حوض العاصي والخوف القادم من خلف البحار
متاريس مذهبية بين مُعسكري الـ«نحن» والـ«هم»
بحر أخضر. مساحات خضراء لم يسبق أن رأيتها إلا في إعلانات الزُّبدة الشهيرة «حيث يُدلَّل البقر». حتى الغربان، هنا، لطيفة. في ريف حمص وحوض العاصي، لا يُعكّر جمال الطبيعة إلا الخوف القادم من الشرق. رائحة بارود القذائف تكمن في الذاكرة، فتستعيدها بمجرد سماع «دبّة» ما. عائلة شهيد تتقبل التعازي بـ«بطلها» الذي قضى دفاعاً عن القرية. حزن الفقد يختلط بالفخر، فتُطل بينهما امرأة ترفع رشاشاً حربياً طالبة تصويرها: «نساؤنا أيضاً مستعدات للشهادة دفاعاً عن أرضنا». هنا السلاح أكثر ضرورة من الخبز. أهلاً بك في قرى خط التماس الفاصل بين مؤيدي النظام السوري وجيشه، وبين مسلّحي المعارضة السورية. قرى الحمّام والصفصافة وزيتا والفاروقية والسكمانية وحاويك والعقربية وناعم ودبين والغسانية تؤلف المعسكر الأول، يقابله معسكر القرى الجارة التي باتت عدوّاً كأبو حوري والخالدية والنهرية وسقرجة والبرهانية والقصير. في المعسكر نفسه، تنضوي قرى شرق حوض العاصي كجوسية وجسر الدف والنزارية والعاطفية. هنا شريطٌ شيعي ــــ علوي ــــ مرشدي، مُطعّم بجيوبٍ سُنّية، تقابله قرى صافية سُنّياً. تتنازعهما قصص فظاعات لا تخلو من لوثة مذهبية يرويها أناسٌ شهدوها عن قرب. جارٌ يقتل جاره وآخر يُذبح ويُنكّل بجثّته لا لذنبٍ سوى أنه يحمل عقيدة مختلفة. هنا يُحكى عن تدخل عناصر من «حزب الله» لحماية الشيعة والأقليات في مقابل «مدٍّ سلفي يُمعن تقتيلاً في مخالفيه».
«هم بدأونا العداوة». عبارة تُلخّص لسان حال أنصار المعسكرين. كُلٌّ يُلقي باللائمة على الآخر ويتّهمه بأنه كان البادئ بالاعتداء، لكن تفصل بينهما وقائع موثّقة عن عمليات خطف وتصفية على الهوية طاولت الأقليات. إزاء ذلك، تتمترس القرى على النحو الآتي: قرية الحمّام الشيعية على تماس مع قريتي أبو حوري والخالدية السُّنيتين، فيما الفاروقية تقابلها الخالدية. أما الصفصافة، فتماسها بلدة النهرية. فيما يقابل السقمانية كل من سقرجة والبرهانية، وتتقاسم زيتا الحدود الباقية في مواجهة سقرجة. تفصل بين هذه القرى بساتين شاسعة مشكّلة خطوط تماس ترتفع على أطرافها وفي وسطها سواتر ترابية وخنادق تقع تحت رحمة عين قنّاص من كلا الطرفين. هكذا يكون الحال في السلم. أما عند المواجهة، فتضيع الحدود مع اشتداد وطيس المعركة. أما السلاح، فيبدأ برشاشات الكلاشنيكوف المصطلح على تسميتها بـ«الروسية»، إضافة إلى البي كي سي وقواذف الآربي جي ومدافع الـ«ب ١٠»، فضلاً عن مدافع الهاون. فيما الدراجة النارية هي الوسيلة الفضلى للتنقل بسرعة في الأراضي الزراعية. تسود هُدنة غير معلنة تتخللها مناوشات متقطعة. وسط خطوط التماس المستحدثة، تبرز قرية الغسانية التي يُعدّ وضعها الأكثر سوءاً بين باقي القرى لجهة الحصار المفروض عليها؛ إذ يُحاصرها مسلّحو المعارضة السورية من جهات ثلاث، فلا تتنفس إلا من طريق بحيرة قطين.
تنقسم المجموعات المقاتلة في كلا المعسكرين. يبدو لافتاً وجود مسلّحين صغار السن لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، ينخرطون في القتال ضمن صفوف المجموعات المقاتلة، سواء تلك المؤيدة للنظام أو المناوئة له. وإذ تتولى لجان أحياء شعبية من أهالي القرى، إضافة إلى قوات الدفاع الوطني، حماية قرى المعسكر الموالي بالتعاون مع القوات السورية، تبرز كتائب مقاتلة ذات ميول إسلامية في منطقة القصير. تتمدد هذه الكتائب في القرى السنية المحيطة، ويقدّر عددها بـ 25 كتيبة نشأت بعد تفكك «كتيبة الفاروق» السلفية إثر خلافات داخلية. أما الأكثر نشاطاً بينها فهي كتائب «البراء» و«الوادي» و«مغاوير الفاروق». وتؤكد مصادر قريبة من النظام أن هناك نشاطاً ملحوظاً لـ«جبهة النصرة» في المنطقة. كتيبة «البراء»، التي يتولى إمرتها «أبو رياض»، هي التي شنّت الهجوم الأخير الذي وُزعت صوره على الإعلام واتهم حزب الله بالمشاركة طرفاً فيه. وتنشط كتيبة «الوادي»، التي يقودها عبد السلام حربا المعروف بـ«أبو علي السوري»، في مناطق القصير، وهي ذات ميول إسلامية متشددة ومعظم مقاتليها لبنانيون وفلسطينيون. ويُتّهم «أبو علي السوري» بأنه قاد حملة تهجير الشيعة والمسيحيين السوريين من حمص والقصير، ومسيحيي ربلة، ليعزز الفرز الديموغرافي والجغرافي. وقد ورد اسم الأخير على لسان السفير البابوي في روما بصفته من تولى إحراق منازل المسيحيين وطردهم من قراهم.
وفي إطار الاستراتيجيا، يعتمد المقاتلون على قاعدة خلفية تُشكّل خزاناً طائفياً داعماً. وفيما يطمئن النظام السوري إلى ظهرٍ شيعي على طول الحدود مع الهرمل، ترتاح كتائب القصير إلى خلفية القرى السنية في الشريط الحدودي الممتد بين وادي خالد وجوسية وعرسال ومشاريع القاع، وتأخذ منها سُبل استمرارها، فتكون تارة ملجأً للفارين من جحيم الاشتباكات، وتارة أخرى تساهم في المدد اللوجستي والبشري.
تجدر الإشارة إلى أن وسائل الإعلام ضجّت أخيراً بخبر مقتل ثلاثة عناصر من حزب الله في ريف القصير. ترافق ذلك مع عرض مقطع فيديو يُظهر مسلّحين من كتائب إسلامية خلال اشتباكات مع جهة مقابلة قالوا إن عناصرها من الحزب اللبناني. ولهذه الرواية الإعلامية التي تبنّتها المعارضة السورية وجهان على أرض الواقع؛ إذ يؤكّد أهالي منطقة الحمّام التي شهدت الاشتباكات الأخيرة صدّهم هجوماً من منطقة أبو حوري شنّه عشرات المسلّحين. ويشير هؤلاء إلى أن الهجوم لم يكن الأول، وأن أكثر من محاولة جرت لاقتحام القرية جرى إفشالها. في المقابل، يتهم القيادي في المعارضة السورية المسلّحة في منطقة القصير، «أبو راتب»، حزب الله بـ«خرق المعادلة هذه المرة». وإذ يعترف بمحاولات عدة لاقتحام هذه القرى بذريعة أنها موالية للنظام، يؤكد أن «ثلاثة عناصر من الحزب سقطوا في كمين بعدما تسللوا إلى قرية البرهانية الواقعة تحت سيطرتنا بغرض الاستطلاع».
رضوان مرتضى
ريف حُمص من القصر إلى البحيرة: «جنود الله» يحاصــرون مَن تبَقّى
لا يمكن أن يكون الجرد جرداً أكثر من ذلك: صلفاً، جذاباً، ومتروكاً للجبال العملاقة. تقود الطريق إلى القصر، آخر القرى اللبنانيّة رسميّاً على الخريطة، قبل الوصول إلى الأراضي السوريّة. لا فارق كبيراً بين الهرمل والقصر إلا نفحة المدينيّة في مدينة القضاء الناتجة من زحمة طفيفة. في القصر، الشوارع بأسماء الشهداء الذين سقطوا أثناء قتال الإسرائيليين: يوسف قطايا وعلي الصميلي وعبدو فهدا. ذكريات لم تُقتل بعد. المنطقة طبيعيّة ولا يشعر المتجول فيها بوجود حدود تنتهي في آخر القرية. الحكايات تبدأ هناك، بعد حاجز «الهجّانة» الأول.
الحوض اللبناني في سوريا
نتحدث عن 40 ألف لبناني خلف الحدود، تحديداً بعد حاجز القصر ـــ زيتا الأول. تراجع العدد إلى ثلاثين ألفاً بعد موجات التهجير المتلاحقة، وهؤلاء يقيمون الآن في تلك البيوت الضيعاويّة منذ زمن سحيق أكثر من اللزوم. يزرعون الأراضي ويربون الإوزّ والأبقار والماعز. هم، بشكلٍ عام، مسالمون الى حدّ الملل. زيتا أكبر قراهم في «الحوض اللبناني» من العاصي. والتسمية (حوض العاصي) مستخدمة تاريخيّاً لوصف القرى المحاذية للنهر الأسطوري الذي يتباهى أهله بضفافه. لا يفقه هؤلاء «الاستراتيجيّات الكبرى»، وليس بينهم راديكالي إلا في الموروث الجبلي العام. مزارعون تقليديّون، وكأن النعت الأخير محاك على مقاسهم. تدل البلدة القديمة ببيوتها الطينيّة على وجودهم. مدينة أثريّة قديمة أسّسها جدودهم، عندما كان المسيحيّون يقيمون في قريّة وادي حنا القريبة. يقول العارفون إن في زيتا الآن بين 5 آلاف و10 آلاف ساكن. كانوا في الأصل أقل من نصف هذا العدد. النزوح إلى القرية ضاعف العدد. لكنها أرض رحبة لا يظهر عليها أي اكتظاظ. اعتادت النمط السوري في العيش والاقتصاد. الكهرباء لا تنقطع. مجانيّة. المازوت أرخص من لبنان بأربع مرات. قيمة ربطة الخبز 35 ليرة سوريّة، كيلو البندورة 100 ليرة سوريّة، كيلو اللحمة 400 ليرة سوريّة. أرقام غير موجودة في لبنان المكلف.
اليوم، تفوح رائحة الحرب بين البيوت، وتظهر الغربان على تقاطعات الطرقات المسيّجة بالأشجار التي لم تتعرّ، رغم أنه كان شتاء حاداً. كثافة الأشجار حضّت مقاتلين من المعارضة السوريّة على الجنة. نصبوا الكمائن وراحوا يغزون القرى. هوجمت القرية أكثر من مرة، فخطف أهلها وقتل منهم، على غرار السائد في سوريا. نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، موفق العباس، خضر جعفر، وبعدهما عبد الله الزين. طمر الغزاة مواطناً من آل مسرة تحت الثلج 3 أيام، لكنه نجا. يتحدث «السكان المحليون» عن مخطوفين وضحايا في قرى حوض العاصي بالمئات. في نيسان الماضي، وجدت القرية نفسها في مواجهة مع مقاتلي المعارضة، بعد ظهور «جبهة النصرة» في القرى المحيطة. ومذ ذاك صار الموت لغة المكان. في أيّار، بعد شهرٍ واحد، تدخلت الجهات الحزبيّة في المنطقة، وظهرت «اللجان الشعبيّة» التي تعدّ تسمية فضفاضة، كون مقاتليها يشكلون خليطاً من حزبيين (قوميين سوريين وبعثيين) وسكان محليين، هبّوا للدفاع عن أرضهم ضدّ «غزوات النصرة» وبطولات «كتيبة الفاروق».
«النصرة» على «التماس»
تلهث الطريق من القصر إلى زيتا. أرض واحدة تفصلها «القناة». ما الحدود بين لبنان وسوريا إلا لعنة قديمة تتجاوزها الديموغرافيا. نظراً الى مساحة زيتا الكبيرة، يتوزع السكان على نحو مريح، فلا يخرج اكتظاظ إلى العلن. تسرح المواشي التي لا تفقه في الحروب، وأحياناً تظهر طيور قليلة لتحتكر السماء، طيور تآلفت مع المدافع القريبة. الغربان بينها ليست الدليل إلى الموت، إنما شاهدة على غزوات الآخرين، الذين لم يسمعوا بالفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، ورغم ذلك يهجمون استناداً إلى «قاعدة» واحدة: «الآخرون هم الجحيم». «قاعدة» تبدأ من الشيشان، تمرّ من العراق، ولا تنتهي في سوريا. نفوس سكان هذه القرى، غالباً، في الهرمل والقصر. وبلا لف ولا دوران، إنهم شيعة، وبينهم علويون ومرشديّون مسجّلون في عكار. لا يروق ذلك المهاجمين القادمين من القرى السوريّة. للمناسبة، حزب الله في القصر والهرمل هو حزب الله في بيروت والضاحية الجنوبيّة. وتالياً، هو نفسه إن وجد له مناصرون أو محازبون ولدوا وعاشوا لبنانيتهم في سوريا. ستسمع خطاب الحزب المعلن نفسه: لا يريد الحزب زاروباً مذهبيّاً يقاتل فيه، بعدما انحصر «مجد» قتال العدو الإسرائيلي فيه وحده.
ستسمع خطاباً متقدماً سيروق الأميركيين أنفسهم إن سمعوه: «11 أيلول لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، إنه عار على المسلمين، وليس من ثقافتهم قتل الأبرياء». لا ينفي ذلك أن «صبغة» حزب الله الشيعيّة واضحة في القصر والهرمل، كذلك الأمر في القرى الشيعيّة شرق العاصي. ولكن في القصر 3 آلاف نازح سوري، بينهم نازحون من حماه وإدلب ومن خارج النسيج المذهبي للقرية. ربما تولت «جبهة النصرة» إدارة العمليّات الحربيّة على «خطوط التماس» لتواجه بيئة الحزب. انكفأت «كتيبة الفاروق» إلى القصير وريفه أخيراً لهذه الأسباب «اللوجستيّة»، هكذا يقولون في القصر التي اكتسبت اسمها قبل 300 عام لوجود قصر مهجور فيها، فيما تخسر القصير اليوم 3 ملايين ليرة سوريّة حسب تقديرات المتابعين جراء مقاطعتها أهالي الهرمل المشتاقين إلى حمص. وللمناسبة، ترزح القصير، بأسرها، تحت سيطرة المعارضة السوريّة. وفيها، سجن مكان بلديّة القصير، قناصون متجولون، حواجز ثابتة ومتحركة، ولجان محليّة تسيّر الأمور إذا سارت. لكن، في أماكن المواجهة، تصدت «جبهة النصرة» لإدارة الغزو. يعني أن الهرمل اللبنانية بعيدة ربع ساعة فقط عن «جبهة النصرة». أمتار معدودة. هذا ليس تخويفاً، بل إنها خريطة ملحوظة بالعين المجردة. في الأصل، نزح الجميع، شيعةً وسنةً، إلى ريف حمص، في الفترة التي نزحت فيها عائلات زعيتر ومدلج وخير الدين والهق والحاج حسن وحمادة إلى الهرمل والبقاع. نزوح قروسطي لا يمت إلى الحاضر الساذج بصلة. مهلاً، تعرفون هذه العائلات. إنها لبنانيّة. لبنانيّة أكثر من اللزوم لجهة الوقع الموسيقي. في هذه القرى، يقطن بعض السوريين. ولا أحد يميّز هناك، صارت الهويّة هي المذهب، هويّة متسلحة بمنهج تكفيري، يحدد علاقة الأقليّات بالنظام، ويحدد عداء التكفيريين أنفسهم لكل ما هو متحرك على غير صورتهم الدينيّة. وإذ نتحدث عن صورة مختلفة مذهبيّاً، نتجه صعوداً، إلى العقربيّة، معقل المرشديين والعلويين في ريف المدينة.
العقربيّة مقابل القصير
العقربيّة، ريف القصير. هناك، خلف أشجار السرو الراقصة للهواء، على بعد 200 متر متاحة بالعين العابرة فوق السهل كاسمه، يتمترس مقاتلو «جبهة النصرة». بدأنا بالمقلوب. من خط التماس المكشوف على جميع احتمالات الموت. «جبهة النصرة»، والبقيّة تأتي. أن ترى مقاتلاً من «جبهة النصرة» بالمنظار، شعور لا يعرفه إلا صاحبه. وفي قرى (العلويين والمرشديين) العقربيّة، القرنيّة، الناعم، ودبين، لا تبدو صورة «الجبهة التكفيريّة» مضخمة. لا نقول هنا إنهم مخلوقات من كوكب آخر، أو أن اللحى المرسلة إلى الأرض هي سبب تنميطهم على هذا النحو. إنهم رجال سبق لهم أن أعدموا العلويين في الحيدريّة. قتلوهم تحت صيحات «الله أكبر». وما زالت الأصداء مسموعة: الغسانيّة محاصرة، لا يمكن الوصول إليها براً، إذ يتمركز مقاتلو «الفاروق» و«النصرة» في القرى الحمصيّة القريبة: الرحمونيّة، الرضوانيّة، والشومريّة. يقصف الجيش السوري أحياناً هذه القرى، ما يخفف الضغط عنها، لكنه لا يلغي حصارها. نحن في حرب واضحة. يتنقل الغسانيّون بحراً عبر بحيرة قطينة ويصلون إلى «المناطق الآمنة». البحيرة لا تضحك وفيها مقذوفات قناصة «النصرة» المهرة.
كانت لهم سماء بعيدة في العقربيّة ولكنها تقترب. تطبق على قلوبهم، وتهطل منها قذائف بدلاً من المطر. آخر محاولة لاقتحامها كانت قبل أسبوع. 27% من النازحين فيها. القرية التي علّق مقاتلوها عقارب في صدورهم خلال «معركة قادش» قبل الميلاد بألف عام، فيها 180 أسرة لبنانيّة، و247 أسرة سوريّة. 18% من النازحين لبنانيون، جاؤوا من أبو حوري والحيدريّة، إضافة إلى عائلة كاملة من 400 فرد هجروا من الجواديّة التي نجت أكثر من مرة من التهجير بفضل «العقلاء في عرجون». سقطت عرجون في يد «النصرة»، فترك «الجواديّون» بيوتهم وأرضهم وهربوا إلى العقربيّة. تصلهم الآن مساعدات «طفيفة» من الصليب الأحمر السوري والهلال الأحمر السوري، فيما العالم لم يعترف بنزوحهم بعد. 1700 عائلة في القرية، يصل «التموين» السوري إليها من الطحين ما يكفي لإنتاج 900 ربطة خبز. يؤمّنون ربطات إضافية من طرطوس بسعر مضاعف للربطة (50 ليرة سوريّة)، ولكن يبقى جائعون كثر. ستجد في العقربيّة شباباً فقدوا مقاعدهم في جامعات حمص، وأولاداً ينامون في مقارّ بلديّة، بعدما امتلأت البيوت بالنازحين الأوائل. سوق العقربيّة تقليديّة، وفيها من الحياة ما لا يتوافر على خط التماس على تل السيح. في السوق صبايا بشعور طويلة ومجدّلة، وشباب يقودون دراجاتهم الناريّة بزهو. ناس يتابعون حياتهم رغم احتمالات القصف المفاجئ. يقولون هناك: «حالنا أفضل من ربلة المسيحيّة» التي فتك فيها القنص والقصف فتكاً. في قرية الناعم القريبة تجري الأمور على النحو نفسه. كتبوا «مبروك لعاشقات ريال مدريد» على جدار طاولته قذيفة، وفي دبين، بعد العقربيّة مباشرةً، تدب بحيرة قطينة في النهاية شيئاً من الحياة المفقودة في ريف حمص وفي سوريا عموماً. ليس هناك موت راقٍ وموت شنيع. ليس هناك قاتل جميل وقاتل دميم. إنما الموت في سوريا، رجل يقف أمام مرآته، ويطلق النار بلا توقف.
الناس في القرى العلويّة لا يحبّون «الشبيحة». سرقهم هؤلاء وأذلوهم. يثقون الآن بما يسمى «قوات الدفاع الوطني». وفي أية حال، لا يزال رجل الاستخبارات السوري على صورته التي نعرفها. يطل إلى الحاجز بعينين قاسيتين كأنهما من صخر لا يبرق، وساعده يقبض على «كلاشنيكوف» بقسوة، كأنه متأهب دائماً. عينان جافتان صارمتان، وفم ناشف يقذف الكلمات من فمه ببطء، واثقاً من سلطته، غير آبه بالواقف أمامه. ولكنها حالة لا تطول كثيراً، بل «قصة ثوان». إنها سلطة مكسورة، وصاحبها فقد هامته المرعبة، فبقي منها شظايا الهيبة السابقة. خسر الجندي السوري هالته تقريباً، وصعد مكانها، هناك، في الأرياف، نوع آخر من الجنود: «جنود الله». جنود الغيب القادمون للذبح باسم «الثورة» بعدما ذبحوها وأقاموا الصلاة على جثتها. إنهم «المهاجرون والأنصار» في «جبهة النصرة» وأحفاد عمر الفاروق في «لواء التوحيد». الحاكمون بأمر الثورة والناهون عن الجنة في ريف حمص والقصير. المشهد أصدق من الخطاب الطافي على سطح المجزرة. والقصة أعمق من «مؤامرة» على المقاومة اللبنانيّة، المتمركزة أصلاً في مكانٍ بعيد، ومن «ثورة» شعب مفترضة ضدّ نظام لا يختلف اثنان في كونه قمعيّاً. في حمص، انتفضت المذاهب، وتدفق التكفير إلى المعركة على الطريقة العراقيّة. لم تتعلّم هذه المنطقة من درس العراق، استخفت به حتى صار قرآن الجماعات التكفيريّة الذي يرتمي في أحضان المهمشين. نتحدث هنا عن ثقافة لم تهطل بالباراشوت على المنطقة، وعن رجال جاهزين للذبح لا يمكن الاستخفاف بما يجول في رؤوسهم. لقد اقتربوا كثيراً ولا شيء في رؤوسهم إلا رؤوس الآخرين مقطوعةً. إنهم جنود الله، التواقون إلى حمل السيوف، الذين يسعى أهل الشاشات في الثورة إلى تبييض رغباتهم، بينما هم لا يرضون إلا الأسود راية للجهاد الذي استفحل، وقد صبغوا حُمص بسوادٍ رهيب.
خطوط المواجهة المذهبيّة
تمتد القرى في حوض العاصي على خط طولي محاذ للقصير وريفه، يمتد من مطربا (700 ألف نسمة)، السغمانيّة (500 نسمة)، الفاضليّة (1000 – 2000 نسمة)، حاويك (2000 – 3000 نسمة)، الصفصافة (500 نسمة) والحمّام مثلها تقريباً، وقرى أخرى كثيرة تصيب القلب بالفرح لشدة اخضرارها، كالجنطليّة والفاروقيّة وحوش السيد علي. نتحدث هناك عن 31 قرية (15 منها سكانها لبنانيّون تماماً) في محافظة حمص، بوجود لبناني واضح وراسخ. على سبيل المثال، لا الحصر، نذكر بلوزة، قرية الوزير السابق والنائب غازي زعيتر، ووادي حنا المسيحيّة قبل العثمانيين. وللمناسبة، جميع آل صقر ينتمون إلى زيتا في الأصل. من القرى التي لم يحاول المسلحون اعتراضها المصريّة والسويديّة، علماً بأنها تتوسط القرى الشيعيّة. وهكذا تصبح الخريطة على الشكل الآتي: قرية بسكان أقلويين، وقرية مقابلها تحت سيطرة «النصرة». زيتا الشيعيّة تواجهها سقرجة التي التحق بدوها وعربها بـ«النصرة»، كحال توأمتها البرهانيّة. وهناك الصفصافة التي تهجّر تلامذتها إلى مدرسة حوش السيد علي، وهي تلاصق بلدة الحمّام التي تصدّت لهجوم زحف فيه «الجيش السوري الحرّ» من قرى النهريّة، الخالديّة، وأبو حوري (التي هجر سكانها من الأقليّات). وهناك السغمانيّة، التي تحسب خطاً ناريّاً آخر، تتعرض للقصف والقنص أحياناً من مواقع «النصرة».
أحمد محسن
حمص ـ الهرمل اللبنانيون الجدد
لن تجد في الهرمل من يخبرك نكتة عن «الحماصنة». ولن تنجح، مهما حاولت، أن تقنع أحداً بأن «حلاوة الجبن» الطرابلسية أطيب من تلك التي يقصدون محلات «السقّا» و«السلقيني» على طريق حمص ــــ الشام لشرائها، أو أن بقلاوة صيدا أفضل من بقلاوة «حلويات الناطور» في جورة الشياح، أو أن هناك في العالم من يخبز فطائر الجوز غير «أبو اللبن» في «السوق المقبي».
بيوت الهرمليين «تنضح حمص». في مدينتها الصناعية يصلحون سياراتهم وآلياتهم الزراعية. من جورة الشيّاح يشترون أثاث منازلهم من «فرش الصالون» الى «زرّ» الكهرباء مروراً بـ «صوبة» المازوت. من «سوق الدبلان» يشترون ملابسهم. ومن «السوق المقبي» ذهبهم وتوابلهم وعطوراتهم. حمص هي «جهاز العروس» و«الجوهرجي» و«بيّاع الخواتم». لن تصلك دعوة لحضور زفاف في الهرمل من دون أن تكون مذيّلة بجملتين أبديتين: «جنّة الأطفال منازلهم» و«مطبعة الأندلس ــــ حمص».
حمص، للهرمليين، هي الطبيب والمستشفى والصيدلية والدواء. الجامعة والمعهد، السوق والمطعم والمقهى. هي، باختصار، عاصمتهم ونافذتهم على العالم والرئة التي يتنفّسون بها، بل هي هواؤهم الذي يتنفسّونه. لذا ليس غريباً، منذ أن «سكّرت» حمص على نفسها وعليهم، ذاك الشعور بالاختناق الذي يطبق على صدورهم. وهم، اليوم، إذ يرون على شاشات التلفزيون أماكن لطالما ألفوها، تفلت منهم على الفور عبارة: «ضيعان حمص»... حمص وكفى. هكذا، وكأنما كل سوريا حمص. يتساوى في ذلك من يؤيّد النظام منهم أو من يتعاطف مع المعارضة.
يحفظون المدينة كأكفّ أيديهم، هم الذين تقتلهم الغربة متى قطعوا سهل «الشرقي» في اتجاه بيروت. لم يكن المشوار الى حمص التي لا تنام يحتاج الى أكثر من خمس دقائق حتى «يركب»، والى أكثر من ساعة، حتى تكون في «ساحة الساعة» أو «دوّار الرئيس». اجراءات عبور الحدود عبر معبر «الأمانة» في بلدة القاع المجاورة لا تشبه مثيلتها على بقية المعابر الرسمية بين لبنان وسوريا. والعلاقة بين المدينتين لا تشبه أي علاقة بين مدينتين حدوديتين في لبنان أو في دول العالم الثالث. لن تجد هنا، على جانبي الحدود، محلات تتكاثر كالفطر تقتنص العابرين في الدقائق الأخيرة قبل عبورهم. هي ــــ وهذه ليست مزحة ــــ أقرب ما تكون الى علاقة بين مدينتين حدوديتين أوروبيتين، تسودها السلاسة والنعومة والسكينة الى حد كبير.
بين الساعة القديمة والساعة الجديدة مرور إلزامي بمقهى «الروضة». من تضيّعه من رفاق السفر تجده هناك أو في «ملحمة الزهراء» قرب جورة الشياح. تُضرب المواعيد في مطعم «سكاي فيو» قرب الساعة او في «الآغا» أو «قصر جونية» قرب الحميدية، أو في واحد من مطاعم ضفاف العاصي: «مرسيا»، «أميسا غاردن»، «دوار المهندسين» أو «ديك الجن»... وغيرها.
لن تجد في الهرمل من يخبرك نكتة عن «الحماصنة» لأن الحمصي، للهرملي، بعيد عن التنميط اللبناني. هو تاجر ذكي، فطن، وصاحب نكتة. تاجر مديني بـ «معايير ريفية». ففي حمص فقط، ليس في بعلبك أو زحلة أو بيروت أو الضاحية، يمكن لابن الهرمل أن يشتري ملابس أو ذهباً، أو ما شاء، تقسيطاً «على الثقة» وبضمانات شفهية، أو ربما على وعد بالدفع في المشوار القادم. وهي ثقة قلّما مُحضها أبناء الهرمل المظلومون من بني جلدتهم.
أقام أهل الهرمل وجوارها مديداً في حيواتهم متعايشين مع رتابتها الجميلة. لفحتهم الحرب، منذ 1975، قليلاً، فلم تربكهم كما أربكتنا، نحن سكان المدن وأهلها. بقوا يتزاوجون ويتناسلون ويتعلمون ويتخصصون ويتقاعدون ويعيشون ويموتون في مدينتهم. يؤرّقهم الغد، ولكن ليس كما يؤرّقنا. لم يكن مجهولاً تماماً بالنسبة اليهم. هم، بهذا المعنى، كانوا «سوريين»، أكثر اطمئناناً الى يومهم وغدهم. منذ سنتين، بات الغد مؤرّقاً، وبات الهرمليون «لبنانيين جدداً».
وفيق قانصوه
لجان «الشعب» وقوات «الدفاع عن النفس»
مع غروب الشمس، يظلّل الصقيع قرى حوض نهر العاصي. الصقيع يتخطّى الحدود بين الهرمل وريف حمص. من يصدّق أن تلك الحدود التي رسمها ضابط فرنسي قبل مئة عام تفصل البرد والخبز والشمس والهوية بين البقاع الشمالي وحمص؟ أكثر من 15 قرية سورية يسكن غالبيتها لبنانيون، وأكثر من 20 قرية يختلط فيها اللبنانيون والسوريون قرب الحدود اللبنانية في الشمال الشرقي. البرد والحذر الخجول سمة الليل على طول الطريق من معبر مطربا «الحدودي» إلى قرية زيتا ثم قرية الحمّام. على يمين الطريق، تقع بلدة الخالدية التي تسيطر عليها مجموعات المعارضة المسلحة التابعة لـ«كتيبة الفاروق» و«لواء أحرار العاصي». أنت الآن في ساحة حرب خجولة على خطّ تماس. خندق مقابل خندق. «المتراس» هنا كشجرة الزيتون، كحقل القمح، يلازم البيوت كغرف الجلوس والباحات الأمامية منذ أكثر من عام ونصف. لا شيء يفصل المزارعين عن الموت غير أكياس خضراء يملؤها التراب الأحمر، وحفر في الأرض تكفي المقاتل الجديد كي يحمي بيته ووجوده.
ضجّ الإعلام أخيراً بمعارك قيل إنها بين حزب الله ومقاتلي المعارضة السورية. في الذاكرة، مقاتل حزب الله قوي، مدجّج بالسلاح الخفيف والمضاد للدروع، يملك من الوسائل والتدريب ما يؤهّله لتدمير قافلة دبّابات ميركافا حديثة في وادي الحجير أو سهل مرجعيون. خلف خطوط التماس في الحمّام، مقاتلون حملوا «الروسية» أو بندقية الكلاشنيكوف للمرّة الأولى قبل عام. هكذا، على عجل، وجد المزارعون أنفسهم تحت مرمى نيران قنّاص، أو سكّين «ذبّيح» آتٍ من قرية مجاورة، أو من الشيشان... لا فرق.
700 متر بين آخر متراس في الحمام وأول متراس في قرية أبو حوري. 700 متر فقط تشقّ وطناً عن نفسه. المقاتلون هنا لا يلبسون بذلة مرقّطة كاملة. حسين (اسم مستعار) يقترب من بلوغ الثانية والعشرين من عمره، وهو واحد من شباب «اللجان الشعبية» المكلفة بحماية القرى. في وجهه الصغير، تركت أشعة الحقول احمراراً على خدّيه، وجفاف المساء قسوةً في ملامحه. يظهر حذاء حسين فوق بنطاله المرقّط. الحذاء أقرب إلى جزمة للزراعة منه إلى حذاء مقاتل. في الأصل، حسين يربّي الغنم والماعز، ويبذر القمح في حقول أهله وإخوته. ينام الناس باكراً في القرى، أو يتحلّقون حول المواقد بانتظار النعاس. هذا قبل الحرب. حسين اليوم يركض إلى الحقل في النهار، ينتبه للماشية. وعند الغروب، يبدّل شيئاً في ثيابه، يضع على صدره جعبة فيها مخازن الرصاص، ويعلّق الكلاشنيكوف العتيق في كتفه. حسين حارس من حرّاس القرية في الليل. أمجد (اسم مستعار)، بلغ الثامنة عشرة من عمره قبل شهر، يغطي رأسه بكوفيّة غريبة نسجتها خيوطٌ صفراء وبنيّة، ولحيته لم تنبت بعد. لم يكن يظنّ الشاب يوماً أن الطريق إلى مدرسته في القصير ستعبّد بالموت. لا يخفى على أحد أن أهالي قرية الحمام وأخواتها ينتمون إلى الطائفة الشيعيّة، وبعض أبناء القرى من أتباع المذهب العلوي والطائفة المرشدية. اضطر الأهالي إلى تنظيم اللجان الشعبية بعد اعتداءات متكرّرة من مسلّحي المعارضة السورية. «لا نحبّ حمل السلاح، لكنهم أجبرونا، لازم نحمي ربعنا وبيوتنا» يقول أحد الشباب. هؤلاء لا يشبهون مقاتلي حزب الله بشيء، لا بالشكل ولا بالتجهيز، وحدها معنويّات من يدافع عن حقّه تجمعهم. على أن هؤلاء، على شاكلة لبنانيي الهرمل، منهم من ينتمي إلى حزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة أمل وحزب البعث العربي الاشتراكي. لا يُنكر الأهالي أن «العدو» جرّهم إلى «التخندق» مرغمين. هنا لا يحتاج المقاتل إلى دورة على السلاح أو تمرينٍ على الصواريخ وفنون القتال اللازمة لحرب العصابات في مواجهة الجيش الإسرائيلي. الرصاص حين ينهمر عليك وعلى بيتك، كفيلٌ بتحويلك إلى مقاتل تقوده غريزته إلى الصمود في حفرته الإفرادية، وفي إلحاق الهزيمة بالمهاجم. يقول أحد مسؤولي اللجان الشعبية في القرية، إن مقاتلي «جبهة النصرة» يحاولون منذ وقت طويل وصل القصير بوادي خالد اللبنانية، ولم يعد أمامهم أي عائق سوى بضع قرى، والحمام واحدة منها. لا يخرج الاشتباك الأخير الذي وقع قبل أسبوع في قرية الحمام عن السياق، «مُني المسلّحون بهزيمة كبيرة أمام الجيش السوري في منطقة جوبر (حمص، قريبة من باب عمرو) والسلطانية، وسيطر الجيش أيضاً على طريق جوسيه ـــ القصير من ناحية الشرق، فاضطروا إلى الانسحاب إلى هنا». تتلازم آثار التعب على عيون الرجل مع ملامح الثقة، «قبل أيام، هاجم الحمام أكثر من 300 مسلّح آتين من بلدة أبو حوري المقابلة، التي سيطروا عليها وهجّروا قسماً من أهلها». استعان المسلّحون في الاشتباك بقوّة نارية كبيرة من 14 رشاش دوشكا محمولة على سيارات رباعية الدفع وقذائف هاون من عيارات مختلفة (120 و82) لاجتياح القرية وطرد الأهالي منها، «لكنّنا صمدنا بأقل من 50 مقاتلاً». يستعيد حسين بعضاً من ذكريات المعركة الأخيرة، «بقيت الآليات بعيدة تصبّ الرصاص علينا، تمنّعت عن رفع رأسي أكثر من المساحة المطلوبة لتحديد الهدف، وما إن اقترب المسلّحون حتى بدأنا بسماع صرخات التكبير. لا أخفي عليك، الخوف يتسلّل إلى قلبك لثوانٍ، ثمّ ما تلبث أن تستعيد تركيزك. إذا قُتلت ومرّوا من هنا، فسيذبحون أهلنا. علينا أن نردّهم». وبالفعل، استطاع المقاتلون ردّ الهجوم، وبحسب اللجان، «سقط للمهاجمين أكثر من 31 قتيلاً و55 جريحاً، بينما استشهد أسامة مسرّة وعلي مدلج وحيدر صوفان». في حمأة الحديث، يقترب سلمان (اسم مستعار) بثيابه العادية وقبّعته المرقّطة، ما زالت كتفه مضمدة جراء رصاصة أصابته في الهجوم الأخير. لا مشكلة، أيام قليلة وسيعود إلى حمل البندقيّة. على درّاجة راجي (اسم مستعار) صورة صغيرة للشهيد علي حسين ناصيف (أبو العباس) الذي قُتل قبل شهرين على مقربة من هنا. راجي هو الآخر ترك جامعته في حمص، ليلتزم الدفاع عن بيته وقريته من ضمن اللجان الشعبية.
حلّت العتمة، صار الابتعاد عن خطّ التماس ضرورة. بعد قليل، كلّ ما يتحرّك يتحوّل إلى هدف، «القناص» القاتل المجهول لن يميّز بين ضيفٍ أو مقاتل، المهمّ أنك تقف في مرمى رصاصه.
كيف تحوّلت القرى الهانئة إلى ساحات حرب؟ من شلّع الوطن الكبير إلى خنادق متقابلة؟ الجواب ليس في الحمام وحدها. تبعد بلدة العقربيّة كيلومتراتٍ قليلة. في العقربيّة، التي يشكّل اللبنانيون 18% من عدد سكّانها، يعيد المقاتلون التذكير بجرائم المسلّحين، «خطفوا 40 فتاة من الجوادية، قتلوا 17 شخصاً في الحيدرية، ذبحوا أحد بائعي الخضر في القصير، مخطوفون من العقربية والسغمانية لم يعرف أحد مصيرهم بعد، والكارثة الكبرى في بلدة ربلة (غالبية مسيحيّة)، انقضّ المسلّحون على الأهالي أثناء قطف موسم التفاح وخطفوا ما يزيد على 300 شخص. ماذا يريدون منّا أن نفعل؟ ننتظرهم؟ علينا حماية القرى». في العقربية وأخواتها (بلدات الناعم، القرنية، تل النبي مندو، دبين والسغمانية) اختفت اللجان الشعبية شيئاً فشيئاً لصالح الجيش الجديد: قوات الدفاع الوطني. بحسب أحد مسؤولي هذه القوات، فإن التحوّل من تجربة اللجان إلى تجربة قوّات تخضع لسلطة الجيش السوري هو لضمانة الحفاظ على النسيج الاجتماعي، «في هذه المنطقة أقليّات ومذاهب متعدّدة. اللجان قد تكون من لون مذهبي واحد في بعض القرى، بينما دمج اللجان في قوات من قرى مختلفة يمنع التمذهب». على محور العقربيّة _ مجرى السيح (الحمّار) يرابط عناصر القوات للدفاع عن البلدة. تزامناً مع الهجوم على الحمّام، شنّ المسلّحون من بلدتي سقرجة والبرهانية هجوماً كبيراً صدّته قوات الدفاع الوطني، «صمدنا حتى وصلت عربات bmp التابعة للجيش». لا يمرّ يوم هنا من دون اشتباك أو تبادل للقصف، المسلّحون يتبادلون القصف المدفعي مع الجيش السوري، ليتطوّر الأمر أحياناً إلى هجومات مضادّة. يحمل أمين (اسم مستعار) روسيّته التي لفّ على قبضتها الأمامية علم سوريا تتوسّطه صورة للرئيس بشّار الأسد. الخمسيني حليق الذقن، تبدو على عينيه الزرقاوين قسوة الأيام الغابرة. أمين كان جنديّاً مسرّحاً من الجيش، عاد والتحق بقوات الدفاع الوطني لقيادة مجموعة من ضمن «فصيلة» في البلدة. عصب القوات الجديدة هو الجنود المسرّحون، طلاب المدارس والجامعات الذين انضموا في البداية إلى اللجان الشعبية، انخرط جزء منهم الآن في القوات التي باتت الآن في أمرة الفرقة 11 المكلّفة بالدفاع عن منطقة القصير وريف القصير، إضافة إلى كتيبة دبابات الكليّة الحربية. يحكي الجنود بأسى عن قيام عناصر «جبهة النصرة» بذبح أكثر من 32 عسكرياً مع قائدهم وهو برتبة مقدّم. يذكرون تفجيراً آخر ضرب حاجز الروضة، بعدما خطف المسلّحون السيارة التي تنقل الطعام للجنود، وفخّخوها بعبوات ناسفة، وفجّر انتحاري نفسه فيها ما إن دخلت إلى الحاجز. أخبار الموت لا تنتهي. لا تبعد «جبهة النصرة» عن هذا المتراس أكثر من كلم واحد. يقترب حسن (اسم مستعار)، «نحن نقاتل عصابات أتت من الخارج، لقد رأيت بأم عيني على المنظار مقاتلين بلحىً طويلة يلبسون الدشداشة القصيرة في تلك الغرفة البيضاء». يمسك بيدك ليدلّك على آثار القصف والقنص العالقة في أحد المنازل القريبة. «انظر، رصاصة الـpkc اخترقت صوبيا المازوت، ماذا لو أصابت طفلاً هنا؟ ربّما يرانا القنّاص الآن». في تركيبة القوات، لا يختلف التنظيم كثيراً عن نظام الجيش السوري؛ المقاتلون ينقسمون إلى فصائل من ثلاثين شخصاً وعلى رأسهم آمر فصيلة، وتنقسم الفصائل إلى مجموعات أصغر. حسن أبٌ لأربعة أولاد، بيته لا يبعد كثيراً عن المتراس، جعبته على صدره، ودمه على كفّه دوماً، «إن مرّوا من هنا وصلوا إلى أولادي، لن يمرّوا ما دمت حيّاً». رواد (اسم مستعار)، تطوّع في القوات حديثاً. على جعبة الشاب «لوغو» قوات الدفاع الوطني بألوان العلم السوري. كان رواد كغيره من السوريين يعمل في ورشة ألمنيوم في بيروت، ترك كلّ شيء وراءه ومشى إلى هنا، «سلّموا على بيروت، أظن أني سأموت هنا».
فراس الشوفي
«بحر حمص» يضحك: هذه أرضنا
بحرٌ في حمص. ليس في الأمر خيال ولا طرفة. فكما يقال لبحيرة طبريا «بحر الجليل»، يمكن بحيرة قطينة أن تكون بحر حمص. والبحر في حمص متعَب. على ضفته الغربية، تقع الغسّانية. بلدة يقطنها لبنانيون وسوريون منذ عشرات السنين. لعنة الجغرافيا والمذاهب وضعتها تحت حصار «جبهة النصرة» و«كتيبة الفاروق». تطوّع من أهلها المئات للدفاع عنها إلى جانب الجيش. في ذاكرتهم، لا تزال طرية مشاهد مجزرة بلدة الحيدرية المجاورة. منذ أشهر، لم يعد لأهل الغسّانية طريق بري. يعبرون فوق مياه بحيرة قطينة. كانت لبعضهم مراكب خشبية يستخدمونها لصيد السمك في البحيرة التي تلامس حمص. صنعوا أخيراً، على عجل، مراكب من حديد غير مطليّ. يُنقل فيها الناس، الطلاب والموظفون والمرضى والجرحى، والمزروعات من الغسانية. يتجهون غرباً نحو الضفة المقابلة، حيث أقيم «ميناء» في بلدة دبين، على عجل أيضاً. الحمّالون يُفرغون الجَزَر واللفت وغيرها من مزروعات أراضي الغسانية، لتُنقل من هنا إلى الساحل السوري، وأحياناً إلى دمشق. لا تعود المراكب فارغة.
يستقلها أهل البلدة العائدون إليها من الغرب، وتُملأ بالبضائع وبما يُستفاد منه لصد الغزو. الريح هنا عاتية. والمراكب مصنوعة يدوياً. بعضها تتسرب إليه الماء. وبعضها الآخر يُغرقه الموج. قبل أيام، غرق مركبان، ولم ينجُ بعض الركاب. مات ثلاثة غرقاً في بحيرة قطينة. في سوريا، طريق البحر كما طريق البر، لا أمان فيها. ومتى تأخّر أهل الغسانية في «تغريبهم»، لا يعودون قادرين على «التشريق». ففي البحيرة ليلاً، كل ما يتحرّك هدف لنيران الجيش السوري.
دنيا أهل المنطقة انقسمت بعد «الثورة» بين شرق وغرب. شرق نهر العاصي، بين القصير والتخوم الجنوبية لمدينة حمص، بات تحت سيطرة مسلحي المعارضة السورية. لكن الطريق الدولية بين حمص والشام (تقع شرقي النهر) بقيت في عهدة الجيش السوري، وكذلك بعض القرى، وبينها الغسانية. أما غربي النهر، فاليد العليا لا تزال للدولة السورية، مع بعض «الخروقات» المعارِضة. وغربي النهر ايضاً، قرى حوض العاصي، حيث يعيش لبنانيون منذ مئات السنين.
لبنانياً، يقع حوض العاصي قبالة الهرمل، ويمتد بين مدينة القصير السورية وعكار. ومنذ أن استعاد الجيش السوري بابا عمرو، حلّت اللعنة على هذه القرى. صارت المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة ترى فيها ممراً محتملاً لفتح طرق إمداد للقصير من وادي خالد والشمال اللبناني، في ظل انحسار الدعم الآتي من عرسال. فقرى حوض العاصي قائمة على أراض شاسعة، وكثافتها السكانية منخفضة. ويؤكد بعض المشرفين على العمل العسكري فيها أن المسلحين المعارضين ظنوا هذه القرى لقمة سائغة يمكن قضمها بسهولة، لتُفتح طريق الدعم أمامهم.
وكلما تقدّم الجيش السوري قرب مدينة حمص، عادت المجموعات المسلحة إلى قرى حوض العاصي. قبل أسابيع، استعاد الجيش جوبر والسلطانية من مقاتلي «الفاروق» و«النصرة»، فهاجم المسلحون بلدتي الحمّام والعقربية. صدّهم أهل القرى، بلجانهم الشعبية المدعومة من حزب الله والجيش السوري، وأنزلوا بهم خسائر بشرية كبيرة. ثمة هدف آخر للهجوم على هذه القرى: أهلها لبنانيون، ومعظمهم من الطائفة الشيعية، ولحزب الله وجود فيها. هنا، يمكن المعارضة السورية أن تقول بالفم الملآن إن حزب الله يقاتل ضدها. تهاجم القرى، وإذا صدها أهلها، تقول إنه حزب الله.
وجود الحزب في المنطقة «ظاهر» للعيان. تماماً كما في البلدات اللبنانية. لا يمكن رؤية مقاتل منه. وحدهم رجال «اللجان الشعبية» حاضرون. صور أمينه العام قديمة غيّرت الشمس والأمطار ألوانها. وفيها صور لشهداء المقاومة في الجنوب، أو لأولئك الذين سقطوا أخيراً دفاعاً عن قراهم. حتى شعار «لبيك يا رسول الله» الذي رفعه حزب الله خلال الأشهر الأخيرة في البقاع والضاحية والجنوب وصل إلى هنا. مثله كمثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا تخلو بلدة من محازبين له. المنطقة امتداد للهرمل والقصر. لا شيء يميز بين طرفي الحدود إلا الخضرة: الجرد في البقاع اللبناني، والخضرة في القرى السورية التي يعيش فيها لبنانيون. فخلف الحدود، يحصل اللبنانيون، كما السوريين، على السماد الزراعي من الدولة السورية التي تشتري محاصيل المزارعين. ربما لهذا السبب يصبح التبن مادة صالحة للتهريب من ريف القصير إلى الهرمل. تهريب لا ينقطع، حتى في عز المعارك.
خلف الحدود، لا شيء يعلو فوق رائحة الحرب. الناس يقاتل بعضهم بعضاً. يقول مقاتلون في حوض العاصي: «نعرف من يهاجموننا. في بداية الأزمة، آوينا عائلات بعضهم. ولا ننسى أنهم احتضنوا اخوتنا واهلنا في حرب تموز 2006». يكثر الحديث هنا عن الأجانب الذين يقودون معارك المعارضة، والذين لا يذكرهم أحد عندما يقتَلون.
الحرب السورية لم تترك شيئاً إلا ومزقته. الأخوة يتقاتلون. الطفلة التي هجّرها جيرانها المسلحون من قريتها لتسكن مع أكثر من 10 عائلات في منزل واحد لا يتسع لعائلتين، هل من يقنعها بأن الحل ليس في حمل السلاح «عندما أكبر»؟ لم تعد قرى حوض العاصي هانئة تعيش ببطء الريف اللامتناهي. صارت ساحة حرب وتهجير ودفاع عن النفس. أهلها فتحوا دورهم لجيرانهم. صاروا يشكون نقص الخبز والغاز. الغسانية تحت حصار بعض جيرانها وأولئك الآتين من خلف البحار. وحدها بحيرة قطينة تمدها بالحياة، وتصل غرب النهر بشرقه. في «الميناء» الذي أقيم في دبين، فوق «شبه جزيرة» قرب المسجد، يصعب إخفاء التعب على وجوه المسافرين الذين لم يعتادوا حياة الحرب بعد. لكن كل الإرهاق لن يمنعهم من الضحك وهم يضيّفون زوارهم جزراً آتياً من الغسانية: هذه أرضنا. وهنا سنبقى إلى الأبد.
حسن عليق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد