فضيحة جديدة في العراق
العنوان يقود القارئ إلى عالم المال وحسابات آخر السنة للبدء بدفتر أبيض صفحاته من أرباح الأيام المقبلة وخساراتها. رواية مايا واكد الأولى بالفرنسية، "مقفلة للجَردة" (صادرة عن دار "بينيفان" في نيس)، مراجعة لحياة عمرها ثلاثون من خلال النوم الواعي، ومن خلال ذلك العقل الذي لا يزال يفرز ويتذكر، وجسد تحوّل إلى صحراء، تضخ فيه الأجهزة حياة اصطناعية ليبقى ولكن من دون حراك، من دون كلمة، ومن دون صرخة ألم. وحده هذا الوعي الواعي كل ما يجري، المستفيد من نبضات القلب المتحايلة على الحياة ليحيا ويتذكر سيرة حياة بكاملها، في حين أن الجسد مسجّى على سرير المستشفى إثر حادث سير جعل نور، الصبية العاشقة، المتيمة بالحياة، رهينة النوم الواعي، رهينة موت متحالف مع الأجهزة التي تطيل الحياة، ليرفرف بجناحيه السوداوين فوق هذا الرمق الكاذب يهدد بإطفائه في كل لحظة.
"أنا سجينة نوم واع"، هذا ما تفكر به نور العاجزة عن التعبير، بينما حاسة السمع دليلها إلى ما حدث لها، وظيفتها الوحيدة للاستدلال إلى صوت أمها وشقيقاتها وحبيبها رجا. الغيبوبة عميقة ترسم معالم المشهد الخارجي الشبيه بالموت لولا الآلات. لكن مايا واكد تدخل في روايتها الأولى هذه، بأسلوب سلس يعزّم المأساة العائلية في رحلة نور على سكة سنوات عمرها، فتاة تزهو بالحياة، تعبر أخطار الحرب بأسفارها العديدة، وفي كل بلد تحط فيه صورة عن الشباب اللبناني الهارب من جحيم القتال إلى ديار الله بحثا عن وطن يحميه، عن عمل، وعن الاستقرارالذي ينشده.
من نوم نور العميق، وفي هذا المجهول الذي يدعى الوعي، تفتح مايا واكد ثغرة وتتسلل إلى الادراك الحسي الواقف على باب جسدها المخرّب داعياً إياها الى الاستذكار.
رواية لا أكثر، لما نعرفه من آفات "الكوما" ونتائجها على الحياة. بيد أن الكتاب اختبار ممتع للكاتبة أولا، ومن ثم لإنشائها المرن في لغة فرنسية متقنة، سرداً وربطا ذكيا لتلك الذهابات والعودات من سريرها إلى العالم الذي ألقت فيه شباك عمرها الندي لتتزوّد الاختبارات ومواعيد الحب والانتظارات. ثمة دوماً، وهي في عدوها المحموم بين فرنسا وأميركا بحثا عن ضالاتها، ذلك الحنين إلى الوطن الذي يكسر بين الفينة والأخرى سعيها إلى الحلم، ويعيدها إلى العائلة، على أن يعاودها داء الرحيل مجددا، وكأن القدر كتب لها أن تعود لتموت فيه.
لا تنسى مايا واكد قارئها، وهي ماضية في ذكريات نور مذ كانت طفلة، وبأن هذه الموصولة بالأجهزة المتطورة مهددة بالموت في كل لحظة. هذا الشعور بالرحيل جعلها تسرع في مذكراتها هذه كمن وقّع عقدا مع دار للنشر، وهو ملزم اتمام سيرة حياة قبل أن يفوت الأوان. ففي هذا الوضع الأفقي الذي لا حراك فيه، ولا تباشير انتعاش، ها هي نور تسابق الموت قبل أن يغدر بها. ثمة روائح من طفولتها تطفو على حاسة شمّها فتتذكر صيفيات جدتها والخبز المرقوق، فتكلمها من غيبوبتها، وكم تتمنى أن تعود إليها لتتذوّق مناقيشها على الصاج.
قصة منسوجة من صميم الحياة الواقعية، تلك التي في إمكانها أن تحدث مع كل فتاة عصرية، متحررّة من قيود التقاليد. كأن مايا واكد تضع في حوادثها أشياء منها، من امتحانات الحياة التي اختبرتها على دروب الدنيا الواسعة فضفرتها في قصة نور. ذلك أن الكاتبة تغمس ريشتها في أمنيات فتيات اليوم، في الحب أولا، وفي الارتقاء على سلّم الانتاج ثانية. فمن فصل إلى آخر تروي نور تجاربها، وتجارب أصدقاء لها رحلوا قبلها إنتحارا أو بالسيدا مرض هذا العصر. "جسدي ميت الآن لماذا يغسلونه؟ لماذا يعطّرونه؟ ألوضعه في نعش جميل؟ غدا سيتعفن وهذه الجثة لا تعود تشبهني". تكتب الصبية الجميلة مايا واكد الموتَ والفاجعة كما الطفولة والشباب وأحلامه من منظار إنسان عتيق جلس على حافة شيخوخته متذكراً، والقارئ يتمتع بمسار الرواية وبأسلوب حبكها من مادة الذاكرة والحاضر المتردي يوما بعد يوم في العناية الفائقة. هذه الفترة الطويلة أعطتها المجال كله لاعادة جَردة حياتها وكيل خساراتها وأرباحها. تتساءل إذا كانت هذه الجَردة من الضروريات التي تسبق الموت.
كيف تروي نور حياتها قبل هذا الحادث: "كنت حرّة في ذلك الوقت من دون رابط، ضائعة أبحث عن ثبات. أطلقت العنان لأهوائي بلا أسف ولا ندم. تخطيت شكوكي. جسدي الأنثوي أنقذني من وحدتي. لقد تجرّأت في كل الأحوال".
هل يحتاج الانسان إلى غيبوبة كهذه لكي يعيد النظر في حياته، متنبها إلى حذافير ما حدث بأمان كلي؟
في هذه الوحدة الرهيبة مع ذكرياتها، تتنبه هذه الغائبة عن حاضرها إلى وجود والدها على حافة سريرها. وجود هذا الأب يوقظ حنينها الكبير إلى وطن لم تعرف منه سوى الحرب وما عرفت عنه من والدها سوى الأغنيات والشعر. تستعطفه لكي يسمعها بعض القصائد التي كان يلقيها أمامها وتعود اليوم على شفتيها من طعم الماضي. ليته يسمعها وهي تقول له: "هذا وطننا يا أبي. ما هم إن كنا فينيقيين أم سامريين، مسلمين أم مسيحيين، ما دمنا نتشارك في هذه الكنوز ذاتها. إقرأ ولا تتوقف ما دام جوف هذه الأرض لم يبتلعني بعد".
في ألبوم الوجود هذا، ترتب نور صور حياتها. الكاتبة ترافق لحظة تلو لحظة تطور وضع نور. لقد آن الأوان لأن ترحل، مايا واكد تريد أن تحررها من سجنها الجسدي، فتملي عليها الكلمات التي على الراحل أن يقولها بتجَرد: "أتقدم ولكن إلى أين. أخشى تلك اللحظة التي ستتوقف فيها ذكرياتي".
جويس كرم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد