إلى دعاة إنكار الذات نيتشه
ترجمة: فؤاد زكريا
لا تُعد فضائل الشخص خيرًا بالنسبة إلى ما تعود به من نتائج على صاحبها ذاته، بل بالنسبة إلى ما يُنتظر من نتائجها علينا وعلى المجتمع. والحقُّ أن الإنسان في امتداحه الفضائل، كان دائمًا أبعد ما يكون عن «إنكار الذات» وعن «الغيرية». ولو لم يكن الأمر كذلك، لأدرك أن الفضائل (كالنشاط والطاعة، والعفة، والتقوى، والعدالة) هي في أغلب الأحيان «ضارة» بأصحابها؛ إذ هي ميول تُسيطر عليهم بشيءٍ غير قليل من العنف والشدة.
ولا يستطيع العقل أن يحقق التوازن بينها وبين سائر الميول. فحين تكون لديك فضيلة ما، فضيلة حقة، كاملة (لا مجرد نزوع سطحي إلى الفضيلة!) تكون أنت ضحيتها! ومع ذلك يمتدح الجار فضيلتك لهذا السبب عينه! إن المرء ليمتدح النشيط، برغم أنه يضر في نشاطه هذا بقوة إبصار عينيه، أو بأصالة روحه وصفائها، وإن المرء ليمجد الشاب الذي «استهلك نفسه في العمل»، ويتحسر عليه؛ إذ يحكم على الأمر قائلًا: إن خسارة خير الأفراد من أجل المجتمع بأكمله إنما هي تضحية طفيفة! والمؤلم في الأمر أنها تضحية ضرورية! ولكن الأكثر من ذلك إيلامًا أن يفكر الفرد على نحو مخالف، وينظر إلى بقاء ذاته، وإنمائها على أنها أمر يفوق في الأهمية عمله من أجل خدمة المجتمع!» وهكذا يتحسر الناس على هذا الشاب لا حزنًا عليه هو ذاته، وإنما لأن المجتمع قد فقد بهذا الموت أداة طيعة تفرط في ذاتها؛ أعني أنه فقدَ ما يُسَمَّى «بالرجل المُجِدِّ». وربما فكر البعض في أنه قد يكون أنفع للمجتمع لو عمل ذلك الشاب على أن يكون أقل تفريطًا في ذاته، وأكثر حرصًا على بقائه، ولكنهم مع موافقتهم على أن هذا قد يكون فيه نفع للمجتمع، يؤكدون أن هناك نفعًا آخر هو خير وأبقى؛ وأعني به حدوث «تضحية»، والشعور بأن فكرة «الفداء» قد تكررت ودُعِّمت مرة أخرى بصورة بادية للعيان.
وعلى ذلك فعندما تُمتدح الفضائل يكون ما يُمتدح فيها في واقع الأمر صفتها من حيث هي أداة، وذلك الاندفاع الأعمى الذي يسُود كل فضيلة، والذي لا يجعلها تقتصر على حدود نفع الفرد وحده؛ أي بالاختصار، تلك الصفة الهوجاء في الفضيلة، التي يتحول بها الفرد إلى أداة في يد الكل فحسب. فامتداح الفضائل هو امتداح لشيء ضار بالفرد، هو امتداح لميول تسلب الإنسان أنبل حب لذاته، وقدرته على أن يرعى نفسه على أكمل نحو.
ولا جدال في أن المرء يلجأ من أجل تلقين العادات الفاضلة ونشرها إلى إيراد سلسلة من النتائج التي تنجم عن الفضيلة، على نحو تبدو معه الفضيلة ونفع الفرد متفقَين. والحقُّ أن هذا الاتفاق بينهما موجود بالفعل! فالنشاط المندفع الطبع مثلًا، وهو الفضيلة التي تتميز بها الأداة، يُنظر إليه على أنه هو سبيل الثراء والمجد، وهو خير ترياق من الملل والآلام؛ غير أن المرء يتجاهل عن عمد ما فيه من خطر، بل من خطورة عظمى؛ فالتربية تمضي دائمًا على هذا النحو؛ هي تسعى عن طريق سلسلة من الترغيبات والمنافع، إلى أن تبثَّ في الفرد طريقةً في التفكير والسلوك، من شأنها إذا أصبحت عادةً وغريزةً وانفعالًا متأصِّلًا أن تسيطر عليه وتتحكم فيه «على نحوٍ مضادٍّ لنفعه النهائي»، وعلى نحو نافع للمجموع. ولكَم رأيت النشاط المندفع الطيِّع يجلب ثراءً ومجدًا بحق، ولكنه في نفس الوقت يسلب أعضاء الجسم ذلك الحس المرهف الذي يمكنها به أن تستمتع بهذا الثراء وهذا المجد، كما رأيت ذلك العلاج الشافي من الملل ومن الآلام يحيل الحواس صماء والروح محصَّنة ضد التأثر بأي عامل جديد. (فأنشط العصور — أعني عصرنا الحالي — لا يفعل شيئًا بنشاطه وماله الموفور، سوى أن يكتسب على الدوام مزيدًا من المال، ويبذل مزيدًا من النشاط؛ ذلك لأن الإنفاق يحتاج إلى ذكاء يزيد عما يحتاج إليه الاكتساب! ولكننا على أية حال سيكون لنا «أحفاد» من بعدنا!) فإذا ما بلغت التربية هدفها، فإن كل فضيلة للفرد تغدو نفعًا للجماعة، وضررًا للفرد، إذا نُظر إليها من حيث الهدف الفردي الأسمى، وربما كان في ذلك فساد للروح والحس، أو هلاك سابق لأوانه، وعلينا أن نتأمل، من وجهة النظر هذه، فضائل الطاعة والعفة والتقوى والعدالة. فامتداح من ينكر ذاته، ويضحي بها، ويتصف بالفضيلة؛ أعني امتداح ذلك الذي لا يبذل كل طاقته وذهنه من أجل الإبقاء على «ذاته»، وإنمائها، والعلاء بها، وإنهاضها، وبسط سلطانها، وإنما يحيا، إزاء ذاته، حياة كلها ضعة وغفلة، وربما كان فيها عدم اكتراث أو سخرية؛ هذا الامتداح لا يظهر أبدًا بدافع إنكار الذات! إذ إن «الجار» لا يمتدح إنكار الذات إلا لأنه سيجني منها غنمًا! ولو كان الجار يفكر على نحو فيه إنكار للذات، لرفض هذا التشتيت للطاقة، وذلك الضرر الذي يحل من أجله «هو»، ولعمل على الحيلولة دون ظهور مثل هذه الميول، ولأظهر — قبل كل هذا — إنكاره لذاته، بالامتناع عن تسمية هذا «خيرًا»، وهنا نصل إلى التناقض الأساسي الذي تتصف به تلك الأخلاق التي تلقى اليوم أعظم تمجيد؛ «فدوافع» تلك الأخلاق مضادة «لمبادئها».
وتلك الأخلاق تفند ما تريد أن تبرر به نفسها؛ تفنده بمعيارها الخاص لما هو أخلاقي! والقضية القائلة «عليك أن تنكر ذاتك وتضحي بها» ينبغي عليها، إذا شاءت ألا تتعارض مع أخلاقيتها، ألَّا تصدر إلا عن كائن ينصرف في دعوته هذه عن نفعه الخاص، وربما وجد في تلك التضحية التي يدعو الفرد إلى القيام بها هلاكًا له هو ذاته. ولكن ما إن يدعو الجار (أو المجتمع) إلى الغيرية «بدافع المنفعة»، حتى يكون قد اتبع المبدأ المضاد، القائل «عليك أن تسعى إلى المنفعة، حتى على حساب الآخرين.» وبهذا يدعو إلى الأمر «عليك أن …» والنهي «عليك ألا …» في آنٍ واحد!
العلم المرح، الفقرة ٢١
إضافة تعليق جديد