متعة وإثارة.. في «مباراة الملاكمة» اللبنانية!
يفاجئك فواز عندما يردد: «كان يوماً انتخابياً طويلاً». نحن على أحد طرق دمشق، ننتقل من مكان إلى آخر فيها. لسنا في بيروت وليس في الوارد حتى طريقها. راديو سائق سيارة الأجرة هذا يثير الأعصاب: الموجة مثبتة على إحدى الإذاعات اللبنانية، وتردّدها لا يصل بشكل جيد.
الساعة تجاوزت بقليل السابعة مساء. أزيز وخشّة موتّرة، وحديث المذيعة يتقطع، يغيب ويعود. سماع أي شيء يصير بحاجة إلى أذن فيل عندما ينتقل الحديث إلى مراسلي الإذاعة وهم ينقلون التوقعات. لا فرق عند فواز: يبتسم. المهم انه يلتقط جملة هنا، ورقما هناك. وهذه «اللقاطة» تكفي فواز ليدعّم تحليلاته وينشطها. يفاجئك بمدى معرفته للتفاصيل الانتخابية اللبنانية. يطالعك بالتوقعات، ويحسب عدد مقاعد المعارضة والموالاة ولا يفوته المستقلون، «لكنهم لن يحدثوا فرقاً في النتائج»، يؤكد.
ما الذي يجعله معنيا إلى هذا الحد بمعرفة شأن لا يخصه ولا يؤثر عليه؟ ينتفض. يسأل مستنكراً: «كيف لا يؤثر علي؟! أي شيء يهز إسرائيل وأميركا يعنيني». ينعطف في شارع ضيق. سائق آخر يحاول ركن سيارته، فيعيق السير. يتضايق آخرون، وفواز على ابتسامته باق. لا حاجة إلى سؤاله من «يشجع» في الانتخابات اللبنانية، فهو يريد هزّ أميركا وإسرائيل، لكن هل يتوقع الفوز؟ «الفرق سيكون بسيطاً، بين مقعدين وسبعة مقاعد على الأكثر». لصالح من؟ ابتسامة أوسع على ملامح فواز، هذا جوابه. وما الذي يغيره إذا فاز فريق فواز، وبهذه الأفضلية البسيطة. يرد الرجل الثلاثيني، بنفس المحلل الهادئ، بأنه مع ذلك الفائز ستشكل الحكومة القادمة، وستمكنه من دفة القيادة الرمزية. وهذه الدفة، وكيفما أديرت، كيف تؤثر على فواز؟ يتنشط، ويذكر من جعبة أرقامه :«لدينا 500 ألف عامل سوري في لبنان. أكيد سيؤثر علينا من يؤلف الحكومة الجديدة. قليلة هي البهدلة التي نالها العمال المساكين في عهد الحكومة الماضية. إذا شكلت المعارضة الحكومة ستتحسن حال العمال السوريين ولن يتعرضوا لنفس المعاملة السيئة».
تغادر فواز، وهو، بعد هذا الحديث «السياسي» العابر، يرجوك أن تترك الأجرة على حسابه: «حلوان مسبق للفوز». تتمنى له التوفيق، وتناوله أجرته مؤكداً له انه إذا لم يفز فريقه فلن يجدك لاسترجاع حلوانه، يعبس ممازحاً، وتعلو وجهه ابتسامة اعرض: هذا تأكيده!
ليس اهتمام فواز فريداً من نوعه. اختلف المشهد في المقهى الذي كان يعرض، على شاشة تتصدره، خطاب باراك اوباما منذ أيام. وقتها كان السياح مشدودين للخطاب، أما المرتادون المحليون فكانوا منشغلين بأحاديثهم. يوم 7 حزيران انعكس المشهد. النقاش جار على أشده بين الزبائن السوريين، ويلعب النادلون دور مذيعي الموجزات الإخبارية، مطلعين كل زبون قادم على آخر التطورات. السياح لا يعطون الشاشة بالاً، إلا التفاتة صغيرة عندما يعرفون أن الحديث الدائر، بين الزبائن والنادلين، هو حول ما تبثه. التفاتة مستغربة ربما، فلا حدث فاقعاً يظهر على الشاشة. مجرد ناس يتحاورون، وصور مقسّمة. لا انفجارات ولا اشتباكات.
وهذا الاهتمام من أساسه بالشأن الداخلي اللبناني، ليس جديداً على الشارع السوري. نزار قرر مقاطعة صفحات المحليات في الصحف اللبنانية، وهو قارئها المياوم، لأنه يرفض معرفة المزيد. يرفض ويبرر بأن هذا مرض، وتعويض خاطئ عن نقص. برأيه أن السوريين يعرفون النواب والوزراء اللبنانيين أكثر مما يعرفون نوابهم ووزراءهم. يتحدى أن تتوجه إلى أي شخص «عادي» ويؤكد انك ستجده يعدّ أسماء وأسماء لبنانية، ولن يتجاوز في عده لأسماء سورية أصابع اليدين، على أحسن تقدير.
وليس عند أبو هاني الخبر اليقين. هو حالة خاصة، يعدّ مسؤولين سوريين ولبنانيين بسهولة. وهو ليس موالاة وليس معارضة «لبنانية»! منذ شهرين تقريبا استقدم إلى محل سمانته الصغير تلفزيونا ملونا. بعد أسبوعين وصله بصحن لاقط (ستلايت)، ومنذ ذلك الوقت لم يصدف أن حاد خياره عن القناة البرتقالية. في ليل 7 حزيران يواصل البيع: عين على الشاشة وأخرى بين الميزان وجرار الغلّة. «طوشوا لنا راسنا»، يقول وهو يعيد حساب ما يرجعه لأحد زبائنه. يؤكد لك أن لا علاقة بين مشاهدته للشاشة البرتقالية وميوله لأي من المعسكرين اللبنانيين المتنافسين. أبو هاني؟؟! يؤكد مجدداً، لكن بوقار «والله لست مع أحد». لكن لماذا تتابعهم منذ الصباح إذاَ؟ يقول إن كل ما هنالك يتعلق بالمتعة والإثارة :«نحن ليس لدينا شيء كهذا. الانتخابات عندنا محسومة قبل أن تبدأ. أحيانا عـندما نرى ذلك عند الآخرين نحس بالتعطش لمنافسة حقيقية. يا رجل يقولون للمسؤول عندهم حرامي وفاسد علناً، وفي وجهه. لو حدث ذلك هنا لمزق المسؤول من ينتقده بهذه الطريقة. لن ابتعد، أنا نفسي إذا قال احد عني ذلك أمزّقه».
يشاهد أبو هاني فصول اليوم الانتخابي كما يشاهد «مباراة ملاكمة»، يقول بدون تردد. لا يعنيه من سيخسر أو سيربح، تكفيه المتعة التي يحصل عليها ريثما تعلن النتائج :«وحتى بعد إعلان النتائج، هل تظن أن الأمر انتهى؟ لا، سيكون هناك منتقدون ومعترضون وقصص لها أول وليس لها آخر».
أين فواز الآن؟ على الأقل لم يخسر «الحلوان»! (بعد أن خسرت المعارضة). ستستمر الإثارة، ويستمر معها السوريون في تنسّم نوع من المتعة والإثارة تأتيهم بهما رياح الموسم الانتخابي اللبناني، أو غيرها من رياح المواسم الطارئة. مواسم لا تنتهي، وإدمان صار حاجة لا مجال لسدها إلا من خلال تلك المواسم على غير بيادرهم؟
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد