العبودية هي ما تفرضه اسرائيل وأمريكا علينا
على رغم القلق والخوف من الإجرام الإسرائيلي المعهود، إلا أن عملية حزب الله استقبلت بفرح غامر وبالتأييد وبثقة بصوابيتها. ليس في فلسطين فحسب، التي فكت العملية اسر الموقف فيها، المصطدم بمأزق تام علاوة على غرقه وسط انفلات الإجرام الإسرائيلي من كل عقال. وليس في عموم المنطقة العربية فحسب، المنهكة من فرط الإحساس بالحيرة والعجز واللاجدوى، وشيء من احتقار الذات أو ضياعها على الأقل. بل كذلك في العالم، حيث قد لا يتخيل احد مقدار اتساع الأوساط التي تقف أمام العنت الإسرائيلي مشدوهة ومشمئزة. ثمة فارق هائل، تسطّره تحديداً مثل هذه اللحظات، بين ما يبدو مستتباً لأنه يتبع توازنات القوى كما تتبدى، أي بوصفها عملية جمع حسابية لتفوق السلاح ولحيازة التغطية الدولية - الأميركية اليوم - العمياء، وبين قوة القناعة العامة، ما يمكن تسميته الضمير أو الموقف الأخلاقي، الذي تخلط عقلانية مبتذلة بينه وبين الوهم، بينما هو في صلب كل الحسابات، تتنازع عليه القوى المتقابلة سعياً للسيطرة على تشكّله، وتستهدفه مخططاتها من أجل حجبه وإخماد تمظهره حين لا يمكنها توظيفه كما تشتهي. لكنه موجود. لذلك، فالفرح والتأييد والثقة، كتعبيرات عن القناعة العامة، هي عناصر سياسية بامتياز وجزء من حسابات التوازن لا يمكن تجاهلها في أي تحليل سياسي جاد. وهي هذه ما يستهدفها تحريك الجيوش وقصف الطائرات والمدافع، والاستنفار الإسرائيلي، الديبلوماسي والإعلامي الاستثنائي، منذ خطف ذاك الجندي على تخوم غزة، وبعده منذ تدخلت عملية حزب الله في المشهد فقلبته رأساً على عقب.
ستسعى إسرائيل إلى إعادة الأمور إلى نصابها بأكثر ما يمكن من السرعة والقطعية، فتلجأ إلى الوسائل الكبرى، كقصف المطار وغيره من الأماكن الحساسة والحيوية أو السعي لاغتيالات موجعة أو قاصمة. ستفعل لأن ما تجرأ عليه حزب الله يضرب في الصميم «استتباب» توازن القوى المفترض، يُظهر حدوده وقابليته للنقض ولو جزئياً، ويستحضر بكل الأحوال الوجه الآخر للواقع، ذاك الأكثر خفاء والمتعلق بالصعيد الأخلاقي. فإن خابت بضع الضربات المحتملة القادرة على تمكين إسرائيل من استعادة الزمام عبر ترسيخ أحاسيس الإحباط، تسجل العملية التي أقدم عليها حزب الله نجاحاً يمتلك أهمية استراتيجية ويؤثر في تكوين الصورة العامة للموقف في المنطقة.
إيقاع أذى عام وكبير في لبنان غاية بذاتها. فعدا الاندفاع الدائم للانتقام والتدمير، مما هو في اصل نسيج إسرائيل، فإن هذه الأخيرة تحقق غلبتها وتهيمن بفعل لجوئها إلى القوة العنفية غير المحدودة والتلويح الدائم باستعدادها لاستخدامها. واستهداف بنى لبنان الحيوية هو كذلك محاولة لتأليب الرأي العام اللبناني على حزب الله الذي أكد مراراً وتكراراً أن سلاحه ووجوده على الشريط الحدودي خاضع لاعتبار الدفاع عن البلاد وليس للتوظيف في الصراع الإقليمي. إلا أنه سرعان ما يظهر قصور مثل هذه التقطيعات والعوازل المعلنة، وان ما يجري في فلسطين أو العراق أو سورية... وكل حدث وتطور للموقف في المنطقة يلزم كل أجزائها، ويؤثر عليها بالضرورة، وأن قوى الهيمنة والعدوان تعامل المنطقة جمعياً، في الممارسة الواقعية وفي النظرية، وآخرها «الشرق الأوسط الكبير»، فكيف تريدها ألا تتفاعل جمعياً هي الأخرى وإن بالحدود الدنيا لذلك. وقد شهدنا نماذج من التفاعل الجمعي عبر طوابير الشبان العرب من المحيط إلى الخليج، المتطوعين للقتال في العراق والذين وقعوا ضحايا لتنظيم القاعدة بسبب عجز البنية السياسية العراقية المناهضة للاحتلال عن استقبالهم واستيعابهم، وهو عجز عائد لأسباب تخرج عن نطاق هذا المقال، إلا انه لا يمحو الظاهرة نفسها. وأما الصمت الجماهيري عن المأساة الدائرة في فلسطين فيمكن تأويله بكل شيء ما عدا عدم الاكتراث.
إلا أن تفاعل نتائج الأذى الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى ثمار يتطلب وقتاً لا تملكه إسرائيل اليوم. فهي مدفوعة بالحاجة إلى قطع الطريق على ما ترى فيه استضعافاً لها أو إعادة نظر بالتسليم بجبروتها. ولولا فعالية هذا الاعتبار وأهميته الاستراتيجية بالنسبة لها، لكان ما قامت به حول غزة جنونياً تماماً، حيث بدا أن القيادة الإسرائيلية جاهزة للدفع بمئات الجنود إلى التهلكة الأكيدة، سعياً وراء ما أسمته إطلاق سراح الجندي الواحد المختطف. ولم يوفر إسرائيليون من كل صنف، عسكريون وسياسيون وصحافيون، جهودهم للتمويه على الدافع الفعلي لتلك التحركات، والمنتمي فحسب، وكلياً، إلى ميدان ترسيخ السطوة ومنع اهتزاز القناعة بها وقطع الطريق على ولادة إدراك مناقض، فتبجحوا في شرح متأنّ لكيف أنهم ينتمون إلى قيم تكترث بكل حياة إفرادية بينما أعداؤهم العرب عاجزون عن فهم هذا المنطق، وعجزهم ذاك هو دليل من بين سواه على وحشيتهم. أما الحيوات الفردية لسائر البشر، عشرات الأطفال الضحايا في يوم واحد من القصف على غزة وغيرهم كل يوم، فلا يدخلون في نطاق هذا الحرص الكاذب على الإنسان. إن الأساس الأخلاقي أمر لا ينبغي الاستهانة به، وربحه أو خسارته هو أحد أركان المواجهة. وقد باتت تصريحات ومواقف المسئولين الدوليين الذين يغضبون لكل عمل يتمكن من إلحاق أذى مقابل بإسرائيل، مهما كان ضعيفاً، باتت مدعاة تندّر ساخر من الناس، وساهمت في إزالة القناعة بوجود «مجتمع دولي»، وفي ترسيخ القناعة بوجود مكيالين في السياسة الدولية. ولا يزعج ذلك الإدارة الأ ميركية الحالية التي تحتقر الأمم المتحدة، والتي تجاهر باعتمادها لسياسة المكيالين وتدعي أنها مبررة في إطار ما تراه كانقسام للعالم بين أخيار- أي أ ميركا ومن يسايرها - وأشرار هم بقية الكون وإن على درجات.
لذلك كله، لا يمكن تناول الموقف الناتج عن عملية حزب الله من زاوية التحليل السياسي كما هو متعارف عليه، أي بتقييم يدعي الدقة للعملية تلك على ضوء احتمالات تطور الأمور وحسابات نتائجها، وما إلى ذلك من عدّة الكتابة المألوفة...والمضجرة بالتأكيد، لأنها فاقدة للحياة، مجترة لنظرة بليدة تخاف، أكثر ما تخاف، الخروج عن اللائق سياسياً. هذا فيما لو أحسنا الظن بها! وهي في الواقع ليست بلادة فحسب بل هي نظرة تعاني من إحدى علتين. فإما أنها قد استبطنت القبول بالهزيمة بحيث أنها تراها مؤكدة ودائمة ويقلقها أي مؤشر على ورود احتمالات أخرى، بما فيها احتمال استمرار الصراع. أو أنها ولأسباب عديدة، تفضّل إسرائيل على حزب الله، ويقلقها هي الأخرى ورود احتمالات أخرى، بما فيها احتمال استمرار الصراع. ولا شك أن الثمن استمرار الصراع مكلف، ولكن ما تقترحه إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة لغير ذلك هو عبودية جديدة. وليس اقل.
نهلة الشهال
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد