عرب بلا رومانسية وما تمليه السياسة على الرواية
تغيرت الافكار والتعابير الرومانسية في الادب العربي بشكل عام, وفي الرواية العربية بشكل خاص. وتغيرت الصور التوصيفية التي تنساق الى رحاب الشفافية والتوق الى الآخر في كل الاشياء. لكن ذلك التغيير الذي طرأ على الوعاء اللغوي للرومانسية, لم يغير ببداهة الامر مفهوم الرومانسية بحد ذاته, بل ان اساليب انعكاسات هذا المفهوم في المفردة, وفي العبارة, وفي الصورة التوليفية, وفي الحدث الساري, هي التي انسحبت من المألوف والمنتهج في ادبيات الرومانسية التقليدية.
لقد حتمت الانساق الاجتماعية والسياسية والامنية الضاربة في جذور الواقع, ان يحيد الروائي العربي عن استنباتات هذه الرومانسية بمقوماتها المعروفة, لمصلحة الاستنباتات التمازجية المتعددة التي تعكس بدورها خليطا من الواقعية والعبثية والصدماتية ان صح التعبير , وقد كان لإدخال المطابقات الواقعية الإسقاطية للاحداث السياسية والامنية العصيبة التي اغتنت بها الرواية العربية المعاصرة, نتائج صياغية مباشرة على بوصلة النص الروائي, حيث ظهرت مؤشرات تعبيرية جديدة للرومانسية, وتلاشت بنائية صورها الكلاسيكية. فهل كان الكتّاب الرومانسيون في الماضي يعيشون بلا احداث اجتماعية, وبلا هزات سياسية وأمنية؟...
... ما من عصر قد خلا من كل الهزات, ولكن تبقى اصوات التعبير خاضعة للتطور الذي يطرأ عادة على صيغة التفاعلات النفسية والفكرية لكل جيل على حدة. لذلك ربما كان للجيل الروائي المعاصر مفرداته المستقاة من زبدة هذا التطور الذي تميز بالمزج التوليفي بين الوحل والوردة, وبين الالوان والعجين, وبين الشمس والساق, وبين الغزل والتأريخ!
... في قراءتنا لنماذج معينة منتقاة من بعض الاعمال الروائية العربية, نستدل على السياق المنهجي المختلف الذي طرأ على «ادوات» الوصف الرومانسي, من خلال الفقرات المقتطعة الآتية:
حارث المياه
تقول الروائية هدى بركات في رواية «حارث المياه» الصادرة عن «دار النهار للنشر 1998», €ص 6061€ ناقلة على لسان الشاب تاجر الاقمشة, وصفه لجمال الفتاة شمسة ولملابسها: «... كل هذا الكتان لي؟... لي انا. كل هذه الطبقات التي ارى والتي اخمن من شاش وخام لجروح قلبي... كتان محارم الوداع, ومحارم دموع العشاق. فرش مهدك وخام جهازك. اعطني ما ألمسه من كتانك, وتمددي داخله, تحسسيه على كامل جلدك. لا تنفري هكذا. اتركيني بقربك على الكنبة لأروي لك عن الكتّان ما لن يرويه لك احد غيري. لأرويه وأروي جرح قلبي العاشق, فهل تضمدينه؟».
وتتابع الروائية بركات في هذه الفقرة المزج بين عصارة الرغبة عند العاشق للمعشوقة, وبين عصارة المعلوماتية ان حسن التقدير فتقول على لسان الشاب: «الكتان ابن العناصر الاربعة, وجهات العالم الاربع ايضا. من البلطيق الى المتوسط هو اقدم القماش وأكرمه. فمن الارض تأخذ بذرته قوتها. تبرعم في آذار وتحصد النبتة في تموز. زهره السريع الزوال ازرق, ويميل حقل زهوره بعد ساعات قليلة من تفتحه الى الذهبي. وبعد خمسة اسابيع من اطلاق زهرتها تحصد النبتة من منبت ساقها كالقمح. ومن بذورها علف للحيوان وزيوت ودهون. أليس كله خيرا؟».
... و«كتانكم يا شمسة €ص63€ جاء في البدء من بلاد فارس كما روى لي ابي, ودخل مصر وحمله منها فيثاغورس الى اليونان... وكونفوشيوس الحكيم الذي كان يهوى قراءة اشعار كتابه المفضل شي كينغ, كان يتغنى كما قصائد الكتاب بالرامي, وهو قنب سيام الطويل الالياف.
لا تخجلي من عريك المترائي تحت الكتان فهو يغطيك ويسترك لا تسمعي شهوتي في كلامي... اسمعي الحكاية فقط»...
الى ذلك, ثمة مفردات غزلية استمزجتها الكاتبة بركات وابتعدت بها عن الرموز الرومانسية المألوفة, من قبيل الوردة, والقمر, والسوسن, والبنفسج, والعبير, والعطور, لمصلحة الاوصاف الآتية: «دراقن العجم... رائحة الفانيليا, طعم البسكويت, وطعم العجين».
مريم الحكايا
الروائية علوية صبح عالجت في رواية «مريم الحكايا» الصادرة €عن «دار الآداب» 2002€ المشهدية التي تجمع بين الحبيبين في عز اللحظة الانشدادية على صعيد الرغبة, والتي تحدث في عز الحدث الامني على صعيد الحرب, فكان لا بد للوصف الرومانسي التقليدي ان يصبح هجينا ومصوغا ومستقى من عنصرَي المتعة والهلع اللذين ينتجان من العاطفة والقتل...
تقول صبح €ص94€: «حين اعادها الى بيتها قبل وجه الضوء كانت العتمة لا تزال ترخي بظلالها السود. فيما طيور الموت السود ايضا تعبر سماء المدينة وتدور فيها بأصوات تقطعها بعض العبارات النارية التي تطلق من الاحياء السكنية تجاهها. انزلت ابتسام زجاج شباك السيارة ومدت رأسها الى خارجه صارخة في فضاء ليل المدينة الموحش: بحبك, بحبك.
جرّستينا, وطّي صوتك, قال لها وهو يضحك ويشدها الى داخل السيارة.
بحبك غصْبن عن إسرائيل والطيارات والحصارات والجوع والعطش وكل شيء».
وفي مقلب آخر من قصص الحب التي تجمع بين الحس الرومانسي وبين الممنوعات الاجتماعية, نقرأ €ص97€: «قال لها يومها انه يحبها. ولكن العِرق يقول له ان عليه ان يتزوج من فتاة اخرى من طائفته وعائلته, وهو الذي يملي عليه من يتزوج وليس قلبه. الشرش هو الاساس. لا يقوى على مخالفته. هكذا حكى واقتنع بما حكى. وهي تنظر اليه بعينين استدارتا دهشة, وفمها مفتوح لا يقوى على الرد, بل لا يعرف ماذا يقول, وعقلها لا يعرف ماذا يفهم.
لم تقل له ولا كلمة حين راح يحدثها عن الشرش ويتمنى لها ان تتزوج رجلا يستحقها, لأنه هو سيتزوج كما امره الشرش».
ونقرأ €ص100€: «وقتها بقيت جالسة في السرير, مسندة ظهرها الى مخدتين, فيما جلست انا على حافة السرير أستمع لأسئلتها وهي تقول: قولك الحب لوين بيروح يا مريم؟ وليش بيروح, ليش بيخلص؟ شو بيصير بعدما يموت ويروح؟
سألتني اسئلة كثيرة وهي تحكي لي كيف أننا في اول الحب نعربش عليه بالكلام, وفي آخره نعربش على الصمت. في اول الحب يخيل الينا ان الدنيا كلها طابة طفل في ايدينا, وفي آخره نحسب انفسنا الطابة التي تقذفها قدم الآخر بعيدا».
غفلة التراب
الى ذلك, ثمة نظرة فنية يطرحها الروائي عاكساً ثقافة الناس «البيئية» في علاقتهم مع عناصر الطبيعة, بحيث تغدو هذه النظرة في مسارها التوصيفي «الرومانسي» مرآة جلية تعكس «جفاف» المخيلة عند هؤلاء الناس, ونقرأ مثالا على ذلك, فقرة واردة في رواية «غفلة التراب» لرشيد الضعيف الصادرة في العام 1991 عن «مختارات» €ص 33€: «رغم ان التفاح اهم مواسم الإهدنيين, فلا احد يسمع إهدنياً يصف شجرة التفاح بأنها جميلة.
فشجرة التفاح إما تعطي فيكون الموسم مليحا, وإما لا تعطي فيكون الموسم سيئا. انها شجرة للاستثمار وحسب, وهي من الركاكة بحيث انها بحاجة الى عناية مستمرة: تنقية, ورش, وفلاحة, وري, وسماد.
لا تعمر شجرة التفاح. بضع عشرات من السنين, ومن ثم تشيخ, فلا يسمع اهدني يقول: تحت هذه التفاحة ارتاح جدي!
... انها شجرة لا تشهد على شيء. انها شجرة زائلة وليست دائمة. فليس من تفاحة واحدة في اهدن, من بين الالوف المؤلفة من اعدادها, شهدت معركة, او شهدت ببطولة. وعاصفة تؤذيها, سريعة العطب هينة على العناصر. جذعها لا يسند سقفا, حطبها كالقش اليابس يحترق سريعا ولا يرمي جمرا.
... وليس لخشب التفاح عطر شجر الارز!».
بالمقابل, يصوغ رشيد الضعيف كلمات الرسام جميل في رسمه لإهدن وللبيوت الحجرية القديمة, دالاً بذلك على جوهر الرؤية التي تجمع بين الموضوع الجمالي وبين الأثر النفسي والاجتماعي الناتج منه في الوقت عينه. وفي ذلك نقرأ €ص 49€: «يكره سايد مرأى الاعمدة على السطوح, وقضبان الحديد تخرج منه صدئة, فيروح يسترسل بالكلام وكأنه يخطب: ثم تتهمني بالتقوقع والانعزال! فقل لي انت الذي حارب ضد الاستعمار, وحارب ضد اسرائيل, قل لي كيف كان يمكن لأخي الاكبر ان يقيم في بيت مع اولاده السبعة لولا الباطون, ولولا ان والدنا لم يكن يملك لحسن حظ اخي, وحظنا جميعا حس ما تسميه الشكل الناجز. فبنى ابي اولا على السطح عمودين استعملتهما والدتي لمد حبل الغسيل. ثم بنى ثلاثة اعمدة اخرى, ثم بنى الاعمدة المتبقية كلها, وقبل زواج اخي صبت السطح, ثم اكتمل البيت رويدا رويدا, الحيطان والبلاط والمنجور... الخ. اسمع: عريشة على اعمدة من باطون فوق سطح... انه الجمال بعينه. انه التفاؤل. انه انتظار الايام السعيدة بكل ما يتخللها من احزان. اسمع: الباطون هو الديمقراطية. هو السياسة في عصرنا الحاضر! فهل تتصور دولة او حزبا او تيارا سياسيا لا يتبنى مشروعا سكنيا؟! وبماذا تبنى المساكن؟! فليس اجمل من ان تنجب ولدا ترعاه بكل ما اوتيت, وتبني له بيتا بالتدريج, رويدا رويدا... على قدر ما تستطيع, حتى اذا ما كبر حل سطح محل العريشة, واحتمى ابنك في ظله!».
بعد خراب الحافلة
الروائي سعود قبيلات ارخى بثقل الحكايات والارتدادات الواقعية التهويمية على السياق القصصي لمجموعته القصصية «بعد خراب الحافلة» الصادرة في العام 2002 عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» وبدعم من وزارة الثقافة الاردنية, وأثبت حتمية انكفاء اللغة الرومانسية الشفافة, ازاء حتمية التناقضات الحسية والمبادئية المولودة في ارض الخراب... لذلك وجدناه يقول في قصة «امرأة» €ص66€: «كان منهمكا في تأمل فراشة جميلة وهي تتنقل من زهرة برية الى اخرى. وفجأة جاءت امرأة وقالت محتدة: بماذا انت منشغل الى هذا الحد؟
اشار الى الفراشة, وهو يواصل انهماكه في تأملها.
فقالت المرأة مغتاظة: أبهذه الحشرة التافهة؟
ثم خلعت حذاءها, ورمت به الفراشة, فسحقتها!».
وفي قصة «لوحة» €ص 69€ كتب قبيلات يقول: «رسمت لوحة جميلة, تماما كما اشتهي, وجلست اتأملها. لكن شخصا قبيحا ظهر فجأة, وشرع بالتبول عليها, فتحللت ألوانها واختلطت معالمها. الامر الذي سبب لي الكثير من الالم والشعور بالقهر. إلا انني لم ألبث, بعد مدة, ان تغلبت على احباطي وحاولت, من جديد, رسم لوحة اخرى لا تقل عن السابقة جمالا. لكن ما ان انتهيت منها حتى حضر القبيح, نفسه, وكرر فعلته الشنعاء, نفسها, من دون ان يأبه باعتراضاتي وألمي.
ولقد فعل ذلك مع محاولاتي اللاحقة جميعها. فتوصلت الى انه ما من سبيل للخلاص منه سوى الإجهاز عليه من دون رحمة. غير انني عندما اطبقت على عنقه, بيدي, لم اقبض سوى الفراغ!».
هموم صغيرة
... وفي سياق انتاجي آخر, نقرأ للكاتب هاشم غرايبة في مجموعته القصصية «هموم صغيرة» الصادرة عن «منشورات امانة عمان الكبرى 2002», اسلوبه في مواقعة المتغيرات التعبيرية التي طرأت على «قاموس» الغزل, وعلى «قاموس» التعريف بالطبيعة الريفية. من قبيل استخدامه لعبارة: «رائحة المرأة المعطرة بحمض اللبن», ولعبارة: «الساقان الممتلئان عسلا وزبدا وقيصوما».
اما اللغة التعبيرية التي تعكس توصيف الريف فقد تبدلت مشهديتها لتكون اقرب الى الخواء الشاعري للقرن الحادي والعشرين بمفرداته الهجينة المشتقة من «جمادية» الآلة, ومن الانفلاشات الكبرى للتقنية الحديثة. وفي ذلك نقرأ €غرايْبة€ €ص88€: «بقعة الظل التي طال تمحورها حول الشجرة, استحالت نقطة غائمة في نفس الفتى. تطاول الظل باتجاه الشرق كثيرا والفتى يحاذيه وينحدر معه بطيئا على الطريق الترابي. ظله مندغم بظل الشجرة ويتطاول كلما ازداد هبوطه, حتى صار لانهائيا. كانت الكلاب على مشارف القرية تقيم موسما صاخبا للفساد... والطرقات تمتد, بين الحقول وتتجه الى القرية فارغة كئيبة. €صمت€.
صدى دندنة متقطعة صادرة عن مهاجع الاغنام. €صمت€.
صوت بقرة ثكلى تخور في زريبتها ثم تتلمس جلد ابنها المحشو بالقش €بوا€ وتدر اللبن لقاتليه.
والظل ينساح وينفلش.
صرصار بدأ نشاطه مبكرا وراح يرقص راكلاً جناحيه بقدمه الخشنة ليصدر صريره الذي لا يؤنس احدا سواه. €صمت€.
والظل انفلش غلالة داكنة غمرت القرية... انه الغسق. البقية اوت الى مهاجعها قبل الاوان.
والحزن ساح الى منتهاه في جوف الفتى فترنح قلقاً وخوفا».
اخيرا, ان نظرة متأملة في اللغة, التي تغيرت صورها بتغير الشفافية الوجودية والواقعية نفسها, تجعلنا نتابع بحذر ما يمليه الواقع السياسي الحاد, والصراع الايديولوجي المتشابك, على اقلام الكتّاب, من اغلفة سميكة, تجبرهم على عدم الامساك بظلال الوردة... وتبعدهم عن الابحار في شفافية الوجد المفقودة التي باتت اقرب الى مرحلة الدخول في مصنفات التراث, منها الى مرحلة الصمود امام مصنفات الحاسوب الحديث.
غادة علي كلش
المصدر : الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد