ممدوح عزام في رواية «نساء الخيال» الحفـر فـي ركـام السـتينيات
«نساء الخيال»، رواية ممدوح عزام الأخيرة الصادرة عن دار أطلس 2011، هي رواية تغري بالسيرية، وليس فقط لأن الراوي يسرد بضمير المتكلم، ويبوح بهاجسه الأساسي، ومن ذلك قوله المبكر: «احتجت إلى شهادات رفاقي، قيس وجميل ووضاح، من أجل إعادة ترسيم حدود النص، وضبط تقاطعات الحكاية، وتعويض النواقص، ولحم الحقائق والأحداث...»، فإذن هو أمام كتابة رواية، شاغلها التاريخ، وشواغلها الأخرى عديدة، منها قضية المرأة والحب، والكتابة، ولربما استعارة مقطع لمحمود درويش في الصفحة الأولى للكتاب: سأجلس وحدي كأني على موعد مع إحدى نساء الخيال. تحيلنا إلى العنوان، مثلما لو كانت الرواية التي ينوي كتابتها إحدى نساء الخيال.
هي حكاية يرويها راوٍ وحيد، بلا انقطاع ولا فواصل ولا استراحات، ما عدا بعض الهوامش على شاكلة هوامش الكتب البحثية التي تنوه لمعلومة أو تشرح مفهوماً ما، حيث ختم الرواية بالهامش السابع منها، وقد شكلت هذه الهوامش جزءاً من المتن السردي.
بلعبة الأرشيف وانكتاب الرواية، وهما ليسا طارئين على تجارب الروائيين، بالإضافة إلى استنهاض الذاكرة الشفهية لرفاق الراوي، والمكتبي «طعمة الله شمس الدين» الذي يشكل ركناً أساسياً في المرجعيات التي اعتمد عليها الراوي، يشتغل ممدوح عزام الروائي، عن طريق «زيدون» الراوي الذي لم يفصح عن اسمه إلاّ في الصفحة 165، عمله هذا، متتبعاً مصائر أفراد كانوا يشكلون جيل الستينيات من القرن المنصرم، ومستدرجاً مستويات الواقع من مراحل مختلفة إلى اللحظة الراهنة، يعمل فأسه بالحفر والتنقيب، لينفض غبار التاريخ والتراكم عن واقع الحياة بكل تفاصيلها وانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتطورها الزمني والتحولات التي آلت بها إلى الواقع الراهن لسوريا، في بقعة جغرافية أساسية هي منطقة الجنوب، ومحافظة السويداء تحديداً، مع فسح مساحة تخص المنطقة الشرقية حول الخابور.
ينقل المدرس زيدون إلى البناء القديم التابع لمديرية التربية، ويكلف بجرد وإتلاف الأرشيف الورقي لدار المعلمين، الذي تخرج منه في حقبة الستينيات. يرتبك أمام المسؤولية لأن «مهمة الاستغناء عن الوثائق توكل عادة لدى المجتمعات المتقدمة إلى مجلس قومي شبه محلف». بينما الأرشيف الذي كلف به لا يزيد عن كونه «كتلاً نتنة من مخلفات تاريخنا الحديث»، بدون أي ترتيب زمني، وهو يغطي فترة تمتد من عهد فرنسا، مروراً بالعهد الليبرالي، ويقصد به عهد خالد العظم، إلى الوحدة بين مصر وسوريا، حتى عام 1967. إذن هو أمام نفض الغبار عن المتراكم منه، وإعادة ترتيب التاريخ، ليتطهر من حمولته.
العصابة
تقع يده على ملف «عصابة الكف الأسود» تلك التي شكلها مع رفاقه (قيس ووضاح وجميل) أيام الدراسة في دار المعلمين، تيمناً بالعصابة الأوروبية المشهورة حينها، لكنهم يحملون رسالة أخرى، فهم يدينون العنف، وغايتهم نشر ثقافة الحب في عصر الإيديولوجيات، وإرسال رسائل الحب إلى الفتيات، منتقين نصوصها من التراث الشعري العربي في الحب والغزل، وهذا ما جعل حضور «طعمة الله» الوراق حاضراً في النص، كأحد المرجعيات الأساسية، وكشخصية يعلق عليها الهم الثقافي ومصير الكتاب في عصر التحول إلى الحياة الاستهلاكية التي شهدتها سوريا بعد مرحلة السبعينيات.
يتلقف «زيدون» الملف، وتبدأ عنده رحلة الحفر والتنقيب، ليفتح مخطوطه الذي كتبه قبل عشرين عاماً، ويعود إلى تعديله وإخراجه بصيغة جديدة، متكئاً على معارفه الجديدة وقراءاته، لتكون هي الأخرى أداة للدخول في قضية الكتابة الروائية، كما يتردد في أكثر من محلّ في العمل، «الرواية لا يمكنها أن تعيش إلاّ إذا أعادت خلق الحقائق. ثم يتتبع حكاية «ليلى السومري» حبه الأول، والوحيد كما اكتشف لاحقاً، لتبدأ الحكايات تتناسل من بعضها، وتنهض شخصيات العمل بالتتالي، حتى تفاجئنا شخصيات جديدة في الصفحات الأخيرة، كما شخصية «صفية» زوجة «خالد الطبال» المستخدم الذي التقاه أول وصوله ليستلم مهمته المنقول لأجلها، إذ يرد اسمها في الصفحة قبل الأخيرة ضمن الهامش السابع.
بتتبعه لحكاية «ليلى» التي كان اسمها من بين الأسماء الموجودة في ملف التحقيق الذي أجري معها، ينبش ممدوح عزام التاريخ، ويصوغ رؤيته النقدية بتوصيفه لكل مرحلة، معتبراً مرحلة السبعينيات هي المفصل في تحول البلاد بكل مجالات الحياة، يستعرض الواقع الثقافي بكل حوامله، من أدب وفكر وموسيقى وسينما، ويرسم ملامحه قبل وبعد حيث دخلت البلاد مرحلة الاستهلاك وتحولت المكتبة إلى نوفوتيه، كذلك المشهد السياسي، فبعد أن وصف مرحلة الستينيات بأنها تتسم «بالقدرية التي رسمت الشخصيات، والتي ظهرت في السلوك الاستسلامي الراضي والقانع والراضخ لمتطلبات الواقع»، تعرض للتحول في الحركات والأحزاب الموجودة في الساحة، فقيس الشيوعي انتهى إلى بعثي يلهث وراء المناصب، ووضاح الطوباوي الحالم، ينقلب إلى شخص مهزوم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وجميل الموهوب ينتهي إلى خطاط لافتات تحمل شعارات المرحلة. أما الأسلوب الأمني فقد تطور وتعددت الأجهزة الأمنية، فبدلاً من المكتب الثاني في مرحلة الخمسينيات والستينيات، أصبح هناك كثير من أجهزة الأمن، كالعسكري والسياسي وأمن الدولة، وغيرها، كما لم ينسَ التأريخ لعادات الناس وأنماط اللباس والمقاهي والتحول العمراني.
بعد هذا المشوار من البحث في الأرشيف واستنهاض ذاكرة رفاقه والمكتبي وبعض الأشخاص الآخرين، والمقابلة بين القرائن، وهو يحاول الإجابة على السؤال الذي لم يسأل إلاّ في لحظة كتابة الرواية بصيغتها الجديدة عند زيدون: لماذا لم نرسل لها رسالة حب؟ نكتشف أن ليلى التي كانت تنتظر رسالة الحب، كانت حلم كل الذين حولها، حلم أفراد العصابة الذين تعاهدوا على عدم كتمان سر عن بعضهم، وتعاهدوا أيضاً على صون أهدافهم، فإذا بالشقاق يقع بينهم، وكل واحد يفكر بليلى ويحلم بها بمعزل عن البقية. وإذا بهم أيضاً، على لسان الراوي، «بلا خيال، أو أن التشابه المطلوب لديهم بيننا يزحزح حدود الاختلاف، ويلغي فرضيات المخيلة اللامحدودة». ويكتشف هو أيضاً، بعد لقائه الأخير بها، بعد أن دله خالد الطبال إلى مكان عملها في دمشق، أنه لا يدري شيئاً عن العالم الذي ترنو إليه، وأنه ضيع فرصته في أن يعبر لها عن حبه، وهي التي تبحث عن حبها. «ليلى السومري» هي الوطن الذي ضيعنا الكثير من فرص البوح بحبه. يقول وضاح حول البوح بالعواطف «هو ثرثرة الضعفاء الباحثين عن الدعم في القضايا الخاسرة، الأمر الوحيد الجدير بالمجاهرة هو (روح المقاومة) كبديل عن المقاومة»، فهي «الكينونة».
وبعد اللقاء الأخير وقد صارت ليلى امرأة في الأربعينات من عمرها، يفشل في البوح عن حبه لها، وأنها لا تحب الحكي لأنها لا تحب الماضي، والحكمة التي مشت عليها: لا تنظري إلى الوراء، كدعوة من الراوي إلى المستقبل، والتخلص من وزر الماضي، خاصة ما يعيق منه.
هكذا، بعد أن أخبرنا الراوي بداية بأن: «شغلي يقتصر على سرد التاريخ، أو إعادة تفسير الحكاية» ويعرض لنا تفاصيل الحكاية، التي كانت تتزاحم بكثافتها وحماوتها، وهو يؤسس لروايته ويبرع في نحت شخصياته، لا يضير الكاتب أنه كان يظهر بين الحين والآخر مكان الراوي، يبرر له عملية التفنيد الرائجة في النص وهذا ما يغري بالسيرية أيضاً، يبقى على القارئ أن ينسج رواية «ممدوح» عزام بصيغتها النهائية، وحمولتها المتنوعة.
سوسن جميل حسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد