نجيب محفوظ بين الرواية والسينما
بدأت رحلة نجيب محفوظ مع السينما في وقت مبكر من حياته الروائية, كان ذلك في عام 1947 عندما التقى الأديب الشاب آنذاك مع المخرج الشاب صلاح أبو سيف الذي اشتهر بمساعدة المخرج كمال سليم في فيلم (العزيمة).
وتمتد المرحلة الأولى لرحلة نجيب محفوظ في عالم السينما من هذا التاريخ وحتى نهاية الخمسينيات, وقد غلب عليها كتابة السيناريو عن أعمال أدبية عربية وعالمية ليست من تأليفه, وأغلبها كانت بمشاركة المخرج صلاح أبو سيف وكان ينفرد بكتابة السيناريو أحيانا, ونجد أن أول فيلم كتبه محفوظ كان عن قصة لإبراهيم عبود بعنوان (المنتقم) 1947, أول أفلام المخرج صلاح أبو سيف.
وخلال هذه الفترة لم يكتب محفوظ أي سيناريو عن رواياته, وباستثناء الفيلمين التاريخيين مغامرات عنتر وعبلة 1948 و الله وأكبر 1959, دارت أحداث سيناريوهات في الحارات الشعبية وأوساط الفتوات, ووصف نقاد السينما هذه الأفلام بالواقعية, وحتى تلك الأفلام المأخوذة عن روايات عالمية مثل ثالث سيناريوهات (لك يوم يا ظالم) مقتبس عن قصة تيريز راكان لأميل زولا 1951 لا يشك المشاهد أن هذه الأحداث تقع في القاهرة.
وفي مرحلة تالية بدأ نجيب يكتب سيناريوهات مع أبو سيف عن حوادث شغلت الرأي العام, فكان منها (ريا وسكينة) 1953 و (الوحش) 1954 و(جعلوني مجرما) 1954.
ويدخل محفوظ عالم الفتوات في أحياء القاهرة وأسواقها الشعبية بأسلوبه الواقعي الغارق في تفاصيل المكان والشخصيات , فكان منها أفلام (فتوات الحسينية) 1954و (النمر) 1956 و(الفتوة) 1957.
وينهي نجيب محفوظ هذه المرحلة من كتابة السيناريو بتنوع ينم عن رؤية عميقة لكافة شرائح المجتمع, فكتب عن قصص إحسان عبد القدوس سيناريو (الطريق المسدود) 1958 و(أنا حرة) 1959 عن مشكلات الفتاة البرجوازية, وعن مشكلات الطلاب (احنا التلامذة) 1959.
لكن مشاركته الأهم كانت في فيلم وطني عن المناضلة الجزائرية (جميلة) 1958 كتبه بالمشاركة مع عبد الرحمن الشرقاوي عن قصة كتبها يوسف السباعي وأخرجه يوسف شاهين, كما يحسب فيلم (بين السما والآرض) 1959 إخراج صلاح ابوسيف, أكثر الأفلام تشريقا وجرأة حيث تدور أحداثه داخل مصعد معطل, ومع التشويق يقدم محفوظ فلسفة الحياة عند شرائح مختلفة من المجتمع جمعها مصير واحد.
المرحلة الثانية من رحلة نجيب محفوظ مع السينما التي تبدأ مع بداية الستينيات, وتتميز بقيام كتاب سيناريو مشهورين بنقل رواياته إلى السينما, وكانت البداية برواية (بداية ونهاية) 1960 ثم (اللص والكلاب) 1962و (زقاق المدق) 1963 الذي أخرجه حسن الأمام وكتب له السيناريو سعد الدين وهبة, ثم ثلاثية (بين القصرين) 1964 (قصر الشوق) 1967.
ومن الأفلام المنقولة عن رواياته في هذه المرحلة (الطريق خان الخليلي القاهرة 30 السمان والخريف دنيا الله ميرامار السراب).
ومع شهرته ككاتب روائي كبير قام في هذه المرحلة بكتابة سيناريوهات عن قصص لغيره منها ثمن الحرية عن مسرحية روبلس 1964 و شيء من العذاب عن قصة أحمد رجب 1969 وبئر الحرمان عن قصة إحسان عبد القدوس ودلال المصرية عن قصة البعث لتولستوي.
وفي مرحلة السبعينيات يميل نجيب محفوظ إلى تضمين كتاباته نهجا فكريا ويناقش أزمة المفكرين العرب ومشكلة الحرية والديمقراطية في تلك المرحلة مع الحفاظ على الطعم الواقعي, مستفيدا من التغير في السلطة وكانت البداية مع يوسف شاهين بفلم الاختيار ثم ثرثرة فوق النيل مع حسين كمال 1971و صور ممنوعة مع مدكور ثابت 1972 وامبرطورية ميم عن قصة لإحسان عبد القدوس 1974.
وكان يعود أحيانا إلى المشكلات الاجتماعية المعاصرة ولاسيما المتعلقة بالطبقة الوسطى من الموظفين والمحامين ومنها ذات الوجهين الشحات اميرة حبي أنا الحب تحت المطر.
ولا يلبث أن يتحدث عن مراكز القوى كما أطلق عليهم آنذاك ومنها أفلام الكرنك المذنبون, كما يعود إلى الأحياء الشعبية وعالم الفتوات فكان منها فتوات بولاق وكالة البلح التوت والنبوت الجوع.
ويكتب عن الصراع داخل عالم رجال الأعمال فكان منها أيوب الذي عاد به عمر الشريف إلى السينما العربية, كما يذهب إلى عالم المهمشين في (الحرافيش) 1986.
ويبقى نجيب مدهشا حتى اواخر الأعمال التي كتبها للسينما, التي تنتهي بفيلمي نور العيون وسمارة الأمير 1992, وينقل المخرج الواقعي عاطف الطيب فيلمين عن رواياته هما الحب فوق هضبة الهرم 1986 وقلب الليل عاطف الطيب 1989.
باختصار نجيب محفوظ كان قمة في السينما العربية, تماما كما كان هرما في الرواية.
عندما زادت شهرة نجيب محفوظ عالميا بعد حصوله على جائزة نوبل, اتجهت إليه أنظار سينمائيي العالم الثالث المهتمة بالقضايا الإنسانية. فقام المخرج المكسيكي أرتورو ريبستينص بنقل روايةص بداية ونهاية التي حولها إلى السينما بذات العنوان مترجما إلى الإسبانية سنة 1993, ويعد أرتورو ريبستين من طلائع المخرجين الملتزمين وتميزت سينماتو غرافيته بالاقتباس الأدبي, فهو أول من حول إلى الشاشة أعمال ماركيزو بارغاس وغيرهما و بعد سنتين قدم المخرج المكسيكي خورخي فونس فيلم زقاق المعجزات مقتبسا عن رواية (زقاق المدق) وكتب السيناريو فيسينتي لينيرو عن نص إسباني ترجمته هيلينا فالينتي, وجمع زقاق المدق بين عبقرية الكتابة والإخراج.
وقدم فونس رواية نجيب محفوظ في أربعة أجزاء تدور في زقاق المدق الحي الفقير وسط ميكسيكو العاصمة. ويدور الجزء الأول منها حول شخصية (دون روتيليو) الذي قام بدوره إرنيستو غوميث كروث, بينما يدور الجزء الثاني حول ألما الشخصية المحورية التي قامت بأدائها وبأول ظهور للشاشة العالمية الممثلة من أصل عربي سلمى الحايك.
وقد رصد أدب نجيب محفوظ في السينما المكسيكية الكاتب عبد اللطيف عدنان المقيم في هيوستون بولاية تكساس ونشرها في الصحف الأميركية.
ورصد الكتاب المصري حسن عطية أعمال محفوظ في كتاب (نجيب محفوظ في السينما المكسيكية), وتحدث فيه عن انطباعات محفوظ بعد أن شاهد شخوصه تتحرك على شاشة غير عربية وتتحدث باللهجة المكسيكية.
تولى نجيب محفوظ إدارة المؤسسة العامة للسينما المصرية ومن قبلها مؤسسة دعم السينما وساهم في الرقابة أيضا, وقد ظهرت في عهده روائع السينما الملتزمة, كما سبق أن الزم قضايا الطبقة الوسطى والشعبية من خلال السيناريوهات التي كتبها قبل ثورة تموز.
وخلال مسيرة نجيب محفوظ السينمائية نلاحظ أنه كان منفتحا على الشباب وبعيدا عن الاستئثار والأنانية, فكان يشارك الآخرين في كتابة السيناريو, ويكتب سيناريوهات عن قصص لغيره حتى من هم أقل شهرة منه.
وتميزت أعماله بالتنوع بحيث يمكن القول أنه أجرى مسحا شاملا لكل قضايا المجتمع بمختلف أفراده وجماعاته ومن المثقفين المفكرين إلى الضائعين فكريا, ومن القصور إلى الحارات الشعبية, بل ذهب إلى عالم المومسات مبينا ظروف دفعت بهن إلى هذا العالم.
ونلاحظ أن نجيب لم يكتب السيناريو لأي من رواياته وترك هذه المهمة لغيره, في وقد استمر فيه بكتابة السيناريو عن قصص الآخرين. وعندما تولى نجيب إدارة المؤسسة العامة للسينما لم يوافق على إنتاج أي من رواياته وتحويلها إلى عمل سينمائي ليمنع المخرجين التمسح برواياته لتحقيق فيلم, وتقديرا لإسهاماته السينمائية قرر مهرجان القاهرة منذ بضع سنوات منح جائزة باسمه للمخرجين الشباب.
محمد قاسم خليل
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد