ممدوح عدوان في ذكراه الثالثة
عندما أقلب صفحات حياة هذا الرجل تبرز إلى مخيلتي على الفور حرب حزيران ونتائجها الكارثية في المجالات كافة. فعندما «شلّت» الطائرات العربية في أسرّتها.
شلّت يد هذه الأمة بل شلّت حركتها في الاتجاهات الستة وضاع حلم القومية والعروبة، وضاعت الكيانات وفلسطين وما ضم إليه. وسط كل هذا السقوط المريع كان الأدب يصور الحالة والدم والهزيمة ينزان ما بين السطور، وكان لظهور الأدباء الكبار ـ رغم أن الجميع أضحوا أقزاماًـ الدور المهم في تصوير هذا الواقع وربما في مرحلة تالية كبح جماحها، ومن أولئك الذين برزوا في هذا المجال المبدع ممدوح عدوان الذي مات في 22/12/2004 بعد مبارزة عنيفة مع مرض السرطان الذي لوى عنقه أخيراً ولكنه أخذه معه ودفنا معاً في قرية دير ماما قرب مصياف الحموية.
ممدوح عدوان سيرة أدبية حافلة:
ربما يكون عدوان واحداً من أغزر الأدباء السوريين كتابة، هو واحد وكان يجب أن يكون مجموعة من الكتاب، كتب في أنواع الأدب كلها تقريباً وكان ذا حضور لافت وفاعل في كل نوع منها، خلّف وراءه أكثر من ثمانين كتاباً في الشعر والمسرح والرواية والكتابة التلفزيونية، له 16 مسلسلاً و26 مسرحية و17 مجموعة شعرية وروايتان؛ أضف إلى ذلك ترجمته عن عدد من اللغات ومساهماته النقدية والأدبية المتنوعة، وحصل كذلك على عدد من الجوائز المهمة تقديراً لعطاءاته الأدبية العربية.
ولد عدوان 1941 في القرية التي دفن فيها وتعلم فيها، انتقل إلى دمشق ليحصل على الإجازة في اللغة الانكليزية وعمل حينها في الصحافة الأدبية وكتب للتلفزيون «الزير سالم» و«جريمة في الذاكرة» و«دائرة النار» وترجم مذكرات «كازا نتزاكي» «وتقرير إلى غريكو» وملحمة «الإلياذة» اليونانية الشهيرة وكذلك ترجم جزءاً من الأوديسة، وفي المسرح الذي كان من أهم أعلامه إلى جانب سعد الله ونوس كتب «المخاض» مسرحية شعرية عام 1967 وهي مستوحاة من هزيمة حزيران وكتب قصة «الأبتر» عام 1970 ومسرحية محاكمة «الرجل الذي لم يحارب» عام 1970 و«يألفونك فانفر» عام 1977 و«ليل العبيد» المسرحية المهمة جداً والتي مثلت كغيرها على العديد من المسارح المحلية والعربية وكانت عام 1974. وفي عام 1977 كتب مسرحية «هاملت يستيقظ متأخراً» وكذلك «زنوبيا تندحر غداً» ومسرحية «لو كنت فلسطينياً» شعراً.. وكذلك «حكي السرايا والقناع» مسرحيتان عام 1992. وفي الشعر له الظل الأخضر عام 1967 وهي أيضاً من وحي هزيمة حزيران وتلويحة الأيدي المتعبة والدماء تدق النوافذ وأقبل الزمن المستحيل وأمي تطارد قاتلها....الخ في كل ما كتب عدوان يبرز الوجه الإنساني والسياسي واضحاً وجلياً رغم ابتعاده عن الأيديولوجيات والتنظير والفذلكات التي تزيّا بها جيل السبعينيات والثمانينيات، وكان يمتلك في كل أعماله تقريباً سخرية لاذعة وفكاهة مرّة تصل إلى حد الضحك بكاء، وأكبر فاجعتين مرّتا في حياته كما يقول في إحدى المقابلات هما: «موت أمي وحرب 67 حزيران ـ والاثنتان متطابقتان وكانت مأساة أكبر مما نستحق وأكبر مما نستطيع أن نحتمل.. وظلت أمي تحتل هواجسي حتى سنوات طويلة»، ظل حتى آخر ساعة يدخن ويشرب وقال في ذلك:
(مادمت حياً يجب أن أحيا حياتي بكاملها.... ولو بدو يجي الموت يجي... وأنا عمري ما خفت من الموت... يللا الموت صار أريح) ولأنه كان مجابهاً واستفزارياً فقد منعت بعض كتبه وبعض أشعاره وكذا منع من الكتابة لسنوات، إذاً كان ساخراً وموجعاً ومشاغباً، راهن على مخزون الحب والشعر والشوق والمسرح الذي فيه يعود منتصراً ووحيداً على حافة كأسه والأماني، كان يلهو بلعبة الكتابة ويستمتع بنصوصه، كان يداعب اللغة لتلد قصيدة أو مسرحية وظل كمفكر مسكوناً بلغة الأسئلة المتعلقة بالحياة والوجود، قال والمرض يكبل الجسد النحيل: (أنا شاعر أو شاهد متورط لم يلق متكأً له في مفخرة، بدم ترى أم بالدموع ملأت هذي المحبرة، وكتبت شعراً كي أعزي أم رسمت على الدفاتر مقبرة، نتعمد الإسراف لنستر الفاقة، الدمع كنهر جاف ما بلل الياقة والريح في الأعطاف ذكرى، بلا طاقة يبكي لنا الصفصاف، فنحن كالناقة تابوتنا مصياف والقبر وراقة).
على غير جرح معتق تقلب الشاعر المولود 1941 في عز الحرب ومنها ظل يقاتل يضع بندقية الشعر على كتفه وفي اليدين والعينين كان المسرح يبعث سهامه لنفوس ذبلت، وضع سنة 1977 مجموعتين شعريتين ومسرحية وكأنه كان في صراع مع الزمن، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره، انتقل في العام 1980 من العام إلى الخاص ومن حدود القضايا العربية إلى لب القضية الفلسطينية (لو كنت فلسطينياً) معلناً رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء للمقاومة، فاجأه السرطان كعدو غادر في عمر هو عمر الابداع والحكمة، مات وستبقى أعماله وستبقى ذكراه إلى الأبد.. فالمبدعون أبداً لا يرحلون؛ فابتسامته الساخرة وسيجارته حاضرتان كأن صاحبها مازال على المنابر يروي حكاية الزير سالم وليل العبيد.
سهيل الذيب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد