرف. وهو أحبني ولا أعرف إذا كان قد عرف. لم نكن نفكر في هذا كله، كنا نعيش حالة مختلفة من الوجود السوريالي.
في ذلك الوقت، كنت قد تخرجت من «كلية البنات الأهلية»، ولم أكن قد ذهبت الى لندن للاختصاص. كل ذلك حصل قبل أن أذهب الى لندن وقبل الانقلاب. في ذلك الوقت القصير، كنت أذهب إلى بيروت لأراه في الجريدة أو نذهب إلى ناديا تويني لنزورها قبل أن نذهب إلى المسرح بسيارة أجرة إلى ديك المحدي. لم أكن أعرف أنه لم يكن يريد أن أذهب وحدي بالليل إلى البيت، ولم أكن أعرف أنه معي خصيصاً كي لا أبقى وحدي، ذلك الوقت لم نكن طائشين أبداً، كنا مختلفين. ذلك الوقت كان مغلفاً بالحلم والضوء والحب. ذلك الوقت كان مغلفاً بالأَرق والسهر والمغامرة من نوع آخر.
زمن الطيش كان مليئاً بالآمال والأفكار والشعر والشخصيات المختلفة. ثم كان «لن» كتابه الذي ضجت به الأوساط الثقافية. وعرفت في ما بعد، بعد عشرات السنين أنه كان من وحيي ومن وحي الصنوبرات في ديك المحدي. وفي ديك المحدي، كنت أسمعهم يلقون الشعر في بيت أدونيس، فأسمع وأنبهر بهم وبجمالهم. لكن الشاب النحيل جداً، الجميل كان أحدثهم في شعره. وجاء «لن» ليثبت ذلك.
وبعد الزيارات إلى الجريدة في آخر سوق الطويلة، والمقاهي والجلسات في الجبل، سافرت إلى لندن إلى «الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية»، فكان سعيداً بجرأتي، وكان يكتب لي وعني ويتابعني ويعلم القراء أين أصبحت وماذا أفعل.
ثم كان الانقلاب وكنت أول سنة في لندن، وانقطعت عن أهلي وعن الجميع. لكن أُنسي كان يوصل إليّ الأخبار والرسائل (التي لسوء الحظ نهبت مع كل ما نهب في بيتنا).
لم يتركني وحيدة. تابعني كل حياتي بقلمه ومحبته. لما عدت من لندن وكان والدي أسد الأشقر في السجن، كان أُنسي قد بدأ بنشر مقالاته الأسبوعية تحت اسم «سبع بولس حميدان». وكان الناس ينتظرون الملحق كي يقرأوا مقالة «سبع بولس حميدان» ولم يكن أحد يعرف هويته الحقيقية، إلا أُنسي. كان الناس ينتظرون ملحق «النهار» كي يقرأوا مقالاته تحت اسم «سبع بولس حميدان». ثمَ جاء دور المسرح. وبدأنا بمسرحية «الآنسة جولي» لأوغست ستريندبرغ، وكنت وروجيه عساف نود أن نخرج هذا العمل. فاقتبسها أُنسي ونفضها وغيّرها حتى أصبحت عصرية.
وكانت، والحقُ يقال، من أجمل المسرحيات. وكان أيضاً هو المتفرج الدائم. فإذا كانوا عشرة متفرجين، يكون الاول، واذا كانوا عشرين، يكون الاول. فكان دائماً في الطليعة يدعم المسرح. وكنت كل ليلة في «مسرح بيروت» أَنظر من وراء «البرداية» كي أتأكد أنه هناك. فأطمئن.
واستمررنا في مسرحنا. واستمر هو في دعمه لنا ولغيرنا، فاقتبس وعرّب وأعاد كتابة المسرحيات اليونانية وشكسبير. بلغته التي لا تضاهى وحداثته المعهودة، جدد نفس المسرح باللغة العربية.
عندما أعود الى تلك السنوات المضيئة بحضوره، أذكره في الجريدة وفي المسرح ومع الشعراء ومع الكتاب. كان مالئ الدنيا وشاغلها. أُنسي الحاج أيها الصديق المقنَّع بالمحبة والشغف. أيها الفارس الشاعر الجميل. أحببتك وأُحبك، ولم أَبُحْ ولم تَبُحْ حتى مرّت كل هذه السنين. وضحكنا عدّة مرات على حالتنا، حالة البوح وعدَمِه. ولم نَبُحْ. أُنسي الحاج أنت الحافة. أنت حافة اللغة وحافة الحياة، تقف كأنك تريد أن تهوي في فضاءات أنت فقط تعرفها. وحافة الشعر التي ما زلت تدفعها حتى حافة أخرى وأخرى وأخرى
أيها الأَمير أكتب لك هذا البوح كي تقرأني.
إسهاماته في المسرح
بالرغم من غياب ترجمات أنسي الحاج المسرحيّة عن متناول القرّاء، إلا أن هذا لا يخفي إسهامه في نضوج المحترف المسرحي اللبناني خلال الستينيات، عبر ترجمات حديثة ولامعة لعدد من المسرحيات العالمية. وأبرز هذه الترجمات هي «كوميديا الأغلاط» لشكسبير، وترجمته المهمّة لمسرحية «الملك يموت» لأوجين يونسكو. كذلك عرّب «العادلون» لألبير كامو، و«القاعدة والاستثناء» لبريشت، و«رومولوس الكبير» لدورنمان و«الآنسة جوليا» لسترندبرغ. وتعاون على صعيد الترجمة مع بعض الفرق المسرحية اللبنانية مثل «بعلبك»، ومنير أبو دبس، وبرج فازليان، وشكيب خوري، وروجيه عساف، ونضال الاشقر. أما قصائده، فقد شكّلت بدورها مادّة لبعض المخرجين المسرحيين، كما فعل رضوان حمزة عام 2010، حين نقل ملحمته الشعرية «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» إلى عرض أدائي راقص، والراحل يعقوب الشدراوي الذي إقتبس بعض قصائده في مسرحيته «اعرب ما يلي».
نضال الأشقر- الأخبار
رحيل المفاجأة الايجابية
ما رأيكما لو انضمّ انسي الحاج الى هذه المغامرة؟
السؤال كان لزياد الرحباني. لم يكن جوزيف سماحة قد استقال من «السفير» بعد. كان البحث تجاوز دائرة الفريق الاساسي المفترض ان يكون معنا. لكن، زياد، الذي انضم الينا بطريقة توحي كأنه كان في اجازة، تحدّث امامنا عن شيء من أسرار الرحابنة. كان شديد المباشرة وهو يشير الى انسي الحاج، الشاعر والاديب، لا أنسي الصحافي. لم أكن، يومها، أساجل في ما يقوله جوزيف بأمر من هذا النوع. فقط اهتممت لارى اية معايير سيلجأ الى استخدامها في الجواب على سؤال زياد. لكن جوزيف، قال سريعاً: لنجلس معه، نخبره عن مشروعنا، ثم نسمع رأيه، وبعدها نقدر واياه على اتخاذ القرار.
في جلسة مسائية قرب منزله في ساسين، قابلنا أنسي بضحكة لا تشبه الصورة النمطية التي كانت تسكن العقل والقلب معاً. كان، بالنسبة لي، خطأ شائعاً. لم يكن مهماً، بالنسبة لي، ما الذي يفعله في نهاراته ولياليه. بل كان يؤرّقني كيف لرجل عجن نفسه مع «النهار» ان يكون معنا في تجربة ومغامرة، احد اهدافها تعرية مدرسة الصحافة التقليدية في لبنان، وعلى رأسها «النهار».
خلال اقل من ساعة، شرح انسي رأيه في أمور كثيرة تهمّنا. قال رأيه في جوزيف. كان الامر بمثابة الصدمة. قال له: أنت اهم كاتب مقالة يومية في عالمنا العربي. سأله بشغف: من اين لك القدرة على التجديد كل يوم؟ من اين لك القدرة على مفاجأة القارئ كل يوم؟
هرب جوزيف، كعادته، وسأل انسي رأيه في الصحافة اللبنانية والعربية اليوم. وفي دقائق سريعة. اظهر انسي اعجابه بمن كان جوزيف يرى فيهم مستقبل الصحافة اللبنانية. قال له: ما رأيك في جريدة تتجاهل الخبر اليومي الذي يُفرض علينا باسم المناصب والمواقع والوكالات؟ رد انسي: هل تجرؤون على فعل ذلك؟ هل سيقبل من يموّلكم ان تتجاهلوه، لا ان تحافظوا على مصالحه، هل يتحمّل منكم ألا تنشروا اخباره واستقبالاته وصوره؟
لم تنته الجلسة من دون نقاش سياسي مباشر. وجد انسي طريقته في الحديث عن موقعه مما يجري اليوم في لبنان والعالم العربي والعالم. روى لنا قصة اخراجه، لا خروجه، من «النهار» عام 2003. قال بحرقة وقساوة: كيف لي ان اقبل تبرير جريمة اميركا في العراق، ولأجل من؟ لكن حرقته الاكبر، في انه لم يكن يتصور انه سيتعذب كثيراً قبل ان يجد منبراً ينشر فيه اسباب تركه «النهار»؟
حسم جوزيف الامر سريعاً، وقال له كمن سبق ان عرض عليه التعاون وسمع قبولاً منه: هل ستكتب؟
ضحك انسي، وهو يشرح تعبه من هذا السؤال. وانه لا يعرف ان كان هناك من اشياء ستحفّزه على الكتابة. لكنه اضاف: لدي مشروعي «خواتم – 3» وهو قيد الانجاز. سأله جوزيف ان كان بالامكان نشره على حلقات في «الاخبار». وافق انسي فورا. وقال: ربما، لا اعلم، ربما اكتب.
في طريق العودة الى المنزل، قال جوزيف لزياد: أنسي مفاجأة ايجابية، وسيضيف كثيرا لـ «الاخبار».
■ ■ ■
لم يكن انسي مرتاحاً كثيراً لوضع «الاخبار» في العامين الاخيرين. زادت ملاحظاته على التحرير. كان قلقاً من تراجع منسوب النقد. كان هاجسه حماية الهامش. وكان ألمه كبيراً مما يجري في البلاد وحولها. قال لي مراراً: لم يعد في البلاد من يحظى بالاحترام. وفي المنطقة ترانا نضيع بين استبداديين وبين ثوار فاشلين بلا اخلاق. وما اخشاه على لبنان، ليس مزيدا من تسلط السارقين على الحكم فيه، او حتى على الناس، بل ان ينجح هؤلاء في سرقة ما تبقى من هواء الحرية.
قبل اشهر قليلة. تلقى انسي عرضاً للكتابة في جريدة تموّلها قطر. لم يتحدث عن الامر الا بعدما اجابهم. جاء الى المكتب على عادته في المساء. وكأنه كان يريد ان يسمع كثيرون موقفه. اختار لحظة وجود عدد من الزملاء، وقال على طريقته الساخرة : قلت لهم، دعوني في جريدة الممانعة الشيعية، بدل العمل في جريدة الثورة الوهابية!
أنسي صار يتذكر الله والمسيح والعذراء. كان قاسياً في سخريته من كل شيء. من الاحزاب والاديان والسلطات والمعارضات والاحتلالات والمقاومات. ومن قهر العالم الغني على تخلف الفقراء. وكان كثير الاهتمام بعائلته الصغيرة. صار يتحدث عنها اكثر بكثير من السابق. كأنه لم يعد يجد غيرها الى جانبه، او لم يعد غيرها ما يعنيه في هذه الحياة. هو لم يرغب يوما في التحدث عن مرضه. وكان سخطه على الطبيب اكثر من سخطه على الداء نفسه. وعندما اراد له الطبيب التفلّت من وصفته، رفض انسي الاكل والشراب.
في الجريدة، كما في مقهى البناء، كما في لياليه، وفي جمعاته، ظل انسي يترك المكان الاكثر دفئا للمرأة. لاي انثى حق اقتحامه في اي وقت. كان يشعر بقدرة هائلة على جذب النساء صوبه. صوب ما يقوله، او يحكيه، او ينصح به، لكنه كان يعرف السر: كان يحث المرأة، مراهقة او ناضجة، زوجة او أمّاً او متفلّتة من العائلة، كان يحثهن على التمرد، على مساكنة الحرية في كل شيء. على الاهتمام بأجسادهن، وبأعمالهن، وبثقافتهن، وعلى التدرب يوميا لقهر سلطة الرجل. كانت المرأة المشتهاة، هي الاكثر قربا من قلبه وعقله.
■ ■ ■
رحل انسي الحاج، الاسم الكبير لرجل عاش بساطة الحياة حتى لحظاته الاخيرة. رغب برحيل هادئ، صامت، بلا ضجيج كما كانت ايامه. وكانت حيرتي معه، وهو المستعد لكل شقاوة ولكل ما هو مختلف، في ان اتجرأ على مطالبته بمراجعة مواد، كتبت عنه بصفة الراحل. من كان يصدق ان انسي، يكتب قبل موته، مقدمة ملفّ يعد في رثائه!
إبراهيم الأمين- الأخبار
عن تلك «العشبة الهوجاء»…
«ولن أكون بينكم
لأن ريشةً صغيرةً من عصفورٍ
في اللطيف الربيع
ستكلّل رأسي
وشجر البرد سيحويني
وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل»
(«ماذا صنعت بالذهب/ ماذا فعلت بالوردة»، ١٩٧٠)
في عام ٢٠٠٧ أطفأ أنسي الحاج شمعته السبعين، وكان قد تربّع على عرش صفحته الأخيرة في «الأخبار»، حاملاً إلى جريدة جوزف سماحة هذا النفَس الخاص، الأبديّ التمرّد، الذي كنّا نشتهيه ونطلبه ونعتزّ به. كانت الأسطورة قد ترجّلت في الطابق السادس من مبنى الكونكورد في بيروت، وصارت جزءاً من مشهدنا اليومي.
الذين لم يعرفوه من الزملاء إلا في النص، لم يتخلّصوا من انبهارهم رغم علاقة التماس اليوميّة… والذين كانوا قد ارتادوه فوق الساحة الثقافيّة والأدبيّة والإعلاميّة، بحكم علاقات المهنة أو الصداقة أو الشعر، كان أيضاً ينتابهم شعور الرهبة نفسه، ويعيشون كل مساء حالة استثنائيّة في جوار تاريخ استثنائيّ من الشعر والتمرّد وإعادة اختراع اللغة والكلمات. أحد شركاء «شعر» وساحر «الملحق الثقافي» لـ«النهار» في بيروت العصر الذهبي، وحلم الحداثة والعروبة والتغيير. غاب مراراً في الصمت، وكانت تعيده الصحافة إلينا، كما أعاده رياض الريّس كاتباً، أو أعادت الاحتفاء به ووضع شعره في متناول الأجيال «دار الجديد» مع رشا الأمير ولقمان سليم.
خلال سنوات «الأخبار» ـــ وقد أعطته صدارة لا تليق بأحد مثله، بعد قطيعة مريرة مع حكاية عمره في «النهار» ختمها بـ«رسالة استقالة إلى القارئ» ـــ كان أنسي نفسه دائماً. لا يشبه معلّماً ولا أسطورة، بل شاعراًًًٍ عارياٍ، ملعوناً، لا يعرف المهادنة. كان الشعراء العرب من أصدقائنا يحجّون إلى «الأخبار» لمقابلته. كان نفسه: مراهقاً، عاشقاً، ساخراً، ونقديّاً، وغاوياً، رقيقاً وقاسياً، ومخالفاً لأشكال الإجماع، ومزعجاً في بعض الأحيان لكثيرين منّا، زملاء وقرّاء، في مسائل خلافيّة تتسع لها «الأخبار» بحضنها الخصب في الفكر والسياسة والاجتماع. «مزعج» كما يليق بشاعر كبير، أخذ معاصريه على حين غرّة، ووقف دائماً، منذ بيانه الشعريّ الأوّل، حيث لا ينتظره نظام القيم السائدة.
في ذلك اليوم من ٢٠٠٧، نشرنا ملفّاً خاصاً عن أنسي الحاج، وأخفيناه عنه ليتفاجأ به في اليوم التالي مثل جميع القرّاء. كان يصعب على كاتب هذه السطور أن يقبل فكرة بلوغ الشاعر منعطف السبعين، فعبّر عن ذلك الرفض في كلمته الافتتاحيّة. غير معقول! أنسي الحاج عمره عشرون عاماً. أو بالأحرى توقّف عند الثالثة والعشرين، عام نشر باكورته «لن» التي زلزلت المشهد الشعري في بيروت قبل أن تتردد تأثيراتها في ديار العرب إلى اليوم. لم ترق لعبتنا الأسلوبيّة تلك لأنسي يومذاك، فعاد إليها في «خواتمه» السبت التالي، ليؤكّد على الملأ أنّه شديد الاعتزاز ببلوغه السبعين. عشرون، سبعون، ما الفرق؟ إنّها لعبة أرقام. واليوم نعرف أكثر من أي وقت أننا أصحاب حظ استثنائي، وفرصة تاريخيّة، لأننا عايشنا لسنوات روح التمرّد، عند ذلك الرؤيوي الذي كان قد بشّرنا من أوّل الطريق، في بيانه الشهير، بالأزمنة الآتية: «الشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظاً». ما زالت كلمته راهنة، ترنّ في أسماعنا كأنّها كتبت للعرب في زمن الردّة الحالي: «إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمناً بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم».
كان أنسي مع التقدّم، مع كسر القوالب، وتجاوز الحدود، وإعادة اختراع اللغة كل صباح ومساء. توقّف طويلاً عن الشعر بعد «الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع» الصادرة عشيّة الحرب الأهليّة. لكنّه حمل علاقته الشبقيّة والصداميّة باللغة في كل فقرة نحتها، حتّى مقالته الأخيرة في «الأخبار» قبل أسابيع. كان أنسي فوضويّاً حتى النخاع، من دون أن يكون يساريّاً. كان متمرّداً في اللغة والحياة، ومتمسّكاً بنظرته الخاصة إلى العالم على حواف الرجعيّة أحياناً. وهذا كان يجعل منه مبدعاً، وصحافيّاً، وشاهداً استثنائيّاً لا يقبل التصنيف، وتضيق به الخنادق، وتعتمل في أعماقه التناقضات كأبطال دوستويفسكي: بين إيمان وغواية المحظور، بين انعزاليّة وراديكاليّة، بين محافظة وتمرّد وجودي وميتافيزيقي. كل هذه التناقضات تقف وراء نصّه الفريد، يضيق به اليمين التقليدي الذي ليس بعيداً عن بيئته، وينتفض لبعض مواقفه اليسار التقدمي الذي سبق الجميع إلى تبنيه والاحتفاء به.
لكن كل تلك التمييزات تسقط عند أبواب القصيدة، هنا تأخذنا قوّة خفيّة إلى حيث شيّد بودلير جنّته الفريدة. هنا تذوب التناقضات ولا يعود من معنى إلا للرؤيا، إلا للكلمات وقد تصفّت وتطهّرت من جاذبيّة اللغة القديمة. من خلال «قصيدة النثر»، ذلك الطوطم السحري الذي ما زال يقاتل من أجل شرعيّته كما لاحظ في وثيقته المقدّمة إلى «مؤتمر قصيدة النثر» («برنامج أنيس المقدسي للآداب» في الجامعة الأميركية في بيروت عام ٢٠٠٦): «أنا قصيدةَ النثر الصغيرة الدخيلة، عشبةٌ هوجاء لم يزرعها بستانيّ القصر ولا ربّة المنزل، بل طلعتْ من بركان أسود هو رحم الرفض. وأنا العشبة الهوجاء مهما اقتلعوني سأعود أنبت، ومهما شذّبوني لن أدخل حديقة الطاعة، وسأظل عطاءً ورفضاً، جليسةً أنيسة وضيفاً ثقيلاً، لأني ولدتُ من التمرد، والتمرد، التمرد الفردي الأدبي والأخلاقي، على عكس الثورة، لا يستكين ولا يستقيل حين يصل الى السلطة»… ستظل بيننا وبين أنسي تلك العشبة الهوجاء. أنسي في تاريخنا الثقافي المعاصر… هو بلا شكّ تلك العشبة الهوجاء…
بيار أبي صعب- الأخبار
أعدّ رحيله كأنه يشفق علينا
مساء الجمعة الفائت، كنت غارقة مع إميل منعم ويوسف عبدلكي بين صور أنسي الحاج، عندما انتفض إميل فجأة ونظر باتجاه باب المكتب، ليجد مروان طحطح واقفاً عنده. قال لي إميل: «نقّزني مروان... دعسة قدميه ذكّرتني بأنسي، اعتقدت أنه جاء».
كلّنا كان يحفظ دعسة قدمي أنسي، وكلّنا كان سـ«ينقز» لو أنه زار الجريدة مساء الجمعة. فقد كان الجميع ينتظر الخبر المؤسف بين لحظة وأخرى. لم يكن الأمر مفاجئاً، هو الذي حضّرنا لتلقيه منذ الوعكة الصحية الأولى التي ألمّت به قبل 7 أشهر. وها هو عبدلكي يبحث عن صور لأنسي ليعدّ غلافاً له، فيما أكّد لي إميل أنّ حالة صديقه الحميم تتدهور، وكانت راجانا حمية قد نقلت إلينا صباح ذلك اليوم إجابة ابنته ندى عن صحته «مش قادرة طمّنكم». العبارة نفسها كرّرتها أول من أمس، عندما جاءت إلى الجريدة. «ما في شي بطمّن، أنا معكم الآن، وخائفة أن أعود إلى البيت فلا أجده»، قالت.
لحقت بها، إلى مكتب والدها، الذي فتحته وراحت تجمع ما فيه من أغراض خاصة. سألتها: «ألن يتحسّن؟ أنا أجيب الجميع بالقول إنه سيفعل». هزّت رأسها مستسلمة. شرحت: «إنه سرطان... إنه الـ metastase».
كانت المرة الأولى، منذ دخل أنسي الحاج إلى المستشفى في آب (أغسطس) الفائت التي أعرف فيها أنه مصاب بالسرطان. لم يقل لي إن هذا مرضه، رغم أننا تحدّثنا كثيراً عن الأمر. كان يحكي بكلّ عفوية تفاصيل عن حياته مع المرض، لن يحبّ أن نذكرها هنا. يضحك وهو يذكر كم بات يخاف من ابنه لويس، الذي يدقّق في عدد حبات الأدوية «بطلت أعرف إذا أنا بيّو أو هو بيي». وما إن يرى رقم ندى على هاتفه، حتى يسارع إلى الردّ كي لا تقلق. يقول كلّ شيء، ولا يقول اسم المرض. ربما لم يكن يعرف، وربما لم يكن يرغب بأن يخيفنا، وهو يلاحظ أننا خائفون عليه فعلاً. مرة واحدة، مازح محمد نزّال، الذي طلب من رضوان مرتضى أن يلتقط له صورة معه، فقال له ضاحكاً: «بدّك تتصوّر معي؟ مفكّرني رح موت». ارتبك محمد، وقال له: «سلامة قلبك، انشالله أنا قبلك». ابتسم له قائلاً: «أنت طيّب يا محمّد»، ثم تأهّب لالتقاط الصورة.
بعد هذه الحادثة، كتب في نصّه «بلا منارة»، مقطعاً تحت عنوان «حزين»، جاء فيه: «بدل أن تدفع لي «الأخبار» راتباً، يجب أن أدفع لها». هذه العبارة كانت قد وردت في النصّ الجميل الذي كتبه إثر وفاة جوزف سماحة «موت كموتك قتل». خفت، دخلت إلى مكتبه مؤنّبة: «لا يحق لك أن تستسلم، وأنت الذي تحرّضنا على الحياة طيلة الوقت».
أرجع كرسيّه إلى الوراء، وقال: «انظري إليّ». كان قد كبر كثيراً خلال أسابيع، تغيّر لون وجهه، ونقص وزنه. قلت له: «سوف تتحسّن، أنا واثقة». منذ هذا اليوم، اتفقت مع محمد أن لا نتركه وحيداً، وخصوصاً بعدما غادر الجريدة عدد من الذين كان يحبّهم. إميل منعم، وزينب مرعي وشهيرة سلّوم. وقبلهم خالد صاغية، ثم ربى أبو عمو، ورشا أبو زكي. صرنا نحرص على أن لا يبقى وحيداً. إذا خرجت باكراً، أوصي محمد بأن لا يغادر قبل أن يجالسه. ولا ننسحب إلا إذا أعطانا إشارة إلى أنّه مشغول في الكتابة، أو دخل زميل آخر، أو رنّ هاتفه معلناً قدوم زوّار من خارج الجريدة.
عندما غاب في المرة الأخيرة، لم يعد يردّ على هاتفه. «انغلق» مطبّقاً ما كتبه في النص نفسه: «في آخرته يجب أن ينغلق الكائن، لا لأنّه لم يعد لديه ما يقول، بل لأنّ أحداً لن يعير كلامه أيّ اهتمام». لم يكن محقاً، وهو يعرف أن الآلاف ينتظرون منه كلمة. لكنه كان حزيناً ومستسلماً. احترمنا صمته، وصرنا نكتفي بصوت سميح، الممرّض الذي لازمه في منزله، يجيبنا باقتضاب عن صحته التي لا تتحسّن.
أمس، تعرّفنا إلى سميح وجهاً لوجه. كان جالساً يتقبّل العزاء في منزل أنسي في الأشرفية. هو الذي شهد على الرحيل. يكتفي بالقول إن أنسي توفي في تمام الساعة الواحدة وعشر دقائق. هل قال شيئاً؟ يرفض الإجابة «أفضّل الاحتفاظ باللحظات الأخيرة لنفسي». يقول له نعيم، شقيق أنسي: «أخبرني أنا»، فيرفض.
بكلّ بساطة يمكنك أن تحزر أن نعيم هو الشقيق، بسبب الشبه الكبير بينهما. «أشبهه بالشكل فقط، ليتني كنت مثله» يقول. تؤكد له نساء العائلة أنه مثله، فيما تلوم قريبته نفسها لأنها تأخرت أمس عن زيارة أنسي، فلم تودّعه، فتخفّف ابنته عنها. ندى، الجميلة، كانت هي من يواسي الذين لم يستطيعوا البقاء معه في اللحظات الأخيرة «لا. لا تزعلوا. كنتم ستتألمون لألمه». تحاول الابنة التي تحوّلت إلى والدة في الأشهر الأخيرة، أن تتماسك. فتروح تحكي كيف تلقّت الخبر، متفاجئة من وسائل الإعلام التي نشرته قبل أن تصل هي إلى بيت والدها «قبل أن أترك البيت اتصلت بشقيقي لويس أسأله عن وضعه، حاول أن يؤجل إبلاغي إلى أن أصل، ثم قال لي. المفاجأة كانت أني سمعت الخبر عبر الإذاعة في السيارة، ولم أكن قد وصلت بعد». تلتفت إلى مفارقة حزينة «أمي أيضاً توفيت يوم ثلاثاء، وكانت الساعة تقترب من الواحدة والربع».
روح أنسي الحاج انتقلت أمس إلى السماء، قال أفراد عائلته. روح أنسي الحاج تحلّق فوقنا الآن، وتذكّرنا بآخر خلاصات عمره، كما قال لي مرة، وكان قد كتبها في نصّ: «بعد هذا العمر، فهمت أهمية أن نتحلّى بالشفقة. الشفقة بوصفها الحبّ الكامل».
يصلّى على راحة نفس الشاعر في «كنيسة مار يوسف ـ الحكمة» (الأشرفية) عند الواحدة من بعد ظهر غد الخميس، قبل أن يوارى في الثرى في مدافن العائلة في بلدته قيتولي - قضاء جزين. وتقبل التعازي يومي الجمعة والسبت من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر إلى السادسة مساءً في صالون الكنيسة.
مهى زراقط
استراح من شجَاره المدهش مع اللغة
حين كتب أنسي الحاج (1937 ـ 2014) باكورته «لَنْ» (1960)، كان الحرف الذي في العنوان يعني نوعاً من الامتناع أو الرغبة في التوقف عن الاستمرار في كتابة ما يُكتب. وكان في ذلك نوع من الازدراء للجملة العربية التقليدية. كان «لن» حرفاً واحداً ومتفرّداً وصادماً، وكان الحرف الواحد الوحيد المنقطع عما يليه تأويلاً للرفض ومديحاً له، تأويلاً للتلعثم والركاكة ومديحاً لهما أيضاً.
«إنني حقاً متلعثمٌ»، كتب الشاعر في ذلك الديوان الأول الذي سيصبح منذ إصداره بداية رسمية لقصيدة النثر العربية التي ستُكتب لاحقاً بطرق وأساليب وحساسيات مختلفة عما بشّر به أنسي الحاج، بل إن الشاعر الراحل محمد الماغوط كان قد سبقه بعام واحد إلى كتابة قصيدة نثر مختلفة في باكورته «حزن في ضوء القمر» (1959)، لكن ريادة قصيدة النثر التصقت بـ «لن»، ولعل المقدمة النقدية الشهيرة التي استُهلّ بها الديوان هي التي عززت هذا الانطباع عن ريادة أنسي وديوانه الأول. ما يهمنا في لحظة غيابه أن نسجّل أن الشعر الذي كتبه في «لن» لم يذهب بعيداً عن منبعه، وعن دفقته الأولى، وأن النبرة التي أراد بها تحطيم الجملة العربية الكاملة ظلت تتحرك في الموضع ذاته. في الموضع الذي أُريد للقصيدة أن تكون طفلة جميلة ومتلعثمة وشقية وغريبة عما حولها فيه.
لقد حفر أنسي الحاج في المكان الذي بدأ منه، وفي الجوار المحيط بهذا المكان. لم يذهب أبعد من ذلك في «الرأس المقطوع» (1963) الذي هو استمرار آخر لـ «لن» على أي حال، ولم يذهب أبعد حتى في دواوينه التالية، وكذلك في «خواتم» التي كتب آخر نصوصه تحت عنوانها. لقد ظلت تجربة أنسي محكومة بطفولة شعره، وصعقة ولادته الأولى. صحيحٌ أن جملته استراحت أحياناً من توترها وهجوميتها وجحيميتها، وتخففت أحياناً أخرى من شِجَارها المدهش مع اللغة ومع المخيلة، إلا أن ذلك لم يكن تصالحاً كاملاً ونهائياً بين الشاعر وجملته نفسها. لقد ظلت روحية «لن» حاضرة حتى في القصائد التي حظيت ببنية سويّة ومنسابة في دواوينه التالية. كان «لن» نبتاً شيطانياً، وكان مكتوباً لصاحبه أن يظل ممسوساً بتلك الروحية التي كُتبت ضدّ اللغة وضد البلاغة وضد الجماليات التقليدية. كان «لن» مجازفةً بمعاني الكلمات في القواميس، وتمريغاً لها في أرض وعرة. لعب أنسي الحاج بمصير الكلمات، وتعامل مع قصيدة النثر التي بشّر بها وكتبها كأنها مستشفى للأمراض والانحرافات. كان شيئاً مباغتاً ومُجفِّلاً أن نقرأ سطوراً مثل: «نُكحتُ من بؤبؤيّ وعلى الورقة كتبتُ بياضاً»، و«عوض أن تُقبل من أمكَ تزوّجها»، و«أُسرطنُ العافية»، ولكن ذلك كان يترافق مع صور أقل عصفاً وأكثر عذوبة مثل «لآكلكِ عشاقكِ أنضجوكِ»، و«غداً تقولون: أعماهُ شعرها الطويل»، و«أنا جائزةٌ باسمكِ».
خصوصية أنسي الحاج بدأت بالرغبة في كسر الفصاحة وإفساد الجملة واللعب بذائقة القارئ. صفاتٌ مثل هذه كانت تُفسد عليه هو أيضاً لذة إكمال الجملة وإشباع المعنى، وهو ما نجده في أغلب نصوص ديوانه الأول ومنها قصيدة «سِفر التكوين والهجر، حيث يبدأ السطر التالي قبل أن يكتمل السطر الذي قبله: «أراكِ وفمكِ الحرّ، بعيدة/ يمرّ دهرٌ عميقٌ ثم أرفع فمكِ/ وتمرّ هنيهةٌ/ مقيّدٌ في صرّة لا أزيح الباب عن قلبي/ شفتايَ شفة/ أيها الموطن الزّفر، إنك معها/ أمرّ قبل جرعها/ أتناول الحبر لأعميك/ مصطفى كي أسبح فيّ وحدي/ دهر أبوابك لدي/ يا رجلكِ ترتع في نظراتي النواحة، رجلك عند رجلي كاحتضان/ يا رأسكِ (متى؟) على رأسي/ يا هربي يُردُّ إليّ، ينام عليّ/ أرقبكِ، والضجرُ عارياً».
سيتوقف هذا القطع والاقتضاب والحذف والتلعثم في «ماضي الأيام الآتية» (1965) و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» (1970)، ولكن المذاقات التي حملها «لن» ستظل تنبعث من جملته التي بات يُسمح لها بالاسترسال وإكمال المعنى، ولكن لا يُسمح لها بأن تنجو من حيرتها وترددها وعصبها الداخلي. هكذا، رحنا نقرأ صوراً مثل: «أنا شعوبٌ من العشاق»، و«جميلة كمعصية»، و«تجلسين على حافة السرير، بالكِ في الريح وقدماكِ في العاصفة»، و«كانت لي أيام ولم يكن لي عمر»، وهكذا، راح بعض الغناء والإنشاد الخفيف يظهر هنا وهناك، وراح الشاعر يدعونا إلى الباحة الخلفية للغته ومعجمه لكي يُرينا هشاشته ورقته ولطفه بعدما أوهمنا مروره العاصف بضراوته وجبروته وقوته، ولذلك كتب في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (1975)«أنا هو الشيطان أقدّم نفسي/ غلبتني الرِّقة». نعم غلبت الرقة صاحب اللغة الشرسة والعارية من ماضيها، وراح في أواخر أيامه يمتدح تجارب إيقاعية وتفعيلية، ويستحسن ما فيها من شعر صافٍ وإن كان منجزاً بما ازدراه ورفضه طوال حياته. تصالح صاحب «الوليمة» مع الزمن ومع العمر ومع المرض، وكانت له إطلالات فلسفية على فكرة الموت، وتأملات آسية في فكرة الغياب. تأملات ظل يخلطها مع مقاطع شديدة النثرية ولكنها أشعر من الشعر. أنسي الحاج في النهاية كان لاعباً مدهشاً ومجرّباً كبيراً، وكانت قوة نصوصه متأتية من طزاجتها وتوهجها وقدرتها على نقل عدواها بطلاقة إلى القارئ، ولعل «خواتم» التي دأب على كتابتها كل سبت في «الأخبار» منذ صدورها، وقبل ذلك في مجلة «الناقد» كانت تأويلاتٍ واضحة وصافية لتلك الروح الصاخبة والفظّة التي بدأ بها، حيث كانت الكتابة، كما لدى مجايليه من الرواد الآخرين، محكومة بمهمات جليلة على جبهة التجريب والتجديد، وكان الصفاء الشعري مؤجلاً إلى المستقبل. في «خواتم»، فتح أنسي أرشيف خياله للقارئ، وكانت تأملاته وخلاصاته الشخصية أشبه بكنوز متواصلة يعثر عليها أثناء الكتابة ويُريها للآخرين في اللحظة ذاتها، والغريب والمدهش، أن تلك الكتابة المنتظمة أسبوعياً لم تصنع له قالباً مملاً أو تكراراً مضجراً، بل كان قادراً على تحويل أي فكرة صغيرة وعابرة إلى خلاصة ثاقبة ومبهرة. لم يكن اصطياد الشعر واستعاراته مقصوداً دوماً في «خواتم»، بل كانت فيها عصارة العيش والحب والشغف والقراءة والتنفس والتأمل وصداقة الكلمات. بعضنا كان ينتظر «خواتم» لتصنع نهاره ومزاجه، وبعضنا كان يقرأها ليظل على اتصال مع الكلمة الحية والحرة والنزقة والمتطيرة والفائرة.
كان أنسي الحاج يشبه لبنان، ويشبه صورة لبنان كجغرافيا للتجدد واللهو والخصوبة والأسطورة. نتكلم هنا عن معجم لبناني وحساسية لبنانية موجودة في الطبيعة والشعر والصحافة والغناء والمزاج. نتكلم عن مختبر الحداثة والتنوير والعصر الذهبي لبيروت. أنسي الحاج هو ابن تلك الصورة، وأحد صانعيها الكبار. وبرحيله اليوم، تخسر المدينة جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي للخيال والحداثة والتحرر.
حسين بن حمزة
البطل السلبي بين الهالة والظلال
لأكثر من أربعين عاماً خلت، وكنتُ بعدها في السابعة عشرة، أول سنة لي بعد خروجي من الدير، تلقيتُ أول هدية من فتاة صديقة بمناسبة إبلالي من المرض، كتاب شعر لمحمود درويش. ظللت أقرأ في الكتاب طيلة عام 1972 كأنه النيزك الذي سقط على أرض جرداء فنقبها وجعل عاليها واطيها، وأخرج الخصوبة الكامنة منها إلى الوجود. قلت هذا هو الشعر.
وبدأت أقرض الشعر على غراره. وحين تسنى لي أن أهبط إلى المدينة أواخر 1974، وقد صرتُ في كلية التربية، تسنى لي أن أقرأ عصام محفوظ، شعراً لا مسرحاً. ثمّ كرّت المعارف، فأمكنني، بفضل كتابات نقدية لي ألحّت عليّ بفعل دعاوى العدالة والتجديد ومعارضة الاستبداد اللاحق بزملاء قدامى، الكتابة في جريدة «النهار»، في بريد القراء، على ما أظنّ، وسمعتُ أنّ ثمة شعراء ولكني لم أجد الوقت ملائماً للدخول في علاقة. وبعد الحرب الأهلية وإصرار الشعر عليّ، على طريقة الشعراء الصوفيين أمثال سمير نصري، كتبتُ في جريدة «الأنوار»، وما لبثتُ أن غادرتُ هذا السبيل إلى كتابة الشعر المنفلت من الوزن متأثراً ببول شاوول، الذي كان له الفضل في تصحيح بعض القصائد التي كنت آتيه بها، وهو في «الهورس شو»، وأنا بين الجامعة وميدان الزراعة. أنسي الحاج صار لي، في ما بعد، من حيث شخصه المادي، إنساناً ذا اقتدار، وهذا ربما لم يشجعني على لقائه، فأنا ميال _عرفت نفسي متأخراً _ إلى المستضعفين. ومع ذلك، ظلّ نصّ أنسي الحاج الأصيل الأكبر بين نصوص قصيدة النثر. مكانته لا تكمن في أنه هزّ عرش الأوزان ولا أنه أبطل وحده الشعر الحرّ، إنما فضلُه، برأيي، في الصيغ والتراكيب العربية التي تلاعب فيها بالموروث وخربط الذائقة التقليدية، وبشحنات من المشاعر قوية موصولة تكاد تبدو لي مقطوعة عن أبعادها اللاهوتية. كانت شحنات شعر أنسي الحاج، لدى قراءتها، منتصف السبعينات تحدياً لنا، بل لي أنا الخارج من تراث الشعر الفلسطني العربي الصاخب ولكن على إيقاع، ولم أكن قد عرفت تراثاً شعرياً آخر كان يشق سبيله مع شعراء مثل عباس بيضون، ومن مناخ آخر ذاهب في اللغة الى محاكاة اليوميات، لكن بثقل فلسفي وتصاوير وتأثرات من السينما والمسرح والترجمة. أنسي ظلّ هنالك، أي أثره، في البدايات التي رسمت أعياد قصيدة النثر، مع فرسانها الأوائل، شوقي أبي شقرا الذي كان يكوكبنا، نحن الفقراء الشعراء حول كيسه وصفحته الثقافية، ويلقّمنا عن قرب. أما أنسي، فكان يلقّم عن بعد. وحتى لا يُفهم الأمر بحرفيته، كان أثر أنسي عليّ من بُعد، أثر اللوحة التكعيبية في من شاء الاستزادة من خطوطها والاستيحاء منها ومن غيرها، في آن واحد. ولربما ذلك الموقف البورجوازي، بل المتعالي، من العلاقات، الذي وقفه أنسي، أو هذا ما خيّل اليّ، كان بمثابة ردّ المعجب إلى النصوص؛ فكأني به يقول: «إذهبوا إلى نصوصي، ولاقوها، واحتفوا بها، أما أنا، فمحض ظلّ لها!» هناك تلقى «المرأة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وتلقى عواصف «لن» وبروق «الرأس المقطوع» حتى آخر المطاف. لم أكن تابعاً ولا جندياً تحت راية أحد من الشعراء الكبار مثل أنسي _حماني التعليم من هذا المجد_ وانما كنتُ معجباً بأنسي، وبشوقي وبول شاوول وفؤاد رفقة وسمير نصري وعباس بيضون، الذين احتفيت بهم في حياتهم، كاحتفائي بأدونيس أستاذي في كلية التربية، وخليل حاوي، ويوسف الخال، اللذين لم أعرفهما وعوّضت عن جهلي بهما بالإضاءة على أعمالهما. أما أنسي الحاج، فسوف يبقى موقعه، في قصيدة النثر، محفوظاً ومدروساً وموضع تقدير وتبيين تبياناً للأجيال الشعرية الجديدة التي غطّت الساحة وكادت أن تغطّي على الإنجازات في القصيدة (قصيدة النثر) الصائرة منارات يُستضاء بها، ولا يجوز التعتيم عليها، حرصاً على الشعر وذُراه، ومنها أنسي.
ما كان يُشاع عن أنسي أنه ذو نزعة الى التسيّد على الآخرين لم أكن لأسوّغه أو أدخل في تحليله، لأني لم أشأ مرة أن أكون في عهدة أحد الشعراء الكبار، أو تحت رعايته، لكن تلك الصورة، في شعر أنسي تكاد تكون نقيضاً من ذلك، أو ما استخلصته من شعره، منذ مجلة «شعر» وحتى آخر «خواتمه» المبتهلة في جريدة «الأخبار». إنها صورة البطل السلبي المضحّى به في سبيل الحبّ أو الصرخة أو الانتفاضة ضدّ التقليد والركون والبلادة وضدّ ضدِّ الحبّ. البطل السلبي هو إنسان العصر، المقيم في المدينة وليس قابلاً بشاعتها، والمنخرط في حراك الشعوب وهو الكائن الفرد فيها، والموافق على إيمانات الشعوب والكاره تعصّبها حتى حدود الكفر ولا كفر. هكذا كان أنسي الحاج، صانع أسطورته في شعره، ورافع نبرته حيال اللغة، مع حساب دقيق للجمالية في خط الرجعة. متمرّداً وصبياً حتى في شيخوخته، مع أناقة دهرية. هكذا كان أنسي الحاج.
أنطوان أبو زيد- الأخبار
لغة تعبر الأجيال بلا حواجز
لم أكن أعرف أنسي الحاج قبل أن يساهم في الكتابة الأسبوعيّة في «الأخبار». كانت مقالته تنتشر بسرعة وتُقرأ بعناية مع أنه لم يكن يجول في وسائل التواصل الاجتماعي كي يدرك حجم مريديه خصوصاً من النساء. أنسي الحاج من الكتّاب القلائل الذين عبروا الأجيال في تأثيرهم الأدبي القوي.
وعلاقتي مع الشعر العربي الحديث والحديث جداً علاقة مرتبكة (وغير إيجابيّة) تعكس خلفيّة سياسيّة عادت تجربة مجلّة «شعر» لأسباب سياسيّة وأدبيّة. كما أن مساهمة أنسي في تجربة جريدة «النهار» مثّلت لي عنواناً غير مريح مع أنه في تجربة «الملحق» (كان هو وحده مسؤولاً عن نجاحها وفي سن جدّ مبكّرة) خرج عن نطاق الحدود السياسيّة التي رسمها غسان تويني. وفيما كان تويني وغيره في الجريدة يمثّلون سياسات دول الخليج العربي ومعاداة الثوريّة والثورة الفلسطينيّة، كان هو يكتب في مديح العمل الفدائي وله مرثيّة جميلة عن غيفارا بعد إغتياله البشع من قبل عملاء المخابرات الأميركيّة ومن عاونهم في إصطياده.
أخبرني الزميل خالد صاغيّة في ما بعد أن أنسي لم يكن يقرأني في «الأخبار» ولتي كان يكتب فيها (وفي نفس يوم نشر مقالتي الأسبوعيّة) قبل 2008 عندما كتبتُ مقالة ضدّ جمانة حدّاد. قال إنه عندها فقط بدأ بقراءتي. وقد أصبح على ما قيل لي هو المسؤول عن تحرير وتنقيح مقالاتي عند وصولها. وفي أسبوع 7 أيّار، عندما كنتُ قد أرسلتُ (قبل أيّام من حدوثها) مقالة من سلسلة مقالات عن «اليساري السابق» إلى الجريدة، تريّث الزميل خالد صاغيّة حتى لا يظهر الأمر على أنّه تشفّ لما حدث لمكاتب «المستقبل» لكن أنسي— على ما نُقل لي— هو الذي أصرّ على ضرورة النشر، وتمّ ذلك.
لم ألتق بالراحل إلا مرّات قليلة أثناء زياراتي القليلة إلى لبنان. لكنني كنتُ أحرص على سؤاله كثيراً عن تجربته عبر السنوات لما لديه من خبرة طويلة ومعرفة. وما لفتني فيه في مكتبه في «الأخبار» أنّ باب مكتبه كان مفتوحاً دوماً وكان جد متواضع يتواصل باستمرار مع جيل جديد من الصحافيّين (وخصوصاً الصحافيّات اللواتي كان يحرص على حضورهنّ في مكتبه وعلى تشجيعهنّ). لفتني أيضاً أنّه كان سهل التعامل والتواصل على عكس الكثير من جيله من الكتّاب والصحافيّين في لبنان. وحدثته عن تجربته في «النهار» وأخبرني عنها الكثير. قال لي إنه لم يكن حتى يتفق مع سياسة والده لويس الحاج (كشف في كتابه «من مخزون الذاكرة» عن ميول كتائبيّة يمينيّة). قال إنه في سنواته الأخيرة في «النهار» كان يتلقّى مبلغاً كبيراً جداً لرئاسة تحريرها وكان عمله جد مريح من الناحية الماديّة لكنه شعر بضيق شديد من موقف جبران تويني و«النهار» من غزو العراق بالتحديد. لم يعد يستطيع أن يستمرّ، كما قال لي. حاولوا إغراءه في البقاء لكنه لم يستطع.
فاجأني بمتابتعته للأبراج التي تصيبني بالملل. أراد أن يعرف برجي فأجبته قائلاً: أتمنّى ألا تكون من هؤلاء الذين يتابعون الأبراج. فأجابني: لا، أنا أتابع الأبراج علميّاً فقط بناء على دراسات لحركات الكواكب، فضحكت في سرّي. لكنه كان سهل المعشر غير متكلّف. فوجئت عندما قرأت مقالته «حميميّة» (وهي من آخر مقالاته) عن أشخاص عرفهم عبر السنوات أنه ذكرني بالقول: «أسعد أبو خليل الفوضوي لحسن الحظّ». لم أفهم قصده ولم (ولن يتسنّى) لي سؤاله في الأمر.
لم أكن أتفق مع الكثير من كتابات الراحل. أنافق لو إدعيت العكس. كنت أشعر أنّه ينمّط في حديثه عن الطوائف وعن سلوكها وأهوائها، وكنت أتبرّم من إيمانه القطعي بفاصل بين «الرجل» وبين «المرأة» وعن صفاتهما. لكن لأنسي الحاج أثر بالغ في الثقافة اللبنانيّة التي إهتم بها كثيراً (ذهلت عندما علمت انه لم يزر مصر في حياته). لكن أهميّة الحاج تكمن في قدرته على التواصل والمخاطبة عبر أجيال، ومن دون جهد. كانت لغته تعبر من دون حواجز من أي نوع. ستكون جريدة «الأخبار» حزينة يوم السبت، كل يوم سبت. سأشتاق إلى الإستشهاد الغزير من مقالاته يوم السبت على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً من قبل نون النسوة.
أسعد أبو خليل
«خواتم»: لا مكان للرضى، لا مكان لليقين
هل كان علينا انتظار أكثر من نصف قرن لنكتب عن أنسي؟ أسماء كثيرة عبرت أرض الشعر، وهذا «العارف» يتأبّط سرابه بصمت كدأبه. لم تغيّره الحرب، أو الابتعاد عن الأضواء الحارقة، أو المعارك «الظلاميّة» التي تسعى إلى نسف الأرض بما فيها، بكلّ عابريها، إلا بما يتلاءم مع حدود ما تلقّنوه من معلّميهم الأكثر جهلاً. بقي الصامت الدائم، الذي لا يفضّل الصراخ، والذي يأبى إلا أن يغيّر الحياة والشعر والنثر بالهمس.
الهمس، وحده، هو الثابت، وكلّ ما عداه عابرٌ كالأسماء الرنّانة. هل كان أنسي الحاج يعرف أن بيانه الشهير في «لن» (1960)، لا يزال إلى اليوم يعكّر صفوّ كارهي التغيير؟ هل كان يعرف أنّ «الظلاميّين» من أهل السلطة، مثقفين وسياسيّين على حد سواء، سيتآمرون خفية لإعدام أعماله الكاملة في القاهرة قبل سنوات؟ لا نعلم حقاً درجة تعويله على «الكلمة» كسلاح بيد من تبقّى من «الروّاد» المخلصين الأوائل للتغيير، لكننا نجزم بأنّ هذا اللامبالي بالشهرة أدرك أنّ أعداء الكلمة هم أكثر من يساهمون في تقويتها.
منذ قصائده الأولى، بدا أنّ أنسي يؤسس لشيء أكبر من مجرد الاكتفاء بعضويّة هيئة تحرير في المجلة الشعريّة الأكثر شهرة، وأن هذا الشاعر «الأنقى»، سيمضي لتأسيس مشروع شعريّ (ونثريّ لاحقاً) يشبهه في الهمس الجارح. وبرغم أن شعر أنسي الحاج يستحق الكثير من الكتابة والتقويم النقديّ، إلا أنّنا نعتقد بأنّ كتابه النثريّ «خواتم» بجزءيه (1991، 1997) يستحق ضوءاً أكبر، بخاصة أنّ «أفق الكتابة الجديدة» اليوم يومئ إلى أنّ خيارات أنسي الكتابيّة كانت الأكثر صواباً بين مجايليه، وأنّ النثر هو غد القصيدة والحياة بأسرها، وأنّ المعارك الجانبيّة بين الأجيال الشعرية لن تثمر إلا العبث، وأنّ «الشذرات» هي اللغة الجديدة للجيل الذي لم يعوّل عليه أحد، جيل الفايسبوك والانتفاضات، الكاره للغة الخطابات الرنانة التي كانت ولا تزال أهم أسباب خيباتنا المتلاحقة.
يبدو «خواتم»، بتاريخ نشره الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحتواه غير الاعتيادي آنذاك، أشبه ببيان آخر لـ «سراب العارف» (الاسم المستعار الذي لجأ إليه أنسي في سنوات الحرب) الذي اعتزل الحياة العامة زمن الحرب الأهلية، بل يبدو أقرب إلى «مانيفستو» ثوريّ جديد لجيل ما بعد الحرب الباردة، وانهيار «الكبار» في السياسة والثقافة. الجيل الذي اعتاد هزائم آبائه، ومضى في طريقه الخاص ليرسم ملامح مرحلة ستأتي بعد عقدين. في «خواتم»، لن يجد القارئ قولاً فصلاً، بل سيلاحظ اتّساع موشور الحياة بوجوهها وألوانها المتعددة. سيجد أسئلة طازجة عجز عنها الشعر بكلّ مدارسه، أسئلة التحرر، الحداثة، الإيمان، الكفر، والتمرّد، كما سيجد إجابات عابرة لمسائل كانت تؤرّقه منذ سنوات. «خواتم»، الذي اعتبره البعض استراحة المحارب لصاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، أثبت أنّ هذه اللغة المتشكّكة في كلّ شيء هي أساس الكتابة القادمة. تفجّرت خلال السنوات الثلاث الماضية براكين من هذه «الكتابة المغايرة»، التي أوشكت أن تصبح هي الجنس الأدبي الأوحد، حيث بدأ «الجيل الضائع» من الكتّاب الجدد بالبوح في زمن الانتفاضات والحروب، ولا سلاح لهم سوى هذه الشذرات، وذلك الهمس. كان الكتاب (لحظة نشره، والآن أيضاً) بمثابة ردّ غير مباشر على معظم منتقدي «تقلّبات» أنسي الحاج السياسية والفكرية. «مَنْ يصنّفك يقتلك»، يقول أنسي، وتقول سطور «خواتم» العصيّة على التصنيف. سطور تحمل النثر، الشعر، التأمل، الفلسفة، بل وحتى الخربشات العجولة. وبذلك، يبدو «خواتم» أقرب إلى جيل الألفيّة الثالثة، أكثر من تلاقيه مع مجلة «شعر» ومريديها، أو حتى مع «التيار النثريّ الجديد» الذي اتجه إليه الشعراء الآخرون كمحمود درويش في «في حضرة الغياب». هاجس التحرر هو أكثر ما يمكن التقاطه في نصوص «خواتم». الهاجس المتّسم بالقلق، الشك، والتردّد. لا مكان للتعصّب في «خواتم» أنسي، لا مكان لليقين، لا مكان للرضى، لذا لا مكان لـ «امتلاك الحقيقة». وهذا الادعاء بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، كان أهم سمات «الثورجيّين» الجدد، الذين عاودوا الهجوم على أنسي الحاج في العامين الأخيرين. وبرغم أنّ العين المدقّقة يمكنها التقاط أصداء أنسي في كتاباتهم (وصلت في حالات متفرقة إلى «تلاص» تام)، إلا أنّهم تناسوا أنّ اللغة عصيّة على التقليد، وأنّ بذور التمرّد لا تنتقل عن طريق الهواء، وأن الاكتفاء بالتنظير للحرية لا يعني ممارستها.
تناسى هؤلاء المنتقدون أنّ من كتب يوماً «الرجولة لهذا النظام [نظام القوة العسكريّة والبوليسيّة] هي نباح قائد الجنود بأوامره وامتثال الجنود للنباح. الرجولة هي الرأس الحليق من خارج ومن داخل. هي الثكنة. هي اختصار العالم إلى حدود ما يجهله المتعصّب الأحمق، وما زاد كان للحذف والقتل»، لا يمكن أن يكون معادياً للتحرر، أو مناصراً لدكتاتورية ما، دينيّة كانت أم «علمانيّة». وبذا، كان تعريف الحرية بحد ذاته، هو الفارق الأهم بين الطرفين المتمايزين والمتناقضين.
هذا التحرر هو الشاغل الأساسي لصاحب «خواتم»، الذي تابع كتابة الجزء الثالث في «الأخبار». ومن يتابع «خواتم-3»، فسيلاحظ أن أنسي مشغول بإعادة تعريف ما اعتُبر لسنوات بمثابة أمر واقع؛ يبدأ بما ظنّ الآخرون أنه القول الفاصل، والنهاية، و«الحقيقة». يبدأ بانتقاد بيانه القديم في مجموعته «لن»، ولغته القديمة، وشعره القديم، محاولاً إيجاد فسحة لـ «الجديد»، لغة وأفقاً. ليس الشكل هو وحده ما يجدّد أفق الكتابة، وليس العمر وحده ما يصنّف الأجيال، بل هو طزاجة الأفكار وتمردها. «إلى أي مدى أكون «حراً» ما دمت مراعياً، وأنا أكتب، جانب القراء؟» يتساءل أنسي عام 1997، ليبدأ تطبيق هذه «الثورة» في الكتابة في «خواتمه» الجديدة. ليس القراء كُلاً واحداً موحّد الصفات والأمزجة؛ فالتماثل سيعيدنا إلى الثكنة وعالمها المتشابه والمعادي بالضرورة للفن، وكلّ ما هو «بدعة». هذا القارئ المتفرّد هو الهدف الذي يسعى إليه أنسي، وتسعى إليه شذرات «خواتم-3».
«الحرب لا تُبكيني. أغنية صغيرة قد تبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج»، يقول محمد الماغوط. هذا البكاء «الآخر» هو الأداة التي ستغيّر النفوس التي اعتادت تصنيف الضحايا، وتصنيف الحزن، وتصنيف الحياة. وكما هي الأغاني «مشاع»، يحاول أنسي الحاج في «خواتمه» إعادة «المشاعيّة» إلى الكتابة والتحرر، إلى أجيال اعتادت ذلك الانفصال الحاد بين «نخبة» عارفة ومتلقّين جاهلين، بين الحاكم والمحكوم، بين من يبيع الحرية ومن يشتري ما يناسبه منها. «خواتم» أنسي الحاج هي هديّة قرن كامل لقرن آخر، بكلّ لحظات جموحه، تحرّره، قلقه، شكّه، ومحبّته.
يزن الحاج
3 تفاحات وسكّين!
في المطار، أخرجتُ الجريدةَ من جيبي، مزقةَ الصفحة الأخيرة، كأنها رسالة في زجاجة، الزجاجة قذفها بحر بيروت لي؛ كان نصُّه الأخّاذ: «عيون». منذ «لن»، وأنا مسحورٌ برنّة الكلمات في القلب. لطالما أردتُ السير على خطاه! هذه المرة، كتبتُ على حوافّ الجريدة، ما أملاه عليّ من «العيون»، اكتشفتُ، مجدداً، «ما هو أكثر» في العلاقة اليومية بالمرأة والعالم والحياة.
دائماً، بعد استنفاد كل وصف وتحليل ممكنين، يوجد «ما هو أكثر»، وقليلون، أحياناً، يحاولون اكتشافه، فيعصى، وما يبقى ممكناً هو الشرارة بين الإزميل والحجر. عاش أنسي الحاج عمره يسعى للاقتراب ممّا هو أكثر من المرئي والمسموع والملموس، فغدا هو نفسه الأكثر العصيّ البعيد، سوى أنه، في ذلك البرق الغامض، يحرّضنا على اكتشاف الدهشة، ويغرينا بكتابة تقتفي أثره. كتبتُ النص التالي، تحت التأثير المباشر لأنسي الحاج، وغالبتُ خجلي حين أرسلته إليه. الآن، وقد رحل وذاب في غيمة لا تُدرك، شيء ما يدفعني إلى نشر ما هو ممكن من ذلك النصّ المفتون بكلماته؛ أنا المشغول بالصراعات حتى الأذنين، وجدتني على رصيف الحاج، عاشقاً. الشاعر ليس من يكتب شعراً _ ولو عظيماً _ بل هو الذي يدلنا على منابع الشعر في الحياة اليومية، مَن يغوينا بالتسلل إلى مغارة الأشواق المهجورة في ذواتنا المتجهّمة الخائفة الصلدة.
3 تفاحات وسكين
عيناكِ فضيحة؛ مَن يلمحهما تسقط في قلبه ثلاث تفّاحات وسكين، تفتنه شهوةٌ مبهمةٌ، شهوةٌ لامرأةٍ مختزنةٍ في حلم أو ذكرى، يرتبك، ثم ينتبه ويستدرك.
وتنتبهين.. دائماً تنتهبين، وتكشفين المخبوء. يصعب أن تغادر عيناكِ وجدانَ الرائي، يُفاجَأ، في الذكرى، بأنه يعرف عنكِ الكثير. تتساوى في حجم معرفتك، النظرةُ والعمرُ الطويل؛ لا تفاصيل، وإنما اكتشافٌ مذهلٌ يلمع كالبرق. البسطاء أكثر يصدّقون البروقَ أكثر، يتقدمون، وأحياناً يفوزون!
الأكثر عُمقاً يشكّكون، يتفادون، حتى حينما تبرق الرؤيا في ابتسامة الوجه كالسحر، يتفادون، تغدو الشهوةُ إعجاباً، والفجورُ تهذيباً، والعلاقةُ الممكنة وقوفاً عند منحنى!..
■ ■ ■
العشّاق الوجلون كُثرٌ، لكنهم ضروريون من أجلكِ، من أجل ملكة النحل!
■ ■ ■
أنا معذّبٌ لأنني أحبك سبع مراتٍ؛
كالبسطاء أنا عاشقٌ فائزٌ، لكنني، كفيلسوف عاثرٌ، أفكّر في معنى امتلاكك! وكالوجلين لا أتيقّنُ من بروقك، وأقفُ على الحدود، وكالخائفين، أهرب من تسلّط العينين البغيتين، وكالأطفال، استحضر وجهكِ الضحوك، وكشريكٍ، أتواطأ، وكزوج متملّك، أغار!
لستُ واحداً، بل سبعة معاً؛
لذلك، تواصلين معي أيتها الملولة،
لذلك، يكون مذاقُكِ مختلفاً في كل مرة،
لذلك، أتوجس من اللقاء بعينيك مباشرةً، هل تلاحظين؟
■ ■ ■
كلّ جسدٍ يستنفدُ حضوره حتى آخره، إلا جسدُك يظلّ حاضراً. هذه الحقيقة العلمية أنا مكتشفها اللحوح، أفكّر، بلا مخرج، عن السر. السر في العيون، أعرف، لكنني أخاف من المرايا ومن الوقائع، أخاف من أحلام الرجال بين الكحل والبريق. آخذ جسدك، كالفوز بامرأةٍ عابرة، وحين أكون .. أستدعي ابتسامتك، وأهربُ من سطوةِ عينيكِ، وأفرُّ لأفكّر بكل ذلك، أخشى على ما أعددتْه من رجولة لتمنحك البهجة، ثم أعانقكِ كطفل.
■ ■ ■
هدأتي الوحيدة القصيرة الموجوعة الانتحارية، تحدث، فقط، حينكِ، وحين تمضين...
■ ■ ■
أتحاشى عينيك!
■ ■ ■
أفكّر بالرداء الأكثر سفوراً عن روحك، ويسمح للرّائي باقتناص عبقرية النحت في إيقاع الحركة بالذات، ثم أراك تنظرين .. لن يبلغ جسدك المنحوت للاشتهاء والصلاة معاً، مبلغَ العينين.
■ ■ ■
لا تنظري نحوي:
هذا الحبُّ شرسٌ،
يحتاج إلى الهدوء!
ناهض حتر
أبي أنسي
لا يهم هذا أحداً. ولكن إن كان للصعوبة معنى فهو الكتابة. أقوله مرتعباً من أن لا يكون مؤلماً بما يكفي، ولا يعكس حقيقة ملامح العالم بعد أُنسي. وأجزم بأنه ناقص أكثر بكثير مما يجب أن يكونه. كان يسمّيه فرح الزوال، برهافة ستبقى هكذا إلى الأبد بلا تفسير. أهرب دوماً، كان يقول، وكنّا نصدق بسببه أن الموت يمكن أن يكون أكثر جذلاً، فقط إذا كتبه أُنسي.
أكتشف الآن معنى الخسارة: شمس تغيب وزيف المواساة. أكتب كما لو أني تلميذ وحيد في مدرسة، والسماء صبورة زرقاء، يتحتّم عليّ أن أملأها بالكلمات، في وداع الأستاذ الأخير. أنظر إلى هذا البياض الكبير أمامي وأراه مبتسماً. كل شيء أمامي الآن، أراه بوضوح تام، يمرّ كشريط لا تقصه ذاكرة، ولا تستطيع يد مسّ شيء منه. مكتبه الذي تتناثر حوله كتبُ وقصص. خط يده ينظف أخطائي الوافرة في لغةٍ أخذ معه مفاتيحها. سيره سير الهارب في ساحة ساسين إلى منزله القريب، قرب المقاهي والعابرين الذين يحبّونه ولا يعرفونه. شغفه برينيه شار والإله البعيد والشِعر الذي هو روح العالم. ماض بطيء لكنه برّاق كأضواء تتلألأ من بعيد، ومياه راكدة في لوحة تعشقها العين ولا تقوى على تحريكها. أكتب، كأني أعرج على حبل طويل من الأحرف، وأكاد أتعثر بينها خائفاً من الفراغ الذي يتسع. فراغ شاسع يصل إلى أعماق القلب. فراغ بمخالب صلفة تحفر آثار الغياب، يستكين هناك، يئن قصائد ونصائح وضحكات قديمة لا تتوقف. لا أعرف من أين أبدأ، وكيف أصل إلى خاتمة، أوقن أنها غير لائقة بهذا الألم العظيم. تمرّنت على رحيل أُنسي ولدي شعور أنه تمرّن على ذلك أيضاً حتى أتقنه كما أتقن صناعة فرح الآخرين.
لست ناقداً جيداً يكتب عن فضل أُنسي الحاج على قصيدة النثر العربيّة، ولا قدرة لي الآن على تتبّع آثار سحر العبور بين نصٍ وآخر. لست ناقداً جيداً، ولا قارئاً عادياً حتى. أكتب الآن عن أبي أُنسي. علّمني الكتابة، وأخشى ما أخشاه أن يفلت مني سطر أو تسقط كلمة، فيبتلعها فراغ الرحيل. أتخيّله الآن في الكوريدور. يمشي ببطء شديد وبسرعة شديدة. كالغريب الذي يعرفه الجميع ويعرف أنه الغريب. أجرّب المواساة. أحدثه قليلاً عن الحروب والأخلاق وأعصاب النصوص. يفاجئني في غيابه كما في حضوره بنبذ المحتربين، وصرامة الوصف وسلاسة الأمل القليل المتبقي. أفكر الآن كيف أكون على مقربة منه، ويضعني في موقع للأقوياء، بينما شاركني مديح الضعفاء بسعادةٍ ونقاء. ولا أفشي سرّاً إذا قلت، براحة ضمير، إن ما قيل عنه هو الأصدق في تاريخ الأدب: أُنسي، الأنقى بيننا.
بعد كل شيء لا أدّعي معرفته أكثر من الجميع. مثل الجميع أشعر أني أقرب شخص إليه، أعرفه كثيراً ولا أعرف عنه شيئاً. ومن جملةِ ما أعرفه أنه حرّضني على الكتابة. وأوصاني بما لا يمكن نكرانه إلى الأبد، رغم أنه من أعداء الأبد. أوصاني أن أنحاز إلى الأطفال ضدّ الدبابات، وأنّ أنتظر السماء: ستمطر فراشات وعصافير وأرواح شعراء. ستمطر يا أبي، وأنا أصدّق الشِعر، مخلصاً لكآبة طويلة، تقف على أبواب الربيع، ولا تدخل. ولا أحبّ الرثاء، ويمكنني الجزم بأن أنسي الحاج لم يكن يحبّه. كان يسمّيه فرح الزوال. ولا أحبّ العاطفة التي تفيض بعد الرحيل. لكن فليسامحني إن خيّبت أمله الآن. لا طاقة لي على هذا. كل ما أعرفه عن اللغة، عن الكتابة، علّمني إياه من دون أن أفهم لماذا فعل كل ذلك. فليسامحني، إنه مسؤول عن كل هذا، وأشعر أن موته حدث ضدّي. كأن الأمر خسارة شخصيّة، وكأني أكثر المتضررين.
أحمد محسن- الأخبار
لا ثورة لا امرأة لا كلمة
يوم قرر قلب جوزف أن يحتكر حبه وأن يستأثر بتلك البسمة وأن يغدر ويغادر، كتب له عشية 25 شباط 2007 أنْ «موت كموتك قتل». على مسافة أسبوع من «جريمة» سماحة اليومية، ولمن لم تقنعه سباعيتها السنوية، قرر أنسي أن يترك لنا كل القرائن، أن يتركنا نقبض عليها في إغفاءة عينيه، وأن يتركنا، ويترك ...
مع الفارق أن «قتل» أنسي اليوم يبدو مفهوماً أكثر. منطقياً.
مبرراً ومعللاً. فسباعية العجف الفاصلة بين الجريمتين كانت كافية لإقناعه. ماذا بقي لثائر مثله، في زمن تحول الثورات إلى ظلاميات، والثوار إلى مرادفي ثيران، وأحلام التغيير إلى فرمانات تعيين... ماذا يبقى لعاشق مثله، في زمن الحب المقنن والمقونن، زمن الحب المعتقل بين شرائع الطوائف وبربريات الأديان، وزمن الحب المبتذل بين مقاصل الأحقاد وتفاهات شاشات الواقع ... وماذا يبقى لمدمن «كلمات» كالذي كانه، في عصر سبيها إلى «مواقع التواصل»، وتعهيرها بحصرية «كلام الصورة»، وتكبيلها بتعداد الحروف وقطع الرؤوس...
كم ضاق صدر أنسي بعالمنا. أو كم ضاق زمننا المجهري المقزم المأزوم بعملقته وكلمته وثورته المستدامة. أو كم ضاقت كلماته ذرعاً بفراغنا وخوائنا وعدمنا، حتى «قتل» ورحل. في آخر كتاباته، كان كمن يرهص بما هو فاعل. أكثر من مرة حاول دس الخبر لنا، بين خيبة وصدمة. بهدوئه. بروعته. بأناقة العبارة وجمالية التعبير. اعتقدنا أنه يتصالح مع الجميع. بينما كان فعلاً يودعنا، ويودعنا آخر حبه. كان يصفي حسابه مع أحلامه الخالدة. حتى لا تخجل منه أو تزعل، إن ضبطته فجأة يمشي عكسها. استعاد كل الأشخاص الذين لم يلتفت إليهم يوماً. استحضر كل الأفكار التي رذلها كل يوم. كشف مواقف في السياسة والسياسيين، ما كان ليرويها وسط الطريق. قال رأيه في الدين بوقاحة المرتدين الأتقياء الأنقياء. جعلنا بإيحاءاته نستعيد إدراكنا عداوة الطقوس مع الحرية. بؤس الإيمان الحَرفي وظلم مؤسسات بيع السماء وإيجارها. قال كل ما في قعر رفضه. كمن يستعد لمواجهة الديان، بريئاً من جرائم وكلائه الحصريين وذرائعهم باسمه. ذات يوم، قبل مدة، بدا كمن وقف قبالة جردته. اطمأن إلى تمامها. خط آخر زيح تحت صحة الحساب، وأقفل المحضر. عاد خطوات إلى الوراء، أعاد التفكير ثواني لم تطل: لا ثورة جميلة مثل امرأة، لا حب يختصر العمر مثل ثورة، لا كلمة تستحق قراءة متأنية مثل جسد أو مانيسفت. ماتت الرسولة وانتحرت الكلمات ونحرت لن بأمر جزم ماضوي ... آن أوان «القتل»، وداعاً لكل الضحايا.
أفهمك، كما كل سبت. كما كل لحظة. كما أبداً.
جان عزيز - الأخبار
بسيط ينضح علماً وجمالاً
لم تكن شخصية الأستاذ الكبير أنسي الحاج تلك الشخصية النرجسية التي تجعله يجلس في برج عاجي كمعظم زملائه في صرحي الشعر والصحافة، بل كان ذلك الإنسان البسيط الذي ينضح علماً ومعرفةً ويتمتع بلسان عذب ينطق بكل ما هو جميل، من دون أن يبخل على أي شخص بالإفادة من معينه.
عرفته منذ بداية عملنا في جريدة «الأخبار» يوم تأسست على إيقاع أصوات القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية، إذ كان حديثنا الأول عن زاويته المشهورة «خواتم 3» التي واظبتُ كل صباح يوم سبت على انتظارها لأفتتح بها مطالعاتي، وأشارك بها أصدقائي وصديقاتي في صفحات التواصل الاجتماعي. لم يكن سبر غور الشاعر رحلة مُرهقة بالنسبة الى صحافي شاب ينظر الى أستاذ كبير في الصحافة وعلم من أعلام الشعر الحديث، فقد كان الأستاذ أنسي قريباً لكل شخص منا أكثر من حبل الوريد. يناقشنا من دون تعال، ويوضح لنا بلا كلل أو ملل معلومة من هنا أو قضية تاريخية من هناك. لقد أعطانا، نحن زملاءه في «الأخبار»، اهتماماً أبوياً لم يتخذ خلاله دور الناصح أو الموجّه، بقدر ما كان يتعاطى بذهنية حوارية نقاشية استيعابية تؤكد أهميته العلمية وتواضعه في آن واحد، ولعل ميزته أنه كان إنسانياً بامتياز لا يعرف للإيديولوجيا طريقاً. لذلك كان منفتحاً على كل ما هو جميل وكل ما هو مفيد. لم يكن أنسي الحاج قبل أن أقابله شخصياً لأول مرة عام 2006 بتلك الصورة التي كوّنتها عنه سابقاً كشاعر كبير وعلم صحافي لامع يصعب الوصول اليه أو التحدّث معه، بل كان ذلك الصديق المُرهف الحس الذي يُقدّر عمل الآخر مهما صغر، ويثني عليه مشجّعاً ومحفّزاً وناقداً من دون أن يجرح. لذلك كان يتعاطى مع ما أكتبه من شعر، بجديّة كبيرة، رغم أني شخصياً لم أكن مقتنعاً بأن ما أكتبه شعراً. كان ينقّح لي كل قصيدة أكتبها ويصحّحها ويضع ملاحظاته عليها، كذلك كان يفعل مع مقالاتي التي كان لا يكتفي بقراءتها، بل كان يشرّفني بحضوره الى مكتبنا ليناقشني ببعض ما ورد فيها. كذلك كانت حاله مع كتابي «شريعة المفاسد ــ الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني» الذي فاجأني بعد أقل من أسبوع من إهدائه إياه بأنه قرأه وكتب عنه في صفحته الشهيرة في «الأخبار» كلاماً جميلاً أعطاني جرعةً من مجد.
لطالما كنت سعيداً حين يدخل الأستاذ أنسي الى مكتبنا طالباً جريدة «النهار» وجريدة «الشرق الأوسط» أو «يديعوت أحرونوت»، كما كان يصفها مازحاً، فقد كان حريصاً على متابعة معظم المقالات رغم تدهور صحته في الأشهر الأخيرة.
معمر عطوي- الأخبار
شاعر القطيعة مخترقاً الحدود
1
عندما صدر ديوان «لن» لأنسي الحاج سنة 1960، عن دار «مجلة شعر» في بيروت، أحس القارئ بصدمة مضاعفة في ذوقه الشعري. كان ذلك ــ من ناحية ما ـــ اعتيادياً في فترة الاختراقات التي عرفها الشعر العربي، منذ نهاية الأربعينيات في بغداد، ثم امتدت الشعلة إلى بيروت. صدمة مضاعفة، لأن أنسي الحاج أتى من أفق شعري يختلف جذرياً عن ذلك الذي أنشأه الشعراء المعاصرون في قصيدتهم، من حيث اللغة الشعرية وبناء القصيدة، أو من حيث الرؤية إلى الذات والعالم في آن واحد.
كانت قصيدته تنحدر من سلالة شعرية فرنسية في الأساس، بعكس النموذج الإنكليزي الذي استقاه بدر شاكر السياب من ت.س. إليوت وإديث سيتول. وأصبح، آنذاك، مشتركاً بين الشعراء التموزيين، بمن فيهم أدونيس، الذي كانت لغته الأجنبية هي الفرنسية وسط شعراء كانت لغتهم الثانية هي الإنكليزية.
شيئان جاءا مترابطين في ديوان «لن». أقصد المقدمة التي خص بها قصيدة النثر ثم قصائد الديوان. ولأنّ من الأفضل تجنب الربط بين توجه المقدمة وطبيعة القصائد، فإن المظهر الدادائي والسوريالي للقصائد كان السمة الأولى التي اكتشفها بعض الشعراء الشبان، وعدّوها نقطة انطلاقتهم في كتابة قصيدة متمردة على الثقافة الشعرية، التي كرسها الشعراء المعاصرون. أفضّل تجنب الربط بين المقدمة وقصائد الديوان بالنظر إلى أن المقدمة قراءة متسرعة لمقدمة كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الصادر عن «مكتبة نيزي» في باريس في 1959، أي قبل أشهر معدودة من صدور الديوان، مما يؤكد أن كتابة القصائد استقـت نموذجها من الشعرين الدادائي والسوريالي، قبل أن تكون مدركة لقصيدة النثر، عبر تاريخها ومنعرجاتها النظرية. ذلك ما لم يكن ممكناً لأنسي الحاج أن يتعرف إليه في فترة قصيرة.
2
ما اكتشفه بعض الشعراء الشبان في ديوان «لن» ثم في «الرأس المقطوع» (1963) و«ماضي الأيام الآتية» (1965) أو في الدواوين اللاحقة، التي أصحبت متداولة بين هؤلاء الشعراء، الآتين إلى بيروت من العراق والأردن وسوريا، أو من الشعراء الذين تعرفوا عليه في مصر، أو البلاد المتاخمة، هو ما أصبح معروفاً بـ «قصيدة النثر». ولا أعتقد أن دواوين أنسي الحاج الأولى وصلت إلى المغرب ولا إلى الجزائر حين صدورها، مثلما لم تستطع مجلة «شعر» أن تصل إلى المغرب قبل أواسط الستينيات. وهو ما يفسر أن جيلي من الشعراء المغاربة أو شعراء الجيل السابق علينا، لم يكن لهم علم بما أقدم عليه أنسي الحاج في كتابة القصيدة، بل لم تكن لهم ثقافة شعرية، بالعربية، خارج مجلة «الآداب» ومنشوراتها، بما هي تمثل المرحلة الأدبية لما بعد مجلة «الأديب»، لكن النقد العربي نفسه لم يقدم على قراءة قصيدة أنسي الحاج، التي كانت ثقافتها شبه مفقودة. ذلك ما يجعلني أقول إنّ أنسي الحاج نسج عالماً محجوباً، لا نراه من خلال الخطاب النقدي بقدر ما نتعرف إليه من خلال الأمواج المتوالية للشعراء الذين رأوا في قصيدته مستقبل تمردهم وحريتهم، بل مستقبل تمرد القصيدة العربية على بلاغتها وتحررها من القداسة التي أحاطت بها. وربما كان الفعل الشعري لأنسي الحاج يزداد، اليوم، التحاماً بالتمرد. فما نعيشه من رجات في منظورنا الشعري والثقافي، في زمن الإسلام السياسي والأصولية الدينية، يضيء أكثر ما لم نستطع أن نراه من قبل في قصيدة أنسي الحاج.
3
التقيت أنسي الحاج أول مرة في الثمانينيات في مكتب «النهار العربي والدولي» في الشانزيليزيه في باريس. كنت آنذاك مراسلاً ثقافياً للمجلة، وغالباً ما أزور مقرها خلال زياراتي لباريس. وتجدد اللقاء في التسعينيات عندما زرته في مكتبه في صحيفة «النهار» في بيروت. في كل مرة، كنا نتقاسم كلمات المودة. كنت أتساءل، من قبل، عن سبب تجنب أنسي الحاج حضور المهرجانات الشعرية أو الندوات واللقاءات. وفي لقائنا في بيروت، تبيّنْتُ الجواب. سلوك أنسي الحاج الشخصي مخلص لتمرده على كل ما يمكن أن يعرض حريته لأي مضايقة، مهما كانت. بل هو سلوك يتطابق مع سلوك شعراء التمرد الأوروبي، الذين عاشوا في قطيعة مع المواضعات الاجتماعية في الحياة الثقافية. ما كان يشغل أنسي الحاج هو ما يكتب لا سواه. وهذا جانب يتفرد به، ويرفعه إلى مرتبة معلم التمرد في الحياة الشعرية العربية. وقد مكنه هذا السلوك من ممارسة حرية لا سبيل إلى تشويهها.
لكنني، وإن كنت تعرفت متأخراً إلى شعره، فقد سعيت إلى قراءته. من أول ما قرأت ديوانه «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» الصادر سنة 1970. شيئاً فشيئاً، حصلت على الدواوين الأولى، فيما كنت حريصاً على تتبع الجديد من أعماله. وفي غمرة قراءة الدواوين، اطلعت على ما كان ينشره في مجلة «شعر»، بعدما أهداني أدونيس مشكوراً نسخة كاملة من المجلة التي كان أنسي الحاج أحد أعضائها المؤسسين. في العدد الثاني، ربيع 1957، نشر مراجعة نقدية لديوان عبد الوهاب البياتي «المجد للأطفال والزيتون»، تلتها مراجعة دواوين لشعراء آخرين في الأعداد الموالية. ولم ينشر قصائده الأولى في المجلة إلا ابتداء من العدد الخامس، شتاء 1957، بعنوان «ثلاث قصائد»، لم يعد نشرها في أي ديوان، حسب ما أعلم. ويمكن النظر إلى الأسس النظرية التي استند إليها في مراجعاته النقدية كإضاءة للقصيدة المضادة التي كان يكتبها أو يعمل على كتابتها. وأكثر هذه الأسس إثارة للجدل في الخمسينيات هي الالتزام، الذي كان البياتي من أبرز ممثليه. إنها طريقته في الإعلان عن شعريته، بجرأة هي نفسها التي كتب بها رفقاؤه وأعطت مجلة «شعر» تلك الحدة في الاختيارات الجمالية التي اخترقت بعنفها (ومعرفتها) أوهام قصيدة مؤدلجة، لا تجرؤ على نقد ذاتها.
4
شعرية أنسي الحاج اختراق لم يتنازل عن الريبة في المُجمع عليه. لا أحصر هذا الاختراق في الماضي، ما كان وتم، في الدواوين والأعمال التي بدأ الشاعر في نشرها، منذ أكثر من نصف قرن. إن زمننا الشعري، اليوم، يدلنا على أن ما أنجزه أنسي الحاج ورفقاؤه، كل واحد بطريقته الشخصية، لا يزال يقف عند نقطة اللاوصول إلى الفعل الثقافي والشعري، عبر العالم العربي. ليس هذا القول من قبيل اليأس مما تعرفه الثقافة العربية، اليوم، في ظل الانهيارات الكبرى، ولكنه استنتاج خلاصة من تاريخ القصيدة العربية المعاصرة، من الخمسينيات حتى الآن.
عدم حصر الاختراق في الماضي يعني أن لهذا الشعر طاقة متجددة، وهي تنتظر زمنها، بغير إرغام الزمن على ما لا يحتمله الزمن ذاته. ومعنى الانتظار، هنا، الانتباه اليقظ لأركان تراها القصيدة بجسد كله عيون. ذلك ما أحتفظ به من شعر أنسي الحاج، وأنا أتأمله عبر عقود من الزمن، صاحبته فيها دون أن أتقاطع معه في رؤيته الشعرية، لأنني لم أكن، في حياتي الشعرية، على وفاق مع السريالية، التي انتقدتها في «بيان الكتابة».
والأبعد من هذا كله أنّ الشعراء، الذين قرأوا شعر أنسي الحاج، واعتبروه مرشدهم إلى التمرد على بلاغة القصيدة كما على قيم الطاعة، قاموا هم الآخرون باختراقات لا تتوقف عن المفاجأة. وأعتقد أن هذا ما يساعدنا على النظر إلى تجربة فتحت حداثة الشعر العربي على التعدد، الذي هو الوشم الذي لا يُمحَى في الكلام الشعري وفيه.
5
في العدد 14 من مجلة «شعر»، خريف 1960، نشر أنسي الحاج ترجمة 11 قصيدة من شعر أنطونان أرتو مصحوبة بدراسة. يفتتح الدراسة بمقولة لرامبو (من رسالته إلى بول ديميني، 15 ايار/ مايو 1871) أقتطف منها بدايتها «أقول إنه يجب أن يكون الشاعر عرافاً... أن يجعل من نفسه عرافاً... يصبح الشاعر عرافاً عن طريق إخلال متماد، هائل، واع، بجميع الحواس، يصبح بين الجمع المريضَ الكبير، والمجرم الكبير، والملعون الكبير ـ والعالم العظيم ـ لأنه يصل إلى المجهول.» يأتي أنسي الحاج بهذه المقولة (بتصرف) فيرى أن أمر الشاعر العراف هذا «لعله لم يعثر على فاعل ينفذه حتى الرعب، حتى الانتحار الشنج، وحتى مصير جُهل قبل ذاك، جُهل وقُوطعَ وخُنق وهو يبزغ إلا في أنتونان أرتو.» (يكتب الاسم الشخصي لأرتو بطريقتين مختلفتين) (ص. 92ـ 93.)
قراءتنا لهذه الدراسة في 1960، سنة نشر ديوان «لن»، تدلنا على أنها صورة الشاعر التي وضعها أمامه ليجسّدها في المستقبل. بهذه القطيعة الجذرية، التي تفرد بها أنسي الحاج، وضع قدمه على تجربة المخاطرة القصوى، بقيمها المضادة لجمالية القبول. ورغم أن الحياة الشعرية أخذت أنسي الحاج إلى حيث لم يكن ينتظر الذهاب، فإن كتابته في الشعر والنثر، أو ما ترجمه من شعر ومسرح، يشير إلى سلوك القطيعة الذي يظل الأشد ضرورة من سواه في حياة كل مبدع ينزع إلى أن يصبح حديثاً، قريباً من حلمنا الجماعي في حياة من الحرية.
محمد بنيس *- الأخبار
إضافة تعليق جديد