(وثائق سورية):كلمة عبد الناصر في حفل أضواء المدينة بدمشق

أيها الإخوة:
     ونحن نستقبل العام الرابع لجمهوريتنا العربية المتحدة أشعر بالطمأنينة نحو المستقبل؛ المستقبل العزيز الكريم الذي يتمناه كل فرد من أبناء هذا الشعب، فإن هذا الشعب لم يكتشف زعيماً ولكنه اكتشف نفسه؛ فقوته هي العامل الرئيسي في كل ما تقدمه جمهوريتنا.. قوة الشعب العربي الذي كان يشعر بالضياع في الماضي حينما سيطر عليه الاستعمار وأراد أن يضعفه ويقسمه ويقطع أوصاله، لم ينس نفسه أبداً، ولم ينس الماضي، ولم ينس قوته أو ينس عزيمته لأنه الشعب العربي الأصيل.
     هذا الشعب حينما قاوم وكافح، كان يقاوم ويكافح من أجل معان راسخة في روحه وفى قلبه وفى دمه. هذا الشعب حينما بذل الأرواح والدماء لم يكن يبذلها بدون هدف، ولكنه كان يعرف الهدف، وماذا كانت نتيجة الكفاح؟ كانت نتيجة الكفاح أن الشعب العربي كله قد اكتشف نفسه وأن الشعب العربي قد عرف عوامل ضعفه وعرف أيضاً عوامل قوته. وكان من الواضح للشعب العربي الحر أن عوامل قوته في وحدته، وعوامل ضعفه في فرقته فآثر على أن ينبذ الفرقة ويتحد؛ حتى يحمى قوميته العربية، وحتى لا يدع للاستعمار أو للصهيونية مجالاً حتى تعيد التجربة التي رأيناها في عام ٤٨ مرة أخرى.
     إن ما حدث في عام ٤٨ لم يكن أبداً بسبب عوامل عسكرية فقط ولكنه كان بسبب عوامل أخرى كثيرة. فالمخطط السياسي هو الذي يؤثر على المخطط العسكري، ولا يمكن لأي خطة عسكرية أن تنجح إلا إذا كانت الخطة السياسية خطة سياسية سليمة. ولم يكن هذا فقط هو عامل إضعافنا؛ لأن الفرقة هي السبب الرئيسي لما ابتلينا به في عام ٤٨. كانت الوحدة التي تكلمنا عنها في هذه الأيام وحدة زائفة؛ لأن القيادات إذا تعددت خصوصاً في الناحية السياسية، وإذا اختلفت السياسات الخارجية، واختلفت السياسات الداخلية، واختلفت القيادات العسكرية فلا يمكن للنجاح أن يجد سبيلاً بأي حال من الأحوال؛ كانت هذه هي عوامل نكبة ٤٨، وكان الاستعمار والصهيونية يريد لهذه العوامل أن تستمر.
     ولقد قرأت في إحدى الصحف الإسرائيلية أن الخطر الكبير على إسرائيل هو من دمشق وهو من سوريا. وكانوا يقولون إن علينا أن نصفى الأوضاع في سوريا؛ لأن سوريا كانت خطراً دائماً على الاستعمار وعلى الاحتلال. وكانوا يريدون أن يكرروا التجربة التي حدثت في عام ٤٨ حيث استطاعوا أن يضربوا العرب بلداً بلداً، وأن يفرقوا العرب فرقة أثرت على بقعة عزيزة من أرض العروبة وهى فلسطين.. فأقاموا فيها قومية صهيونية يهودية بدلاً من القومية العربية، فماذا كان بعد ذلك؟
     لقد اكتشف الشعب العربي بوعيه، وبخلاصة روحه ونفسه اكتشف نفسه، واكتشف عوامل الضعف واكتشف عوامل القوة، اكتشف كل هذه العوامل، وصمم على أن يسير في طريق القوة وينبذ طريق الضعف، فكانت عزيمته ودعوته العالية الجبارة من أجل تحقيق الوحدة العربية. واستطاع الشعب العربي الذي اكتشف نفسه والذي اكتشف عوامل الحياة وعوامل القوة أن يقيم جمهوريتكم العربية المتحدة. استطاع هذا الشعب أن يرسم الطريق، وقد قلت في الماضي إن شعب الجمهورية العربية المتحدة شعب واع يقود ولا يقاد. واستطاع هذا الشعب أن يفرض الوحدة، واستطاع هذا الشعب أن يدعم الوحدة ويقويها كما حصل على الاستقلال وكما دعم الاستقلال وحماه.
     هذا هو الشعب العربي، هذا هو شعب الجمهورية العربية المتحدة الذي اكتشف نفسه واكتشف عوامل قوته، ولن يستطيع أي فرد من الأفراد أن يجعله يحيد عن هذا الطريق.
     وأنا حينما أسير في السياسة التي تسير فيها حكومة الجمهورية العربية المتحدة إنما أشعر بمشاعر هذا الشعب وأحاسيسه وأتخذ قراراتي على أساس مشاعر هذا الشعب وأحاسيسه؛ لأن شعب الجمهورية العربية المتحدة هو الجيش الكبير الذي يحمى هذه الجمهورية.
     ولن يستطيع أي فرد أن ينحرف عن الطريق الذي رسمه هذا الشعب من أجل حرية سياسية حقيقية، وحرية اجتماعية حقيقية، من أجل أهداف وشعارات تنبع من الشعب وإلى الشعب لا من أجل شعارات زائفة وألفاظ خادعة براقة. هذا الشعب الواعي الذي كافح الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، والذي كافح الصهيونية، والذي كافح العملاء وصمم على أن يحمى بلده فحماها، سيسير في طريقه؛ لأنه هو القائد.. الشعب الحر الأبي هو الشعب القائد، الشعب الذي رسم الطريق لن يجعله أي فرد، ولن تجعله أي فئة، أو أي شعارات يحيد عن الطريق، لماذا؟ لأنه هو الذي رسم الطريق من قلبه، ومن روحه، ومن أحاسيسه، ومن آلامه، ومن كفاحه، ومن آماله. وإنه يسير اليوم بعد أن جعل من هذه الجمهورية العربية المتحدة طليعة للحرية وقاعدة للحرية، وبعد أن جعل من نفسه طليعة للزحف المقدس، يسير في سبيل تحقيق أهدافه الاجتماعية وتحقيق أهدافه السياسية وهو مطمئن إلى مستقبله، وهو مطمئن إلى قواته المسلحة؛ لأن القوات المسلحة في هذه الجمهورية ليست لفرد أو أفراد، وإنما هي الجيش الوطني القوى الذي يحمى الوطن الحر القوى. يسير الشعب بكل فئاته العامل والفلاح والتاجر والصانع والمزارع والموظف، بكل فئاته، كل يطمئن إلى مستقبله، كل يطمئن إلى أن الاستقرار يسود فى هذه الجمهورية، كل يطمئن إلى أن هناك قوات مسلحة آلت على نفسها وعاهدت الله وعاهدت الوطن أن تحمى أرضه الطاهرة بأرواحها ودمائها، كل فرد يشعر بهذا، وكل فرد أيضاً عاهد الله والوطن أنه يمثل جزءاً من الجيش الأكبر الذي يعمل من أجل التنمية، ومن أجل البناء، ومن أجل إقامة عدالة اجتماعية وديمقراطية اجتماعية. ولكنه إذا دعا الداعي يحمل السلاح ليدافع عن هذه الأرض الطيبة المقدسة.
     هذا هو شعارنا في جمهوريتنا؛ العمل من أجل المستقبل، العمل للجميع، العمل من أجل تدعيم حريتنا، العمل من أجل إقامة ديمقراطية سياسية، وديمقراطية اجتماعية، القضاء على الاستغلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي. والله يوفقكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
المصدر:صحيفة الأهرام  تاريخ 21 شباط 1961.

الجمل- إعداد:د. سليمان عبد النبي