السوريون يقبلون بشغف على الصحافة الإعلانية
في بلد كسوريا لا يقرأ أهلوه صحفه، ولا يزيد إصدار أكبر صحيفة فيه على 60 70 ألف نسخة لعدد سكان بات يقارب العشرين مليونا، تفاجَأ الآن بانتشار ممتد وواسع للصحف في كل مكان وموضع وموقع في دمشق. من جسر فيكتوريا حتى آخر خط المهاجرين، مرورا بالصالحية والجسر الأبيض وشورى، وعلى الصفين، لا يخلو مخزن او دكان او لحام او خضري من جريدة او اثنتين.. ومن محطة الحجاز حتى آخر مخزن في سوق الحميدية يمينا ويسارا تجد الأمر نفسه، عبر شارع النصر بطوله وحتى ابواب المسجد الأموي الكبير. يكاد المرء يشهق. ما هي هذه الظاهرة التي بدأت قبل 4 سنوات وسارت صعدا وانتشرت وعمت البيوت والمقاهي والمطاعم بهذا النحو الداهم والسريع، كما النار في الهشيم.. في التاكسي تجد جريدة.. في ايدي المارة تجد جريدة.. في الحديقة، على الرصيف، وبالطبع في حاويات القمامة!! مليون مثقف جديد انضموا على حين غرة الى بضع عشرات الألوف من اعضاء اتحاد الكتاب العرب ونقابة الصحافيين ونقابة الفنانين، ناهيك ببعض النقابات المهنية الاخرى.. اجل مليون، بل في الحقيقة قد يفوق العدد المليونين.. ولمَ لا الثلاثة ملايين. ذاك ان سوريا شهدت خلال السنوات الأربع الاخيرة ميلاد ما يسمى <صحف الاعلانات التجارية>.. كل صحيفة منها تطبع ما يساوي 200.000 نسخة اسبوعيا توزع مجانا (بعد قبض قيمة كل اعلان عيانا).
الصحف الاعلانية الشائعة الآن في دمشق هي: الدليل، الوسيلة، الصفحات الخضراء.. والعقارية. وهذه الصحف في كل نسخة منها يتصفحها او يقرأها شخص على الأقل، وفي الحقيقة اكثر من شخص.. أما قلنا انه انضم الى طابور المثقفين في دمشق مليون مثقف جديد، بل ما يزيد على المليون؟!
صاحب دكان في بوابة الصالحية أكد انه يقرأ صحيفة الاعلانات، <من الباب للمحراب>، من الغلاف للغلاف. <ثقافة يا أخي>، يقول لك، و<تسلية، تجد في الجريدة من كل خبر لون.. بيوت للبيع، للإيجار، توفير خادمات من سريلانكا، الفلبين، اندونيسيا (الأندونيسيات مرغوبات اكثر لأنهن متحجبات ويصليّن) وحتى من اثيوبيا.. تجد أخبار السيارات والسياحة، والحج والعمرة.. تجد هواتف تبادل الحديث واللقاءات المرغوبة. كل ما تود معرفته والاطلاع عليه من جديد، وما قد يستجيب لحاجاتك الشخصية او البيتية، تجده في هذا النوع من الجرائد..>.
وينهي صاحب الدكان كلامه: <الجريدة توفر لك ابوابا منوعة من المعارف الحياتية، توفر وقتك، تفتح ذهنك، تضحك على خط الحياة، المجتمع وكل جديد.. أليست هذه كلها ثقافة؟>.
إنسان عملي هو.. ما له وللروح والحياة والموت ولغز الجسد. ما له للخيال والابداع... للرواية والقصيدة والشعر والمسرحية والقطعة الموسيقية واللوحة.. الحياة عنده بضاعة تشترى، تباع، تتداول، نقود، حاجات يومية، أكل، شرب، مرض، علاج... جرائد الاعلانات تقدم له مجانا، من دون اي تكلفة من جانبه، قدرا كبيرا من المعلومات التي قد تهمه الآن او في قابل الايام.. ثم إنها مجانية تساعده على تزجية أطول فترة ممكنة من وقته الضائع بالبلاش!
بالطبع ينسحب هذا كله لا على الدكنجي فحسب، بل على كل رجل او امرأة استشعرا فراغا فانكبا على جريدة الاعلانات المجانية. ضرب من <الثقافة>، ثقافة اليومي المجرد من هزات العاطفة، الحب، الكراهية، الحنين، الحزن.
ظاهرة جرائد الاعلانات طبيعية، رافقت ما سُمي بفترة الانفتاح الاقتصادي وما يعرف باقتصاد السوق.. والسوق بكل فضاءاتها متمثلة فيها، ملازمة لرسالتها، ان كانت لها رسالة، سوى ان تكون فبريكة مئات الألوف، بل ملايين الليرات تصب في جيوب مالكيها السعداء من اصحاب الحظوة والنفوذ.. تحرير بدائي، اخراج حسب <اللقمة> بين اعلان كبير لسيارة، وإعلان ميني قزم لخياطة تبحث عن زبونات. أتذكر صحف الاعلانات في بلد مثل فرنسا.. صحف اساسها ومنطلقها الاعلان. توزع هي الاخرى مجانا.. لكنها تتخذ شكل وصيغة جريدة حقيقية.. الى جانب الاعلانات تتضمن تعليقات وأخبارا من كل صنف.. مع زاوية صحية دسمة في كل عدد، وتحليلات لوضع الاسواق، وشبه دراسة ذات طابع حيادي عن سيارة جديدة نزلت الى السوق. وأتذكر جريدة صدرت ذات حين بعنوان: <مترو> توزع مجانا في كل محطات المترو، فيها اعلانات لكنها تبدو كصحيفة عامة بأخبارها السياسية والاقتصادية ودراساتها وتعليقاتها، حتى ان صحف باريس العريقة انتقدت صدورها وتوزيعها مجانا لأنها قضمت جانبا من توزيعها هي.
ثم لماذا الذهاب الى بعيد؟ في دبي بالذات جريدة مجانية تكاد تقول انها جريدة يومية عادية بقطع صغير نسبيا.. والجريدة تجدها منذ الصباح الباكر امام كل باب، اعلانية هي الاخرى وتصدر باللغة الانكليزية لكنها تسوق اعلاناتها بذكاء اذ تفسح مجالا طيبا، أحيانا صفحات، للتحرير الصحافي بكل مجالاته.
ظاهرة محسوسة هي صحف الاعلانات.. وفي بلد لا تفتح فيه صحف رسمية (ولا حتى غير الرسمية، فالكل في البلاء سواء) قابلية القراءة والمتابعة عند أوسع فئات الناس، فإنها، ان لم تكن ترتقي بقرائها الى مستوى مواطن مثقف وملتزم، فإنها تساعد في اقل تقدير على عدم السقوط في مهاوي الأمية الذميمة.
صلاح دهني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد