العفيف الأخضر: على هذه الأرض ما يستحق الحياة
بعد محاولة انتحار فاشلة، يقبع المفكّر التونسي في أحد مستشفيات باريس، هو الذي عاش بين المنافي وخاض حروب التحرير في الفيتنام والجزائر وفلسطين. ورث مشعل النهضة عن عبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل، وقارع الإسلاميين ودخل في عزلة في السنوات الأخيرة متأملاً انهيار المشاريع الكبرى
«شقيقي في حالة حرجة جداً وندعو الله أن يخفّف من آلامه» هكذا قال البشير الأخضر من مستشفى باريسي، بعدما سافر إلى العاصمة الفرنسية للاطلاع على حالة شقيقه العفيف الأخضر (1934) اثر محاولة الانتحار التي أقدم عليها في عزلته الباريسية التي اختارها منذ سنوات. نبأ محاولة الانتحار لم يكن لها صدى في الوسط الثقافي التونسي الرسمي (وزارة الثقافة) ولا غير الرسمي، وهذا أمر متوقّع. المفكر المنشقّ كان منشقاً في كل شيء. منذ أن غادر تونس أواخر الخمسينيات، لم يشارك في أي نشاط فكري أو ثقافي في تونس، كما لم تعرف له صلات بالوسط الثقافي باستثناء علاقات محدودة، ولم يدلِ بأي حوار صحافي طيلة حياته. لهذا، لم يكن معروفاً، وخصوصاً من الأجيال الجديدة إذا استثنينا الاوساط اليسارية في السبعينيات، التي كانت تراه رائداً، لكنها تخلت عنه أو تخلّى عنها منذ أن قام بمراجعات فكرية كبيرة جعلته أقرب الى الليبرالية منها الى اليسار.
بعد سنوات من العزلة وهو يتأمل انهيار مشروع الحداثة والتنوير، واندثار الأحلام الثورية التي أخلَص لها، اختار الانتحار في شقته الباريسية، لكنّه أفلت من الموت من دون أن ينجو من تداعيات المحاولة الانتحارية التي اختار أن تكون هادئة وبلا ضجيج كما كتب (راجع الكادر). «بيدي لا بيد عمرو» هكذا قال العفيف الأخضر منهياً رحلة طويلة من الخيبات والأحلام المجهضة والثورات المغدورة والمنافي، بدأت من مسقط رأسه مكثر (شمال غرب تونس). عاش العفيف الأخضر حياة صاخبة تنقل خلالها بين الجزائر وباريس وألمانيا والفيتنام ولبنان وسوريا والأردن، وانتمى إلى الثورة الجزائرية والفلسطينية والفيتنامية. خلال هذه الرحلة، اشتهر بكتاباته المنشقة والخارجة عن المألوف، مما جعله مستهدفاً من المتشددين دينياً. كتب عن السيرة النبوية والفقه ومقاصد الاسلام، ودخل في مواجهة مباشرة مع الاسلاميين، حتى إنّ بعضهم أهدر دمه وعرف بسجالاته مع زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي.
كان يحمل ثقافة دينية تقليدية، فهو خريج «جامع الزيتونة» وحفظ مبكراً القرآن واطلع على مصادر الفقه الإسلامي ومراجعه الأساسية، كذلك تبحّر في ثقافة فرنسية عميقة مكّنته من العمل في الترجمة التي عاش منها. ومن أشهر الكتب التي ترجمها «البيان الشيوعي»، كما عُرف بكتاباته في السبعينيات المدافعة عن اليسار والثورة الفلسطينية التي انتمى إليها عن طريق الشهيد أبو جهاد، الذي عرفه في الجزائر بعدما جاءها من باريس بدعوة من صديقه الرئيس الراحل أحمد بن بلة. وكان الراحل الحبيب بورقيبة قد حكم عليه بالإقامة الجبرية مطلع الستينيات، لكنه تمكن من الهرب من تونس إلى فرنسا ومنها الى الجزائر، وظلّ ممنوعاً من دخول تونس لسنوات طويلة.
في السنوات الأخيرة، داهمه مرض غريب أصاب أصابعه بشلل شبه كامل، تزامناً مع مروره بظروف نفسية قاسية وانهيار المشروع الثوري الذي حلم به. بعد اندلاع «الربيع العربي»، كتب عدداً من المقالات التي حذر فيها من سقوط الدولة المدنية وتنامي ثقافة «اللادولة»، وخصوصاً في تونس التي تعد نموذجاً لدولة الاستقلال في التحديث والتنوير. في عزلته الباريسية، اختار العفيف الأخضر الرحيل وحيداً كما عاش دائماً! لعل محاولة انتحاره مؤشر إلى نهاية مرحلة كاملة من الثقافة العربية كان شعارها التنوير لصالح ثقافة دعاة «بول البعير» ومشتقاتها!
وفي تصريح لـ «الأخبار» قال المؤرخ المتخصّص في تاريخ اليسار التونسي عبد الجليل بوقرة عن العفيف الأخضر «رحلة البحث عن الحقيقة قادت هذا المفكّر من قريته في الشمال الغربي إثر الحرب الكونية الثانية، إلى «جامع الزيتونة» في العاصمة التونسية، حيث تلقّى تعليماً تقليدياً لم يتفاعل معه، ثم إلى جزائر بن بلّة، التي غادرها بعد انقلاب بومدين سنة 1965، وبعدها إلى الأردن، وعاش مع الثورة الفلسطينية في عزّ عنفوانها في مخيمات عمان من دون أن تصل به التجربة إلى مبتغاه، فكانت تجربة بيروت «الفوران» الإعلامي والثقافي التي دفعته إلى شدّ الرحال إلى باريس. هناك بدأ في الإعلان عن «مشروعه» التنويري حاملاً مشعل النهضة عن شبلي شميل وعبد الرحمن الكواكبي وسلامة موسى، معلناً حرباً شرسة ضد الظلامية والتجهيل والشعوذة والاستبداد باسم الدين، وداعياً إلى إنسان عربي جديد يكون مواطناً جديراً بالعيش في عالم ثورة المعلومات وغزو الفضاء، متحرّراً من قيود صدئة أدمت عقله قبل أن تدمي معصميه».
إذا فشل الأطباء في إنقاذ العفيف الأخضر، فسيُدفن في قريته مكثر كما قال شقيقه لـ «الأخبار»، ليعود إلى المدينة الصغيرة النائمة في سفوح الجبال، التي تختزن آلاف السنوات من الحضارة، تعود إلى العهد الروماني، وهي المعروفة بآثارها المتصلة بآثار قرطاج. العفيف قرّر الانسحاب في زمن تحتاجه الثقافة العربية أكثر من أي وقت مضى، وهي تواجه جيوش الظلام وفتاوى الاغتيال!
الانتحار الرحيم
ترك العفيف الأخضر نصاً بعنوان «نداء إلى انتهاك الشعائر الغبيّة» (21 /12/ 2012) جاء فيه: «طريقة الانتحار تكشف عن مدى قسوتنا أو رأفتنا بأجسادنا. وسائل الانتحار المتوافرة في الفضاء العربي الإسلامي: تناول سم إبادة الفئران، أو مبيدات الحشرات، ماء الكلور، الشنق، الاحتراق بالنار (...) لذلك أقترح هذه الطريقة الحضارية التي تشبه «قانون الانتحار بمساعدة طبية» الذي يناقشه البرلمان الفرنسي، مع «قانون الموت الرحيم». من شاء أن يخرج من هذا العالم الذي جاء إليه بصدفة بيولوجية، بقرار فردي مدروس، فليتناول أكثر من 8 حبوب منومة، ودواءً مضاداً للقيء مع كحول. وسينام نومة الأبد».
نور الدين بالطيب
سبينوزا العرب ينام على كتابه الأخير
ولد العفيف الأخضر في قرية مكثر لعائلة من الفلاحين. في طفولته، راوده الانتحار لعلّه يتخلّص من بؤس الفقراء. دخل المدرسة مصادفة كما يروي عنه صقر أبو فخر «كان يرافق ابن صاحب الأرض التي يعمل فيها والده إلى المدرسة وينتظره في الصقيع ليعيده إلى البيت بعد نهاية الدروس. وأشفق عليه ناظر المدرسة وأدخله أحد الصفوف، فإذا به يحفظ الدروس بسرعة». مثل موت والده في عمر الـ 13 صدمة له، ليبحث عن وجهه في فقراء الفلاحين «كلما رأيت فلاحاً ركضت لأنظر إليه من أمام عسى أن يكون هو أبي الذي دفنته بنفسي في مقبرة القرية». وجد الأخضر ضالته في الشيخ بن عاشور أستاذه في التعليم الثانوي، ثم تماهى مع طه حسين، أبيه الروحي، «إلى درجة الذوبان». أما أبوه السياسي، فقد اكتشفه في الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وخصوصاً بعدما أصدر قوانين الأحوال الشخصية، ولكن سرعان ما قتله بسبب تفرده بالحكم وولائه للغرب كما يقول.
التحق بـ «جامع الزيتونة» ثم بكلية الحقوق ومارس المحاماة بين 1957 و1961. حتى شارك في الدفاع عن صالح النجار الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة محاولة اغتيال الحبيب بورقيبة، لكنه لم ينجح في إنقاذه، ففرضت عليه الإقامة الجبرية عام 1958، إلّا أنّه استطاع الفرار. تنقل بين الأردن وبيروت حاملاً لواء المقاومة الفلسطينية التي انتقدها إثر خروجها من الأردن. مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، غادر لبنان الى فرنسا. أما ما دفعه إلى اعتناق الماركسية عام 1963، فهو فقره، و«غريزة طبقية فقط» وفد اليها من الوجودية والناصرية، وقد ترسخت آراؤه حين كان في الجزائر التي رفعت لواء الاشتراكية بعد الاستقلال. بعد الانقلاب العسكري على الرئيس بن بلة عام 1965، زار العفيف الأخضر تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية، فلم يجد الجنة الاشتراكية، بل مجتمعاً في معتقل. بعدها دخل في سجال عنيف مع الأحزاب الشيوعية العربية، فاتهموه عام 1967 بالعمالة لألمانيا الغربية، وكتب بعدها مقالات نقدية عن الماركسية اللينينية. انتقل من الماركسية الى الليبرالية، ووجه انتقادات إلى الرأسمالية المعاصرة التي اعتبرها غير قابلة للبقاء إذا لم تدخل عليها الإنسانية المفكرة.
وضمن الإطار العربي، يُعد العفيف الأخضر أحد أبرز دعاة الحداثة والديمقراطية والعلمانية، وإصلاح التعليم الديني الظلامي، والمساواة، منتقداً الحركات الإسلامية. ولم يستبشر خيراً بالثورة الاسلامية في ايران بل رآها كـ «انبعاث للسلفية». وبعد أحداث 11 أيلول 2001، كان من أوائل دعاة تجفيف منابع الفكر الأصولي الإرهابي.
إلى جانب ترجمة «البيان الشيوعي»، وضع مؤلفات عدة منها «التنظيم الثوري الحديث» (1972)، و«الموقف من الدين» (1973)، وكتب عشرات المقالات في الصحف العربية والأجنبية، إضافة إلى كتاب نشره على حلقات في موقعي «الأوان» و«الحوار المتمدن» بعنوان «من محمد الإيمان الى محمد التاريخ» حيث حاول انتشال الرسول من الأسطورة إلى الواقع مستنداً في ذلك إلى التحليل النفسي.
قبل أن يتخذ قرار الانتحار، أرسل الى صديقه الكاتب والمؤرخ فواز طرابلسي نسخة إلكترونية من كتابه الجديد، مرفقاً بجملة «عزيزي فواز، أنا متعب، هذا كتابي الأخير، شكراً. العفيف الأخضر».
ريتا فرج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد