حديقة الحيوانات
لمناسبة طرح حديقة الحيوانات بدمشق للاستثمار، وتصريح مدير حدائق دمشق أنها ستغدو حديقة حيوانات عالمية، تذكَّرتُ حادثةً جرت قبل الحرب بعدة سنوات، عندما كنت آخذ أولادي إلى حديقة الحيوانات بدوما، ثم نعرِّجُ لزيارة أصدقائي من بيت عبد النبي، حيث روى لي أبو سليمان على الغداء أن أحد المجانين الهاربين من مصحِّ "ابنِ سينا" دخل إلى حديقة الحيوان ثم صعد إلى أعلى بوابة الحديقة وقَلَبَ "الآرمة" التي تقول (حديقة الحيوانات ترحِّبُ بكم)!، بحيثُ صارت الكتابة إلى الداخل وخلفيتها للخارج كما لو أنه يقول أن الحيوانات فعلياً هي تلك التي خارج السُّور!...
وقد أوحَت لي هذه الحادثة بقصَّةَ "التَّصحيح" التي أوردتُها ضمن نصوص كتابي الساخر "شَغَب" الصادر بدمشق سنة 2007 أنقلها لكم:
"بعد انتظارٍ طويل، وفي الهزيع الأخير من ليل الوطن، تمكَّنَ المواطن (س) من الفرار خارج المصحِّ العقلي تاركاً خلفه ذكرياتٍ وصداقاتٍ طيبةً مع قاطنيه. استقلَّ أولَ سيارة أجرة تمرُّ به متجهاً نحو العاصمة التي يقعُ المصحُّ في إحدى ضواحيها. كانت عيناه شاردتين خلف زجاج السَّيَّارة: بشرٌ تجري شجرٌ يجري ريحٌ تجري، مثل حياته التي خلَّفها خارج المصحِّ أولَ مرَّة. تذكَّرَ أولَ عهده بالخروج على النظام: حاملاً شهادة ر ف ك، وآمالُ أبويه في أن يكون لبنة في جدار الوطن المنيع، ألقَوهُ في غرفة ضيقة مع خزنة حديدية ليصبح محاسب رواتب في مؤسسة عامة بعد عشرين عاما من التصاق مؤخرته بمقاعد العلم، تخرَّجَ بعدها ليكتشف أن (العلم يبني بيوتاً لا عماد لها) أي خارج نطاق إنجازات وزارة الإسكان.
لم تحتمل روحه رؤية أمثاله من الموظفين الواقفين في طابور ذليل لاستلام راتب شهري يكفيهم مؤونة يوم واحد. فكر وقدر طوال ليلٍ قبل أن يقدم صباحاً على توزيع ميزانية المؤسسة على موظفيها البائسين.
بعد انتهاء الدوام عاد إلى منزله، قبّل يد والدته وتناول طعام الغداء الذي أعدَّتْهُ له ثم أخذ قيلولةَ من يشعر أنه أرضى ربَّهُ وضميرَهُ. وفي نومه سمع دعاءَ الموظفين في الأرض له، ورأى ملائكةً بأجنحة بيضاء تحملهُ إلى الجنة. في اليوم التالي لإنجازه التاريخي وصل إلى عمله في الوقت المحدد، فرأى سيارة المصَحِّ وأمامها ممرضان يرتديان ثياباً بيضاً بانتظاره، فعلم أن منامَهُ قد "انفدى"، أخذوه إلى المصحِّ الوطني، وهناك شكلوا له لجنة طبية لتأكيد جنونه، سأله رئيس اللجنة: هل تدرك ما فعلته بالأمس؟
قال المواطن (س) بهدوء: حسب التعاليم الاشتراكية التي تهيمن على البلاد فقد وزعت فضل القيمة على مستحقيها.
ـ يا ابني هذا مال الوطن، وأولو الأمر هم من يقررون أموراً كهذه. وما قمت به هو أنك أفرغت خزنة المؤسسة.
ـ صحيح أني أفرغت الخزنة من النقود، لكني وضعت فيها ما هو أثمن وأغلى!
ـ وماذا وضعت؟
ـ حفنة تراب!
ـ ومن يبادل حفنة تراب بالملايين؟
ـ لقد علمونا في المدرسة أن تراب الوطن أثمن ما في الوجود.
ـ هذا حكي مدارس يا ابني ولا يصدقه سوى الأطفال والمجانين.
ـ وأنا صدقته.
قالت اللجنة: طيب بما أنك صادق، هل تعدُّ نفسك مجنوناً أم عاقلاً؟
ـ هذا يتوقف على توصيفكم لأنفسكم، باعتباركم موظفين بدوام كامل وراتب ناقص، هل تعدّون أنفسكم مجانين أم عقلاء؟
أجابت اللجنة بصوت واحد: بالطبع نحن عقلاء.
ـ في هذه الحالة يجب أن أكون مجنوناً لكي يكتمل توصيف اللجنة الطبية عليكم.. ثم تركهم وغادر بنفسه نحو العنبر رقم 6 ليقيم فيه حتى لحظة فراره. عند هذه النقطة من التذكر استيقظ (س) من شروده وقال لسائق التكسي:
ـ عفواً، هل يمكنك أن تعيدني إلى المكان الذي نقلتني منه؟
ـ السائق: هل أنت مجنون؟
ـ كيف عرفت ؟
ابتسم السائق قبل أن يضرب كابحه أمام مبنى (الشركة المتحدة للصناعات الغذائية) ليعود بالسيارة عندما برز له من قلب الظلام حارس مدجج بالسلاح وهو يصرخ: ممنوع التوقف هنا. لم يهتم السائق وهو يعود أدراجه. قال (س): ما الذي يحرسونه في الداخل؟ وممَّ هم خائفون؟
قال السائق: إنهم يحرسون الغباء.
ـ الغباء؟!
ـ نعم الغباء.. اسمع هذه الحكاية: أثناء الثورة كان لابد لرجالها من أن يؤمموا شيئاً ما لكي يكتمل الإعلان عن ثورتهم الاشتراكية بعد البلاغ رقم واحد، ولما كانت البلاد زراعية لم يجدوا في طريقهم سوى بضعة معامل وورشات صغيرة فأمموها، ومن بينها هذه المنشأة التي غدت خاسرة إلى يومنا هذا، ردد (س) مستغرباً: خاسرة! تابع السائق: نعم، وبعد ربع قرن من الخسارة قررت الحكومة أن تعرف لماذا؟ فأرسلت خبيراً لدراسة الأمر. جاؤوا له بالسجلات والأضابير حتى امتلأت الغرفة ثم أرسلوا له قهوته مع الحاجب. نظر إليه المفتش ثم قال: من كم سنة أنت تعمل هنا يا عم؟ قال الحاجب: من زمان يا سيدي، من قبل التأميم!
قال المفتش: وهل كانت الشركة خاسرة حينذاك؟ الحاجب: لا، كانت رابحة، المفتش: ولماذا برأيك كانت رابحة ثم غدت خاسرة؟ الحاجب: العفو يا سيدي أنا مجرد حاجب أمي. المفتش: وأنا يهمني أن أسمع رأيك. الحاجب: السبب بسيط يا سيدي: قبل التأميم كانت عين المدير على الشركة ومؤخرته على الكرسي، بعد التأميم صارت عيون المديرين المتعاقبين على الكرسي ومؤخراتهم على الشركة.
وراح السائق يضحك ضحكاً يشبه البكاء قبل أن يتوقف عند باب المصح. ترجل (س) أمام الباب، رفع رأسه وتأمل (الآرمة) التي فوقه: (مصح ابن سينا للأمراض العقلية) تسلق البوابة حتى وصل إلى (الآرمة) ثم فك براغيها. قلبها وأعاد تركيبها بحيث يصبح وجهها إلى داخل المصح وقفاها نحو العالم الخارجي. أعاد قراءتها بإعجاب: مصح ابن سينا للأمراض العقلية. ابتسم وقال: الآن أعدت تصحيح الأمور، ثم عاد إلى عنبره راضياً مرضياً!
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد