«إذا ماتوا انتبهوا» وإيحاءات مسرح «ليش» في الفن والحياة
الجمل- أيهم ديب: في فترة الامتحانات التي تعيشها طلبة سوريا بكل أعمارها و ألوانها ثمة امتحانات جانبية يعيشها الأشخاص سراً أو علناً في أشكال كثيرة تبدأ بصنع قرارات صغيرة من قبيل هل سأخون زوجي /أو زوجتي وصولاً إلى قرارات بخطورة اختيار المدفأة الأنسب. أعتقد أن أسوء ما حدث للبشرية هو التصنيف و الفهرسة فهما قطعاً لاحقتان على الإبداع و قد استطاعتا أن تخدعا من الناس ؟أكثرهم علماً على اعتبار أن الكسالى يملكون مناعة فطرية ضد أشكال التعليم و التي لا تستطيع إلا أن تكون قسرية و عكسية أي ضد منطق الإبداع و الاستدلال. التصنيف و الفهرسة قد يكون أحد العناصر الأشد حضوراً في ذهني بينما أستمتع بالعرض المسرحي الذي للمصادفة لا أستطيع قراء اسمه-لحسن الحظ- على البروشور بين يدي. و لكن كانت قد دعتني إليه سيسيل التي صادف أن أقرأ كنيتها اليوم لأول مرة. و في البروشور اقرأ أسماء أشخاص أستطيع أن أقرن أسماءهم بصورهم و هم كامل نجمة و ريم خطاب و مي سكاف و عصام رافع و أرسطو و سيسيل. أعتقد أن الجهل حالفني فأنا اليوم أختزن صور وجوه تحتاج إلى أسمائها. لدي الأسماء في مكان آخر تبحث عن وجوهها و هم حاتم الأحدب و رازميك كابرئيليان و نسرين فندي و نورا مراد. عروة كلثوم و شادي علي و خالد عمران و راميا سليمان و حسن ظاظا و نرمين كاسو . سعيد الأحمر و هند ميداني طارق الأتاسي و سعيد مراد. و غذ أرتل الأسماء التي تعلمتها تضيء شاشتي بالخطوط الحمراء معلنة عدم شرعية الأسماء في قاموس اللغة !
كيف أستمتع بالعمل الفني؟ أعتقد أن ثمة جانب حرفي يشعرنا دوماً بالإعجاب كأن نشاهد مبارزة بين فارسين- مشهد لن يكون بمتناولنا رؤيته في يومنا هذا- و لكن سيعجبنا الفارس عندما يعفي عن خصمه الملقى على الأرض و هنا تحتفي المقولة بالحرفة. أعتقد أن العروض تستهويني بقدر التداعيات التي تثيرها لدي و هذا العرض بكثير من المقاييس كان ممتعاً و إلى حدود بعيدة. من البداية يحرس العرض الممثلون أنفسهم بصرامة الوحوش الأسطورية التي تحرس أبواب المعابد و بالتناوب ينتقلون من ثباتهم -العقائدي- إلى سرد قصص إيماننا. و ليس المقصود هنا الدين نفسه بل أنظمة الإشارة و التواصل و الانفصال و المسائل الكبرى التي تجيب عن أسئلة من نكون و كيف نكون : فرنساً أو أفريقيا أو بوذياً, مهذباً أو وقحاً , مسلماً أو مسيحياً. منتصراً أو مهزوماً. ذكراً أو أنثى. سحاقية أو لوطياً. كوننا نتحدث عن التصنيف فإني طالما اعتقدت أن عرض ملاكمة له من القيمة الفنية ما قد يملكه عرض مسرحي إن كننا نملك ما يكفي من الجرأة و أدوات القراءة. لطالما اعتبرت القذافي فنان بيرفورمانس من الطراز النادر على اعتبار الفنانين الذين يصبحون رؤساء هم ندرة و العكس بالعكس. و لا أدري إن كان بإمكاني وصف خيمته و حيواناته الصحراوية في العاصمة مدريد هو انستاليشن أو عدم تسليمه بيد عارية على أحد الملوك هو بيرفورمانس إذ وضع الكف الأبيض في يده كحجاب يفصل الفضيلة عن الرذيلة على حد تفسيره أو أن سعيه لتوحيد أفريقيا بعد أن فشل في توحيد المغرب العربي هو سعي حثيث لتحقيق مشروع فن بيئي يكون الأضخم من نوعه جنباً إلى جنب مع فنانين من وزن جان و كلود كريستو أو ماهل.
التصنيف يحضر مع انقسام المشاهدين إلى رجال و نساء و كنت أتمنى لو أن المشهد النهائي لم يفتح الفضائين المسرحيين على بعض لأن هذا بالنسبة لي يحقق تعرية لإحدى الشروط الذهنية التي يمليها المنطق الاقتصادي و هو شراء السلعة غير منقوصة و لو أن المشاهدين الرجال خرجوا دون أن يلتقوا بالممثلات الثلاث اللواتي فرأوا أسماءهن البروشور لكان الأمر شديد الإثارة و هذا ما راهنت عليه عندما قرأت عبارتي: للرجال -للنساء لدى دخولي مع بقية الحضور إلى عالم العرض. أعتقد أن هذا كان سيثبت الكثير من مقولات المسرحية و سيحيلنا إلى حقيقة واقعية و هي بسيطة و هي أننا لا نستطيع أن نكون في مكانين معاً و بالتالي فإن التصنيف سيقسم فضاء خبراتنا الإنسانية فنذهب ببعض المعرفة دون كلها و نرحل بنصف البهجة أو ربعها دون كلها. أتذكر هنا مرة ثانية الامتحان عندما يسأل أحد الطلاب زميلته ما الذي سأله المعلم : ما هي أركان العبادة؟ ما هي بحور الشعر و ما هي مفسدات الوضوء و ما هي أقسام البندقية التشيكية و ما هي أسباب حملة نابليون على مصر. في المستويات الأعقد كان هذا سيحيلنا إلى الفصل بين الجنسين و إلى المذاهب الباطنية و إلى المنظمات السرية و كيف تتشكل آليات التوصيل من كودات و إشارات تثبت انتمائك من اغترابك و بالتالي تحيلنا إلى مشروعيتك من حرمتك في مجموعتك أو بالنسبة للمجموعات الأخرى.
مثل العروض التي تكون خارج علبة المسرح يكون ثمة متعة جغرافية و غرائزية تتسلل إلى جنس العرض و آليات تقديمه. فالحضور معنيين بفضاء أجسادهم شخصياً و معنيين بالفضاء الذي يشكل وسيطاً ناقلاً لحركة العيون التي تسبب كهرباء لدى تقاطعها لأنها تنقل الكثير من الرسائل تعفينا منها خشبة المسرح حيث الجميع ينظر إلى العرض دون أن يشعر بفيزيائيته الشخصية. هنا أذكر الجولات السياحية في المتاحف وعروض الستريبتيز الخاصة أو ما يسمى باللاب دانس. و يخطر ببالي الإرهابيين الذين يخطفون حافلة أو يقتحمون بنك محيلين التجربة اليومية إلى خبرة فريدة. و لا أقول سعيدة.
قد يكون عرق أخيل بالنسبة للحركة في العرض هو عدم انتمائها إلى مجموعات صغرى و محاولتها قول كلمة كبرى تشبه كلمات الرب الأولى التي وضعت نظام الكون. فمن السهل أن نستجيب إلى حركات المصلي في الجامع أو إلى إشارات القداس في الكنيسة كما يمكننا أن نتحرك مع راقص الهيب هوب أو نتجاوب مع إشارات شرطي المرور. فالحركة كإشارة مؤسس لها سلفاً و لا يمكن أن تتجاوز قواعدها لتقد معانً شديدة الشمولية دون أن تفقد في هذه الحال قدرتها على التحديد لتبقي باب الاجتهاد مشرعاً. و عليه لن يكون باستطاعتنا أن نحكم على المهارات الحركية بسبب غياب الجنس الذي إليه نقيس معرفتنا و خبرة المصمم.
في نهاية العرض الخاص بالرجال تتحول الشخصيات إلى تماثيل كتلك التي تزين المعابد البوذية أو الهندوسية -باعتبار أن البوذية دين توحيد بعكس الهندوسية التي تؤمن بتعدد التمثيل الإلهي.
بعد هذا يجتمع الحضور الذكور و الإناث و الممثلون الذكور و الإناث ليؤدوا فقرة بإحدى إيحاءاتها تحيلنا إلى جو تطهير عاشورائي. صادف أن يجعل المسرحية الداخل منفتحة على الشارع الشيعي الخارج الذي كان يعيش أيام عاشوراء فعلاً في حي الأمين. خرجت من المسرحية و أنا أتساءل إن كان ثمة عقوبات مسلكية فيما لو أني حضرت مع السيدات المتشحات بالسواد -مصادفة- على طريقة النساء اليونانيات اللواتي دفن ذكورهن! لحسن الحظ كان ثمة دهليز ذو بنية مهبلية- عملاقة- يسمح لنا باستراق النظر و لو لفترة وجيزة تكفي لنشعر بانفصالنا عن الآخر أكثر مما توحي باتصالنا أو العكس تسمح لنا أن نكتشف كم نشبه الآخر. دائماً عندما أحضر عملاً فنياً أنتهي بالشعور بمدى قدرة اللغة على الخداع و التقلب بما يكفي للتحكم بأقدارنا.
الجمل
للكاتب أيضاً:
إضافة تعليق جديد