«الجزيرة» ليست بخير: استقالات والأجندة السياسية حاكمة
«الجزيرة» ليست بخير. هناك حركة مهنية غير صحيّة تدور في أروقتها، يمكن اعتبار الاستقالات المتتالية أبرز ظواهرها. وفي حين تصبّ بعض الاستقالات في سياق الخيار الشخصي، فإنها تكشف أيضاً أن «الجزيرة» التي كانت تشكّل فرصة مهنية لا تُنافس بالنسبة إلى الكثير من الإعلاميين، لم تعد كذلك تماماً، إذ باتت فرصة قابلة للتخلّي عنها.
في مكتب بيروت، يكاد يكون كل شيء قد تغيّر منذ اتخاذ القرار في المركز الرئيسي في قطر، ببدء تغطية يوميات الثورة السورية. سبق ذلك الخيار فترة قصيرة، نأت «الجزيرة» خلالها بنفسها عن التغطية السورية. وقد نشرت «بي بي سي» العربية، خلال تلك الفترة، إحصاء يفيد بأن نسبة مشاهديها ارتفعت، في مقابل انخفاض تلك الخاصة بـ«الجزيرة».
بدأت الاستقالات من مكتب «الجزيرة» في بيروت مع مديره غسان بن جدّو، منتقداً «لا مهنية» تغطية الملف السوري. تلاه إلى الاستقالة أحمد نجفي، والمنتج موسى أحمد، وكبير المهندسين يونس فرحات، والمراسل علي هاشم، ثم المدير الإداري السابق لمكتب بيروت حسان شعبان.
في سياق موازٍ، كان النقد حول سياسة «شهود العيان» التي تعتمدها القناة في تغطية الملف السوري يشقّ طريقه، مع منح أناس مجهولين كامل المصداقية في الإخبار. وتفجّر النقد مع فضيحة تسريب الأفلام التي تتضمن التجهيز لمقابلات في حمص، كانت أشهرها تلك الخاصة بالطفلة نغم لطيف رفق . ففي أثناء التجهيز لمقابلة ضمن داخل مستشفى، يظهر المراسل وهو يلقّن الطفلة، والطبيب، وآخرين، أقوالهم، بما في ذلك التشخيص الطبي لمصاب ليس مصاباً، والانفعال العاطفي للطفلة المضمّدة العينين، في قولها «الله لا يوفقك يا بشار»، وتهديدها «العفوي» له بالقتل ثأراً.
إلى الإخراج السينمائي الذي يسبق التغطية، انتشرت أيضاً، عبر وسائل الإعلام المناهضة لـ«الجزيرة»، وأبرزها قناة «الدنيا» الموالية للنظام السوري، مشاهد تستعرض صوراً بثّتها «الجزيرة» في أثناء تغطيتها لمشاهد مؤثرة من يوميات المقاومة العراقية، والثورتين الليبية واليمنية، وقد أعادت «الجزيرة» بثها على أنها حدثٌ سوري.
وقبل الخوض في ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن الموقف من الثورة السورية ليس محور النقد هنا، ولا أن التلفيق الإعلامي يعني تلفيقاً للموت. الموت يحلّ في أرض سوريا، وبكثافة، لكن الصورة العربية للتغطية لا تبدو على مستواه. تريده موتاً معلباً يخدم هدفاً سياسياً خاصاً، بينما هو موتٌ يصيب شعباً يتوق إلى حياةٍ أفضل في بلده. وإن كان النظام الحديدي في الشام يعيق الوصول إلى الصور، فإن غيابها يخبر عن فداحتها، أما تلفيقها فيجعل من الموت حتى، وجهة نظر، في «حربٍ» سياسية تم تسخير الإعلام فيها ليكون سلاحاً.
وقد أدّى خرق تجسسي لمراسلات «الجزيرة» الداخلية إلى اكتشاف فضيحة تدخّل على مستوى الخبر، في تغطية للمراسل المستقيل علي هاشم، من شمالي لبنان.
كما أدّى الاختراق لموقع النقاش الداخلي، إلى نشر مراسلات بين مراسل لبناني وزميلة له في المؤسسة، تعبّر عن اعتراضها على «الأجندة» السياسية للقناة، وغياب المهنية.
كما سجّلت لسرقة جهاز «آي باد» الخاص بمدير التحرير في قطر، بكل ما يحويه من معطيات، خلال الإفطار في شهر رمضان الماضي، ترافقت مع إطفاء كاميرات المراقبة كافة. وعند تتبّع الجهاز بواسطة خدمة استقصاء الموقع المتوفرة فيه، فقد ظهر في منطقة في سوريا!
في ظل هذا الجو المتوتر، وعدت الإدارة بتجنيب مكتب بيروت تغطية الحدث السوري، وحصرها بقطر. إلا أن أحد العاملين في المؤسسة أكّد لـ«السفير» أن التدخّل في السياق السوري استمر، لجهة مدّ الثوار بأجهزة «bgan» التي تؤمن إنترنت متصل مباشرة بالأقمار الصناعية، وسواها من أدوات الدعم، مرفقة بإرشادات حول الصور المنشودة للبثّ.
وإن كانت «الدنيا» الرسمية تمارس عملها الاستقصائي هذا لخدمة حاكم الشام، فإن التململ المرتفع الصوت في «الجزيرة» يصبّ في سياق نعي مهنيةٍ كانوا يفخرون بها، أساساً. ويخبر البعض عن إهانات باتوا يتلقونها من الناس في الشوارع، في معرض الانتصار للثورة كما للنظام. ويروي آخرون عن سماعهم «مبروك» من محيطهم عند إبلاغهم بالاستقالة.
وتعيد أزمة «الجزيرة» النقاش الإعلامي إلى نقطته الأولى: أن «تفبرك» الصورة لا يعني أن تنتصر لثورة، وإنما أن تحوّل الموت إلى وسيلة. وأن تستبدل البث المباشر بمشاهد سينمائية روائية، لا يعني أن تخدم قضية، وإنما أن تغتالها، ومعها مصداقية الإعلام، وليس مصداقية «الجزيرة» فحسب. فالإعلام في عيون العرب ليس منزّهاً عن خدمة السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، لكنه حافظ على قدرته على نقل خبرٍ على الأقل، يكون مصدر معرفة. وعندما يصبح الخبر وجهة نظر، وعندما تتجرّد الصورة من قدرتها على الجزم، فإن «الحياة العامة» بكامل مسؤولياتها تضحى كذبةً، ويصبح الصحافي موظفاً بأجرٍ سياسيّ، وتنتهي طبيعة المعرفة إلى الاجتزاء، بحيث لا يكون شيء حقيقياً، من الموت وحتى كيفية الحُكم.
في جو شبيه، بات العمل في المؤسسة ينتقص من مهنية المستقيلين، حسبما أكّد بعضهم لنا، علماً أن عروضاً قدّمت لبعضهم كي ينتقلوا إلى موقع تغطية خارج الأزمة تلك. إلا أن ضغط الفضائح المستمرة دفع بهم إلى الاستمرار في قرار الاستقالة.. علماً أن أصواتاً ناشطة كثيرة تنتقد تغطية «الجزيرة»، خارج السياق السوري. ففي مصر، يعترض ناشطون على تحيّزها الحادّ لجماعة «الأخوان المسلمين»، كما أن الفصائل الليبية المتقاتلة تعتبرها طرفاً، فيواليها بعضٌ بينما يعاديها بعضٌ آخر.
إن انتقال تلك المؤسسة العريقة من موقع الصحافي إلى موقع اللاعب السياسي، يجعل الخبر قابلاً للرمي في سلة المهملات، لمجرد الاختلاف حول معناه: القتيل لم يقتل، والانفجار لم يقع، والناس ليسوا الناس، والصورة سينمائية..
ليست «الجزيرة» وحدها في سياق الاصطفافات على مستوى الرأي. لكنها كانت المبادرة إلى تحديد مستوى مهني للإعلام العربي، ولذلك، فإن اتهامها بالإخفاق المهني يعود على الجسم الإعلامي كله بالضرر، كما على المعرفة في مجتمعات تحتاجها كما تحتاج الماء، لتنهض.
سحر مندور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد