المسلمون وأوروبا.. وإشكالية ثنائيات الآخر

21-02-2009

المسلمون وأوروبا.. وإشكالية ثنائيات الآخر

يأتي كتاب «المسلمون وأوروبا - التطور التاريخي لصورة الآخر» للمؤرخ العربي قاسم عبده قاسم (دار عين للدراسات - القاهرة 2008) ليكشف لنا أن إشكالية التعامل الغربي مع الإسلام والمسلمين بكل ما تستثيره من تحيزات أو اخفاقات أو صناعة للقوالب الذهنية تثير مفارقة واضحة، خصوصاً لدى من يحاولون استلهام الإدراك الحقيقي لمعنى الأمة الإسلامية أو حتى لمعنى الإسلام من خلال الغرب، ففي الوقت الذي نجح الغرب في استلهام أسس نهضته الحضارية من خلال استكشاف أصوله الإغريقية واللاتينية عبر الحافظة العربية والإسلامية التي نقلت صوراً صادقة للتراث الإغريقي الى الغرب في بواكير مرحلة نهضته من دون اسقاط أو تغيير مخل، نجد أن كثيرين – من أبناء الأمة الإسلامية والعربية – ممن يحاولون استجلاء أسس النهضة العربية والإسلامية من خلال الحافظة الغربية ومن بطون كتب المستشرقين، ينتهون الى ما يزهدهم تماماً في تراثهم الحضاري أو ما يعمق قطيعتهم مع جذورهم الثقافية والدينية والتاريخية.

ويؤكد الكاتب أن تبني الخطاب الغربي عن الإسلام عادة ما ينتهي بالمرء الى حالة من التشكك في بعض الأحيان أو المعادة في أحيان أخرى، أما مجرد ترديد هذا الخطاب والترويج لمفاهيمه فيفضي الى حالة من التشتت التي تفتقد الى أي مدلول، وبخاصة بعد أن انتهى الخطاب الغربي الى هذه الحالة من التعقد والتعدد والتشابك، والتي تتضاد نتائجها الى درجة التعارض الكامل.

وما ان يفرغ القارئ من قراءة الكتاب حتى يجد أمامه حقيقة جلية، وهي أن الخطاب الغربي عن الإسلام والعرب يحوي في داخله كل الثنائيات المنطقية التي يمكن استخلاصها، فهو قد أثبت للإسلام والمسلمين والعرب الكثير من الصفات كما أثبت عكسها تماماً أيضاً بحيث لا يمكن في النهاية أن نحاكمه بناء على أي منها على حدة من دون أن نقع في مشكلة التحليل الانتقائي، فهو قد أثبت للإسلام صفة التهديد ونفاها عنه في الوقت ذاته، وأقر أن المسلمين يشكلون أمة ثم أنكر أن المسلمين يمثلون شيئاً متجانساً، وأقام بنياناً معرفياً قائماً على التعامل مع الشعوب الإسلامية وفقاً لمنهجية ثقافية تؤمن بخصوصية المكون الإسلامي لدى هذه الشعوب، ثم عاد لكي ينكر أن يكون لاستخدام الإسلام كعنصر تفسيري أي دلالة تحليلية، وأعلن أنه يقيم فصلاً بين الإسلام من حيث هو دين عالمي مرموق ومتسامح وبين ما يرتكب تحت ستاره من أعمال إرهابية، ثم توصل الى أن الإرهاب يمثل صفة متأصلة في الإسلام من حيث هو دين وفي المسلمين والعرب بالتبعية، لا فارق في ذلك بين الجماهير العريضة وبين الجماعات المسلحة ولا فارق أيضاً بين الأنظمة المعتدلة والأخرى الراديكالية.

ويؤكد الكاتب أن هذه الرؤى المتنوعة فضلاً عما تؤدي اليه من ارتباك، فإنها تجعل البعض يتصور أن صوغ رؤية ذاتية مستقلة بعد ذلك هي أمر من الصعوبة بمكان، فالغرب لم يدع لنا شيئاً لكي نقدمه أو نقوله عن أنفسنا، ومن هنا تكمن خطورة الثنائيات التي يقدمها الخطاب الغربي عن عالمنا الإسلامي والعربي، فهي تدع المهتم بهذا الشأن بين خيارات كلها مرة، فهو إما أن يؤمن بخطورة التهديد الذي يمكن أن تستثيره الأمة ومن ثم بخرافة ما يثار عن التهديد الإسلامي، وبمعنى آخر، إما أن يقرأ الأحداث قراءة ايديولوجية وإما أن يتعامل معها بشكل واقعي لا مجال لغير الاحتمالات الملموسة، وما يقال عن سائر القضايا الأخرى، والتي يمثل الإسلام والمسلمون والعرب القاسم المشترك فيها.

وعالج الكتاب أيضاً الأفكار والمداخل التي تصلح كمعايير للنظر والتحليل والتي أقرها الإسلام نفسه، فمعنى الوسطية الدينية وتكامل الديني مع الدنيوي ومحورية العقيدة في حياة البشر وعدم الاستسلام للحتميات الاقتصادية والارتباط المعنوي الذي يلم المسلمين في شتاتهم، وروح الجماعة التي تبرزها كافة الشعائر الدينية الإسلامية، وارتباط المعاداة والمسالمة بمدى سريان منهج الله في الأرض والتعايش مع الآخر طالما لم يبدأ بعدوان، كل هذه الأفكار وغيرها تخلو منها معظم الرؤى الغربية التي تتصدى لدراسة العالم الإسلامي والتي تنطلق من قناعات وافتراضات مغايرة. فالخطاب الغربي يتعامل في مجمله مع الإسلام وأتباعه على أنه ظاهرة غربية أو شمولية تحاول أن تمد نطاق سيطرتها الى كل جوانب حياة المرء، فالإسلام وفق الفهم الغربي يحاصر الإنسان بشكل كامل، مرة من داخله: بتنظيم انفعالاته وتوجيه قيمه ومرة من خارجه: عبر صوغ شبكة من التفاعلات الشرعية التي لا ينبغي له أن يحيد عنها وفوق هذا وذاك يحدد له مقاصده العامة وأهدافه التي ينبغي أن يسعى لإدراكها في حياته القصيرة. والإسلام بهذا المعنى هو شيء غير موجود في الغرب الذي يعتبر أن محركه الأساس يتمثل في اللاقيود والتحلل من كافة الآثار الموروثة. التعامل الغربي مع العالم الإسلامي، وفقاً للرؤى السابقة، يثير إشكالية التطرق الى دراسة قضايا الإسلام من خلال مداخل غير ملائمة، أو انطلاقاً من قناعات بحاجة الى برهان.

هذه الدراسة المتميزة حاولت من خلال أقسامها الثلاثة أن تلقي أضواء كاشفة على تلك الرؤية، إذ تتناول في شق منها التطور التاريخي لموقف المسيحيين الشرقيين عامة من حركة الفتح الإسلامية، والتعامل مع الدين الإسلامي والمسلمين وحرص الكاتب على وضع نصوص كاملة أو شبه كاملة لكي يقف بنا على ملامح الصورة لدى الذين كتبوا آنذاك. وأشار الى أن هذه النصوص تعبر عن آراء رجال الكنيسة وليس بالضرورة عن النفسية الجمعية والتصورات العامة لدى الناس العاديين الذين لا نملك من المصادر ما يرشدنا الى موقفهم الحقيقي.

وفي الشق الثاني من الكتاب يتناول التطور التاريخي لصورة الآخر في كل من أوروبا والعالم المسلم مؤكداً أن ثمة علاقة متعددة الجوانب بين العالم المسلم وأوروبا تغيرت على مر القرون بحسب الظروف وتركت بصماتها على صورة الآخر لدى كل منهما. ومن ناحية ثالثة تحاول الدراسة أن تبرز الاختلاف بين مفهوم (التسامح) في الثقافة الغربية عموماً، وفي الثقافة العربية الإسلامية قديماً وحديثاً، موضحة كيف ان اختلاف مفهوم التسامح على هذا النحو قد ترك تأثيراً واضحاً على صورة الآخر في كل من الثقافتين، وكيف انه ما زال يحكم موقف كل منهما من الآخر في أيامنا هذه أيضاً.

عمرو عبد العزيز منير

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...