أهل الكفر والزَّندقة

ـ 1 ـ

أُعْدِمَ سقراط بتهمة الكفر بآلهة الإغريق، وصُلِبَ المسيح بتهمة التَّجديف، وحاولت  قريشُ اغتيالَ "محمَّد" (ص) بتهمة الكفر بآلهتها، ثم حارب المسلمون قُرَيشاً بتهمة الكفر، ودخلوا مكَّةَ وحطَّموا آلهتها. ولطالما تم وسم المنتصرين بالمؤمنين الذين ما زال الكفَّارُ ينهزمون أمامهم بعون من الرَّبِّ العظيم... فعًبْرَ العصور كان كلُّ شخصٍ لا يؤمن بالإله الذي تدعمُهُ الدَّولة أو الجماعة عُرْضَةً للاتِّهام بالإلحاد وعقوبة الإعدام ؟! وقد تدرَّجت تصنيفاتُ الخارجين على دين الجماعة عبر التاريخ بين: الرُّبوبية، اللاأَدَرِيَّة، الغنوصيَّة، معاداة الدِّين، الإلحاد، التَّشكيك الدِّيني، الفكر الحر، معاداة الإيمان، اللامبالاة، عدم الإيمان، الرُّبوبيَّة الكليَّة، الإنسانيَّة العلمانيَّة، الألوهيَّة غيرُ الدِّينيَّة، وحدة الوجود... وبحسب إحصاء مركز "بيو" للأبحاث عام 2012، فإن 16% من سكان العالم ليس لديهم انتماءٌ ديني، بينما يقدِّرَ عالمُ الاجتماع "فيل زوكرمان" عددَهُم بين 500 إلى 750 مليون شخص في جميع أنحاء العالم!

ـ 2 ـ

استنقع الفكر الدِّيني لدى العرب المسلمين بعد محرقة كتب ابن رشد (توفي سنة 595 للهجرة)، ولم يتجدَّد لعدم السَّماح بوجود ثقافة إلحاديَّة، أو حتى فكرٍ فلسفيٍّ يشكِّلُ تحدِّياً له، إذ يُولَدُ الفردُ العربيُّ مع ختم المصنع الذي هو دينُ والده ومذهبه دون والدته، ولا حريَّةَ له في اختيار عقيدته وطريقة عبادته حتى نهاية حياته، وأيَّةُ مجاهرة بلا دينيته أو اختياره لعقيدة أخرى أو قراءة مختلفة لنصوصه القديمة تستوجب نبذه ومعاقبته وقد تؤدي إلى حذفه بتهمة الرِّدَّة، لذلك فإنَّ إيمانَ المسلم واليهودي والمسيحي قسريٌّ يأتي بحكم البرمجة المتوارثة وليس نتيجة الاختيار الحر، فهو أسير الذاكرة السَّلفية وليس نابعاً من تجربة فردية خاصة كما في حكاية "حيِّ بن يقظان" لابن سينا (توفي سنة 427 للهجرة)، والتي تحكي عن طفلٍ وضعته والدته في تابوت وألقته في البحر ليصل إلى جزيرة الواق واق لتحضنه وتُرْضِعَهُ ظبيةٌ فَقَدَتْ وليدَها. وقد بدأ بحثُ الولد العقلي بعد وفاة الظَّبية، حيث قام بتشريحها لمعرفة سبب موتها، ومنذ ذلك الوقت مرَّت حياتُهُ بسبع مراحل: الأولى في إرضاع الظَّبية وحضانتها ورعايتها له حتى عمر سبع سنوات، ثم المرحلة الثانية بعد وفاة الظَّبية وتشريحها لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكوَّنُ عنده المعرفة عن طريق الحواسِّ والتَّجربة، المرحلة الثالثة كانت بعد اكتشاف النار، والمرحلة الرَّابعة في تصفُّحِهِ لجميع الأجسام التي كانت موجودةً حوله ليكتشف تشابُهَ الكائنات في المادة واختلافها في الصور. أما المرحلة الخامسة فكانت في اكتشاف الفضاء ومعرفة أنَّ العالم قديم وكذلك نشأتُهُ. وعند بلوغه الخامسة والثَّلاثين من عمره، بدأ حَيُّ مرحلتَهُ السَّادسةَ وهي الاستنتاجُ بعد التفكير، فتوصَّل إلى أنَّ النَّفس منفصلةٌ عن الجسد، وهو في التَّوق إلى المُوجِد واجبِ الوجود. وأخيراً، في المرحلة السَّابعة، ، يرى حَيُّ بنُ يقظان أنَّ سعادته تكون في ديمومة المشاهدة لهذا المُوجِد الواجبِ الوجود ورغبته في البقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه، وهكذا يلخِّصُ ابنُ سينا تاريخَ البحث الإنساني عن الله تعالى. ففي الثقافة الإسلامية يمكننا أن نتعرَّفَ على تجاربَ غنيَّةٍ في الإيمان وصفات المؤمن المناقضة لصفات الكافر، ولكن بعد أسلمة القبائل الوثنيَّة، لم يعد هناك كُفَّارٌ غيرُ مُوَحِّدين، ولا فكرٌ إلحادي كي يوازنَ ويفاضلَ المؤمنُ بينه وبينهم، إذ لم يسمح سَدَنَةُ الدين بالتفكير خارج صناديقهم! ولأنَّ الإيمان يحتاج إلى نقيضه الجدليِّ لكي يكون ظاهراً، مثلما أنَّ اسم إبليس مقترنٌ باسم الله في مقدمة السُّور القرآنية، فإن المسلمين خلال تمدُّدِ دولتهم خارج جزيرتهم كانوا بحاجة إلى وجود كُفَّارٍ في مواجهتهم لتأكيد إيمانهم، وهكذا وسَّعوا دائرة التَّكفير، وعزَّزوا عصبيَّة حزب المسلمين، فالأديانُ والمذاهبُ تتغذَّى على نقيضها، وبسبب ذلك تدرَّجَ وَسْمُ الكُفَّار في الإسلام من وثنيِّي مكَّة إلى يهود المدينة ونصارى الشام ومصر الذين حاربهم المسلمون "لأن الدين عند الله الإسلام"، حيث تمَّتْ أنسنةُ الرِّسالة الإلهيَّة وغدت بمثابة النظام الدَّاخلي لحزب السُّلطة الضَّارب... وبعدما استتبَّت دولة الإسلام تعدَّوا حدود تكفير الآخر غيرِ المسلمِ إلى زندقة وتكفير المسلمين المناهضين للسُّلطة، وبالتالي فقد تمَّ تعطيلُ الاجتهاد والتَّجديد مقابلَ تكريس جناحَيْ السُّنَّة والشِّيعة السِّياسيَّة، واضطرَّ المفكِّرون المسلمون إلى نشر أفكارهم سراً كما هو حال إخوان الصَّفا والمذاهب الباطنيَّة التي نشأت بعدهم، حيث اعتمد المجتهدون مبدأ التَّقيَّة كي يحموا رؤوسهم، ونشأت بتأثيرهم المدارسُ والمذاهبُ الباطنيَّة التي اقتربت جزئياً من مفهوم حرية التَّديُّن بعدم إجبار أولادهم على تعلُّم الدِّين والقيام بواجباتهم قبل بلوغهم سنَّ الرُّشد، كي يكون اختيار الفرد حراً وإيمانُهُ نابعاً من العقل لا النقل، غير أنَّ هذه المذاهب استنقعت وتسلَّفت بمرور الزَّمن ومُنِعَ الاجتهاد فيها إلى حد نبذِ المجتهدِ ومقاطعته بتهمة الخروج عن الدِّين!

ـ 3 ـ

ورد في الموسوعة الفقهية الإسلامية: "الفرق بين الزِّنديق والمنافق والدَّهري والملحد، مع الاشتراك في إبطان الكفر، أنَّ المنافق غيرُ معترف بنبوَّةِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والدَّهريُّ كذلك مع إنكار إسناد الحوادث إلى الصَّانع المختار سبحانه وتعالى، والملحدُ لا يشترط فيه الاعتراف بنبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم ولا بوجود الصانع". وقد ظهر مصطلح الزندقة منذ وصول المسلمين إلى بلاد الشام وفارس، حيث اصطدمت الثقافة العربية بالفارسية والسريانية، ولم يكن للعرب المتمرسين بالشِّعر قدرةُ التَّفوُّق على الفلسفات الآسيوية واليونانية بالمنطق والجدل لذلك وسموا كلَّ المثقَّفين من غير العرب بأنهم شعوبيُّون (قوميُّون) زنادقة أسلموا نفاقاً، وأنَّهم يريدون شراً بالإسلام، وهكذا صنَّفوا نخبة أعلام الفكر في العصر العباسي والفاطمي والأيُّوبي ضمن خانة المارقين والزَّنادقة: كبشَّارَ بنِ بُرد وابنِ الرَّاوندي وابنِ طالوت والجاحظ وأبي العلاء المعرِّي وصالح بن عبد القدوس وأبي نُواس وأبان بن عبد الحميد وأبي بكرٍ الرَّازي والسُّهروردي والحلَّاج، وقتلوا بعضَهُم سلخاً وصَلباً وتقطيعاً وأطعموا بعضَهُم من لحمه، كما تذكر السَّرديَّاتُ الإسلاميَّة، وقد أبيدت مصنَّفاتُهُم الفكرية ولم يصل منها إلينا سوى بعضِ الشَّذرات التي حاجَّ فيها الأصوليُّون خصومَهُم، حيث تمَّ إخفاءُ أو تدميرُ المخطوطاتِ الأصليَّة  لمن وُسِمُوا بالزَّندقة.. والواقع أنَّهم لم يكونوا ملحدين بقدر ما كانوا مفكِّرين مؤمنين بالعقل الذي هو رسولُ الرَّبِّ الدَّائم لهداية البشر، كما في قصَّة حَيِّ بنِ يقظان، وقد تجرَّؤوا فوضعوا الكتابَ والرَّسولَ موضع دراسةٍ نقديَّة للأساطير الدِّينية ومعجزاتها، ويمكن اعتبار ابنِ الراوندي أشهرَ الفلاسفة الرُّبوبيِّين الذين انتقدوا النُّبُوَّة والقرآن، وقد وصلَنا إرثُهُ مشوَّهاً ومنحولاً عبر ردود خصومه مثلما حصل لإرث من يشبهه في العصر العباسي حيث بدأت تظهر أفكارُ ولاهوتُ الأمم المغلوبة التي دانت بالإسلام حباً أو كرهاً. وقد غاب أو غُيِّبَتْ أفكارُ (المارقين والزَّنادقة والملحدين) منذ تحريم كتب ابن رشد ومحاربة الفكر الفلسفي لقرون طويلة امتدت حتى نهاية الدولة العثمانية، لتظهر مجدَّداً مع النَّهضوي شبلي شميِّل (توفي 1917) بعدما تدفق الفكرُ الماركسيُّ إلى البلدان العربية قبل مائة عام، ويمكنُ القول إنَّ كتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني" الصادر سنة 1969 شكَّلَ بداية جَدِّيَّةً وغيرَ مخاتلة لنقد الأيديولوجيا الدينية وعلاقتها بتخلُّف العرب، وقد جاء الكتابُ في حينه بعد هزيمة 1967 بعامين، بعدما أرجع الإسلاميُّون سبب الهزيمة لابتعاد الشعوب العربية عن الله وارتكابهم للمعاصي، في إشارة مبطَّنة بأن العلمانيين هم السَّبب! فجاء كتاب صادق لقلب الأمر وتبيان أنَّ الفكرَ الغيبي الرجعي هو السبب، ولكنه لم يدعُ في كتابه إلى الإلحاد صراحة، لذلك تمَّ إخلاءُ سبيله من دون الحكم عليه بالدعوى التي رفعها مفتي لبنان بحقه وقتذاك... ويدعو الكتابُ إلى "نقد ذاتنا الدينية الموروثة من أجل التأسيس لذاتنا العلمية المعاصرة"، إذ كيف لنا أن لا ننهزم أمام عدوٍّ نتبنى ثقافته وأساطيره الدينية، ونسمي أولادنا باسم ملوكه وأنبيائه، ونتبنى روايتهم عن بني إسرائيل الذين فضَّلَهُمُ اللهُ ربُّنا على العالمين!؟ غير أن خطأ صادق في الكتاب ـ كما صرحتُ له في إحدى لقاءاتنا ـ كان في مصادَقَتِهِ على سرديَّةِ تمرُّدِ إبليس على ربِّه، معتبراً أنه أول ثائر في التاريخ، وهي مقولة أوردها الحسين ابن منصور الحلَّاج قبله في كتابه "الطَّواسين" (توفي 922 م)، فقد هيمنت فكرةُ التَّمرُّد على ذهنه وأقحَمَها في كتابٍ ماركسيٍّ أصيلٍ لم يجرؤ المفكرون العرب بعد على تجاوز عتباته، ولم يخرج نقدُ غالبيَّتهم خلال العقود اللاحقة على إعادة تفسير وتحليل النُّصوص على ضوء المدارس النقدية الحديثة من وجهة نظر مادية  تاريخية، على غرار ما فعل "سبينوزا" بنصوص التَّوراة ومن جاء بعده من مفكري أوروبا الذين طبَّقوا منهجَهُ على نصوص الإنجيل وأسسوا للعَلمانية الأوروبية. فقد عالج المفكرون العرب النصوص المقدسة من داخل دائرة الدين وليس من خارجها، أي أنهم لم يرفعوا القدسية عنها أو حتى عن بعضها، وبالرغم من ذلك فقد قاطعهم الأصوليون وعاقبوا بعضهم ليخيفوا غيرهم، بما فيهم الحكومات شبه العلمانية وأحزابها (الكافرة)...

ـ 4 ـ

مع دخول الأفكار الشيوعية إلى المنطقة العربية، بات لدى الأصوليين كفارٌ نموذجيون يغذُّون جمهورَهُم بعدائهم، وكذا فعل الماركسيُّون الذين صنَّفوا الأصوليين في خانة الرَّجعيين، وقد فشل الماركسيون في مسعاهم الثقافي الاجتماعي لأنهم لم يقوموا بفتح حوار مع عامة المتدينين، كما لم يَفِدِ الإسلاميُّون من مناقشة خصمٍ مسلَّحٍ بالفلسفات الحديثة، ولم يعملوا جدياً على قراءة الحُجَجِ على ضعف سردياتهم، والعمل على تصحيحها على غرار المؤسسات المسيحيَّة الأوروبيَّة التي أدرجت نظرياتِ الإلحاد في مناهجها، وأوجدت أجوبةً مقنعةً لجمهورها المسيحي، وتحضُرُني الآن المناظرةُ التاريخيةُ الفاشلة التي جرت بين الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي والمفكر طيب تيزيني سنة 1993 حول تاريخية النص المقدس، وهي تلخص فشل الحوار بين العلمانيين والإسلاميين حتى اليوم وعدم إفادة أحدهما من خصومة الآخر، فالسَّلفيُّون متمترسون خلف أسوار قلاعهم القديمة، وكلُّ من هو خارجَها كافرٌ، سواءً أكان مسيحياً أوروبياً أم مسلماً علمانياً، وقد أشار المفكر عبد الله العروي في كتابه "العرب والأيديولوجيا" إلى أحادية الرُّؤية عند المسلمين إذ يقول: "فنحن نتعرَّفُ إلى الآخر بالقياس إلى ما نحن عليه، وكم يختلف عنا بدلَ أن نحاولَ فهمه كما هو بتجرُّدٍ عن الأنا الحاجبة لمعرفة الآخر في كينونته، لهذا ما زلنا ننظرُ إلى الغرب بصورته المسيحية كوننا إسلاماً، بينما الغرب في الواقع أصبح وجودياً لايدين بأية ديانةٍ ماضوية، وحتى المتدينون فيه أقلموا دينَهُم مع ثقافة الحاضر".. وعلى الرغم من موفَّقيَّة المفكرين العرب في طروحاتهم الإسلامية وعدم إنكارهم للمقدَّس أو تشكيكهم بنصوصه، وعملهم من داخل النص ضمن ظرفه التاريخي، فإن أفكارهم التنويرية مازالت حبيسة كتبهم وندواتهم منذ نصف قرن لم تستطع مياهُهُم اختراقَ طبقة جماعة النقل الكتيمة، لأنَّ الأمر يحتاج إلى تبني (حكومات العلمانية البراغماتية) لها، وإدراجِها في مناهج طلابها، لتربية جيلٍ مسلمٍ جديدٍ مندغمٍ في عقل العالم وحركته المتسارعة، وقد كانت لي تجربةٌ  في هذا المجال عندما كنت نائباً في مجلس الشَّعب السُّوري، حيث وافقني رئيسُ الحكومة في ربيع 2018 على طرح مشروع تدريسِ تاريخ الأديان في المناهج المدرسية، وقد استمر عملنا بالتعاون مع مركز "مَدَاد" للدراسات والأبحاث مدَّةَ عامين قبل أن يجهضه "مشايخُ الأوقاف"!

ـ 5 ـ

قطع العلمانيُّون العرب والحكوماتُ شبهُ العلمانيَّة نصفَ الطريق باتِّجاه الإسلاميين، ولم يفعل الطرفُ المعنيُّ، وإنما استمرَّ عداؤهم للعلمانيين وللمجتهدين في الدين، الملحدين منهم والمؤمنين، غيرَ أنَّ الزَّمن ليس في صالح الإسلاميين، مع تقدُّم التكنولوجيا وتطوُّر الذكاء الإلكتروني، إذ لن يكون هناك في المستقبل أيُّ وسيط بين المتدين وربّه، وسيأخذ الذَّكاء الصُّنعي دور العقل الكُلِّي في إدارة العالم، وستنتفي الحاجةُ إلى وسيط روحي، قسّاً كان أم إماماً أو حاخاماً، وقد بدأت بعضُ الكنائس تستعين بالهولوغرام ليأخذ دورَ القِسِّ في الصلاة، ولن يلبث أن يحذو مسلمو الغرب حذوهم .. وكما أنَّ الجيلَ الحاليَّ بات أقلَّ تديُّناً من الجيل السَّابق، فإنَّ الجيل اللاحق سيكون أقلَّ تديُّناً منّا، وأكثر تساهلاً في مسائل الحياة، فالثقافة الإسلامية التي كانت تحتل مجملَ عقل الفرد المسلم خلال ألف عام، بدأت بالتقلص منذ بداية عصر النهضة، وهي اليوم قد لا تشكل أكثر من 10% لدى المسلم المدنيِّ المعاصر، بينما تكمل العلومُ والثقافاتُ العالميةُ والتَّرفيهُ باقي المحتوى، وسيستمرُّ الأمرُ لربع قرن آخر ممهداً لانتشار العبادات الإلكترونية والأخلاقيات التقنية التي تتبع وصايا المبرمج الأكبر (الحكومات المتعاقدة مع الشركات)  لتنظيم النشاط العام للأفراد كبرامج مرتبطة بالمصدر كُلِّيِّ الرقابة على تفاصيل حياتنا عبر حساباتنا الإلكترونية: في التَّسوُّق والصِّحَّة والتعليم والعمل والعبادة والترفيه، وبالتالي ستكون لديهم قدرةُ مَنْحِنا نقاطاً أو حذفها بحسب سلوكياتنا داخل البرنامج المحدد على غرار الثواب والعقاب الإلهي، وهذا يحدث الآن في الصِّين، وبالتأكيد سيكون الصراع شديداً بين السلفيين والمجتهدين المجددين، كما كان عليه الحال على امتداد تاريخ الأديان، ونحن نتلمَّسُ بداية التحوُّلاتِ الآن مع اعتماد إكسسوارات الدين الإلكترونية (السبحة الإلكترونية، وتطبيقات قبلة الصلاة الإسلامية والمؤذن، وتطبيقات الإنجيل والصلوات المسيحية، والمعلم الإسلامي الإلكتروني للأطفال وسرير الأطفال التفاعلي، وقارئ القرآن بأشكاله المختلفة، والمفتي الإلكتروني الأزهري، وكذا المسار الإلكتروني لتنظيم الحجيج، كما ظهرت طروحات حول إمكانية الحج أونلاين عبر "ميتافرس" لتجاوز عدوى كورونا)، بما يشي أنَّ عبادة المسلمين لن تكون بمنأى عن تأثير البرامج الذكية وتشريعاتها التي ستنظم حياتهم وتدمجهم في حركة العالم، وبالتالي الاطلاع على الأفكار المخالفة لثقافتهم الدينية، والتي يمكن أن تصنَّفَ في باب الإلحاد والمُرُوق والزَّندقة... فمنذ بداية جائحة كورونا المصطنعة، يمكننا أن نلاحظ التنسيق بين حكومات العالم لتوحيد قوانين الجرائم الإلكترونية بما يمهد مستقبلاً للحكومة الإلكترونية العالمية، التي تبشِّرُ بها الأمم المتحدة، وقد لمست ذلك بنفسي أثناء مناقشتنا لمشروع قانون الجرائم الإلكترونية في سورية، فالعالم يتغير وكذلك المتدينون والملاحدة سيتغيرون وستتجدد تقنيات التجاذب بين الجانبين على غير ما كانت عليه سابقاً... فالبشرُ كائناتٌ هشَّة مذعورة بلا مخالب أو أنياب، تأخذهم رياح القدر في كل اتجاه، وهم في لاوعيهم يحتاجون إلى رعاية كائن أعلى كلِّيِّ القدرة يؤمِّن حياتهم، ويقلّص قلقهم الوجودي في عالمٍ متغير لاضمانة فيه، حيث الزَّمنُ ينقضُ كلَّ شيء، بما فيه الآلهة القديمة التي عبدها أجدادُهُم وكفَّروا كلَّ من يخالفها، ثم جاءت الأديان التَّوحيديَّة لتكفِّر الآباء المشركين، وبقي الإلحاد ممثل الوجه الآخر للدين من مبدأ أنَّ كلَّ يقينٍ لابدَّ أن يبدأ بشك، ولا فكاك للإنسان من برمجته الدينية مهما تغيرت به الأزمان، كما سيبقى الإلحادُ أحدَ مضادَّات الأديان المواكبة لها على مبدأ فلسفة اليانغ ين، ولنا في آيات وأسفار الكتب المقدسة موعظةٌ حسنةٌ عبر أمثولة  تمرُّد إبليس على الله تعالى وتهديده بإغواء الناس، ومع ذلك فإن الربَّ أعطاه فرصة لتجربتنا وامتحاننا... ومن هذا الباب نقترح بأن يفيد المؤمنون دائماً من تحديات الملحدين وأن يدرجوا مسائلَهُم في مناهجهم لكي يجدِّدُوا إيمانهم بالعقل لا بالنقل...

نبيل صالح