أدونيس يكتب ملحمته "أدونيادة" على خطى هوميروس وفرجيل
عن دار "لوسوي" الفرنسية صدر ديوان جديد للشاعر أدونيس بعنوان "أدونيادة" قامت بترجمته وتقديمه الباحثة بنديكت لوتليي مديرة قسم الآداب في جامعة ريونيون. هذه الباحثة المختصّة في الأدب المقارن عقدت صداقة قوية مع أعمال أدونيس الشعرية والنثرية امتدت سنوات طويلة ترجمت خلالها، من مدوّنة أدونيس الشعريّة، قصائد متنوعة، ومن مدوّنته النثريّة نصوصاً مختلفة لعلّ أهمّها كتابه "الصوفية والسوريالية". وقد آثر الشاعر أن يصدر ديوانه الملحمي الجديد في الترجمة الفرنسية قبل الأصل العربي.
لعلّ أوّل ما يلفت انتباه القارئ في هذا الكتاب الشعريّ عنوانه. فعبارة "أدونيادة" التي وسم بها الشاعر العنوان تبدو لأوّل وهلة عبارة غريبة، غير مألوفة ولا متداولة. ليس لها أصل في القواميس العربية. أمّا إذا أنعمنا النظر وجدناها تنطوي على اسم أدونيس من ناحية، وعنوان الملحمة الهوميرية: الألياذة، من ناحية أخرى. وهذا النحت محمّل بالمعنى. لكأنّ الشاعر أراد، من خلال هذا العنوان، أن يقول إنّه اقتفى أثر الشاعر هوميروس، وكتب، هو أيضاً، ملحمته.
لكنّ الشاعر لم يستدع الملحمة الهوميرية في العنوان فحسب وإنما استدعاها في الديوان نفسه، في بنيته، في توزيع نصوصه إلى مجموعة من الأناشيد، في نبرته، في هذ الحشد الكبير من الأشخاص الذين استحضرهم، داخل قصائده، واحتفل بهم. القصيدة هنا، كما ملحمة هوميروس، مهرجان من الأصوات والشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة تتشابك تشابك التعمية والتداخل والتسوية.
ملحمة مسارية
الفارق الكبير بين العملين أن عبارة الألياذة مشتقة من عبارة "أليون" وهو الاسم القديم لمدينة طروادة في حين أنّ عبارة "أدونيادة" مشتقة من كنية الشاعرأدونيس. ملحمة هوميروس هي ملحمة المكان، بينما ملحمة أدونيس هي ملحمة الشاعر. الملحمة الأولى تروي تاريخ اليونان الأسطوري، بينما الملحمة الثانية تروي مسار أدونيس الشعري والفكري. الملحمة الأولى هي ملحمة الماضي بينما ملحمة أدونيس هي ملحمة الحاضر.
وربّما ذكرتنا قصيدة أدونيس، في بعض الوجوه، بملحمة فرجيل "الإنياذة" التي نهض فيها الفارس الطروادي إنياس، الجدّ الأسطوري للشعب الروماني، بدور البطولة. ملحمة فرجيل صوّرت، في جزئها الأول، على الأقل، إينياس يسافر غرباً إلى إيطاليا حالماً ببناء وطن جديد بعد أن فقد وطنه الأول. إنه أنموذج المحارب المشرّد يمتطي المخاطر، ويمخر البحر، باحثاً عن أرض تؤويه بعد فترة طويلة من التّيه. وفي صفحات من الأدب الرفيع يتحدث إينياس بحضرة ديدون أميرة قرطاج، عن مذبحة طروادة ويروي لها المغامرات والاحداث المروّعة التي اعترضت سبيله حتى وصوله إلى قرطاج. هذه الصفحات تجعلنا نقرّب بين العملين وربّما نقارن بينهما مقارنة مناسبة ومشابهة.
غربة العالم
لا شكّ في أنّ بين ديوان أدونيس وملحمة فرجيل صلات وعلاقات كثيرة، لعلّ أهمّها الإحساس الفادح بالغربة وسط عالم مناوئ ومخيف. من هنا تصبح المغامرة، مغامرة الفروسيه لدى إينياس، ومغامرة الكتابة لدى أدونيس إحدى الطرائق الممكنة لتأسيس عالم آخر مختلف.
لكنّ هذا العنوان "أدونيادة" لا يذكّر المتقبل، في نظر الكاتبة بنديكت لوتليي بالملاحم القديمة فحسب، وإنّما يذكر أيضاً بأعياد أدونيس "الأدونيات" التي كانت تعقد في مدن الشرق القديم حيث تجتمع النائحات في مدينة جبيل/ بيبلوس يبكين موت الإله الجميل، كل سنة، تحيط بهن الراقصات والمنشدات الباكيات... وفي اليوم التالي يحتفلن بعودة أدونيس إلى الحياة وارتقائه إلى السماء. أما في الأسكندرية وقبرص فقد انتشرت طقوس أدونيس وسادت فيهما عادة حمل تماثيله وصنع حدائقه من سلال وأحواض نباتات وتنظيم مواكب نسائية.
تدعو الكاتبة بنديكت لوتليي القارئ إلى استحضار هذه الأسطورة متى قرأ هذا النص الكبير، فالإله أدونيس برمزيّته النورانية حاضر حضوراً غامراً في الكثير من الأناشيد، فهو كوكبة من الرموز محتشدة في رمز واحد. كل القصائد تشير، بطرائق مختلفة، إلى ضوء ما، ينبجس من نقطة ما، ليبدّد ظلاماً أبى أن ينقشع. في هذا السياق تحدثت الكاتبة عن حضور الفجر في هذه القصيدة/ الديوان. فجر غامض، ملتبس، لا يكاد يظهر أو يبين، لكنّه يتقدّم باستمرار. من هنا تستنتج الكاتبة أنّ عمل الشاعر يتمثل في محاربة ظلمات السماء. الشاعر هو رديف أدونيس أي قرين الضوء والبرق والنار. بناء على هذا تعتبر الكاتبة شعر أدونيس ذا طبيعة شمسية، فهو يلهم ويضيء.
بنبرة ملحمية تتخللها مقاطع غنائية ذات شفافية عالية كتب أدونيس نصه "أدونيادة"، مستلهماً الثقافة الإنسانية في تعددها واختلافها محتفياً بجملة من القيم ما فتئت تتردّد في فضاء قصائده هي: قيم الاختلاف والتنوع والتسامح بوصفها خشبة الخلاص الأخيرة. وأنت تقرأ هذا النصّ الذي يتدفّق، مثل كل النصوص الكبيرة، كالنهر، كشلال من الصور والرموز، يأخذ بعضها برقاب بعض لا بدّ أن تتساءل: ما الذي يكتبه أدونيس في هذ الكتاب الجديد؟ هل إنّه يخطّ سيرته الفكرية والشعرية؟ أم إنّه يخطّ، ككل الأعمال الكبيرة، سيرة ثقافة بأكملها؟
بين السيرتين
إن الحدود غير واضحة بين تينك السيرتين في هذا الكتاب الشعري. فكثيراً ما تتداخل السيرتان، تتشابكان، تحيل إحداهما على الأخرى. الصوتان يتحوّلان إلى صوت ثالث هو خلاصة الصوتين السابقين.
كثيرة هي الأسئلة التي استضافتها قصيدة أدونيس لكن أهمّ هذه الأسئلة وأولاها بالنظر سؤال الكتابة. قصيدة أدونيس أسهمت في نقل أسئلة الشعر من خارج القصيدة إلى داخلها، قلبت التقليد الذي يتوجّه إلى الشعر بوصفه موضوعاً للتأمّل لا أداة لإنتاج المعرفة فبات الخطاب الشعري، بسبب من ذلك، يمتلك صلاحية الـتأويل. إن أدونيس ما انفكّ يسأل، بعد أن فقد الأنموذج الذي يهتدي به في ليل الكتابة: ما الكتابة؟ وكيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ فمغامرة الكتابة أصبحت مغامرة متجدّدة يخوضها الشّاعر مع كلّ قصيدة يكتبها.
فالشاعر، إذا استحضرنا إحدى قصائده السابقة، يحيا بين سورتين: "سورة القلب" و"سورة الذّهن" يحدس ويفكّر، ينفعل ويتأمّل، فقد انتهى عصر الجوهر الثّابت والجنس النّقيّ، وجاء عصر الجواهر تتنوّع والأنواع تتعدّد: "وبين سورة القلب تتفطّر شعراً وسورة الذّهن تتلألأ نظراً، أكتب وأعلن كتابتي غواية، أكرّر: لستُ الجوهر، لست النّوع النّقيّ، أنا جواهر وأنواع". هذا الشّعر الغواية الذي يناهض الحدود بين الأنواع والأجناس هو الشّعر الذي يستدعي ألواناً من المعارف شتّى، ليقول، من خلالها، تجربته. هذا الضّربُ من الشّعر يعدُّ عُدولاً عن الشّعر الغنائيّ ذي المضامين الوجدانيّة واقتراباً من أشكال التّعبير الموضوعيّ المفتوح على مختلف التّعبيرات الفكريّة والفنّيّة. إنّ بين "أدونيادة" وقصائد أدونيس السابقة أواصر وصلات. فهذا النّمط من الشّعر الذي ظهر أول ما ظهر في "أبجدية ثانية"، وترسخّ في "الكتاب" نهض بوظيفتين: وظيفة جماليّة ترتبط بطبيعة الخطاب الشّعري وبطرائق تصريف القول فيه، ووظيفة معرفيّة تتّصل بالأسئلة الأنطولوجيّة التي تنطوي عليها.
شعر على الشعر
إنّ قصائد أدونيس لا تكفُّ، في مجمل نماذجِها، عن التّنقّلِ بين نصِّ العالم وعالم النّصّ، ساعيةً إلى لفْتِ انتِباهِنا إلى المدلول الذي تشير إليه الدوالّ من ناحية، وساعيةً في الوقت نفسِه إلى لفت انتباهنا إلى الدوالّ وحضورها الذّاتي. وإذا أردنا أن نسْتخْدم عبارات رولان بارت قلنا إنَّ هذا الشّعرَ بات يعي كيانه المزدوج بوصفه خطاباً وخطاباً على الخطابِ، شعراً وشعراً على الشّعرِ، مُنتهكاً بذلك ميثاق القراءة الذي يقوم على التّفريق بين الأنواع والأجناس، مُؤسِّساً فضاءً جديداً يسوده الالتباس حيث نجد الشّعر والتّفكير في الشّعْر يتداخلان تداخل التّعْميةِ والتّسوية والتَّشابك. ولا شكّ في أنّ النّظريّة الشعريّة القديمة هي التي صرفت أنظارنا عن رصد حركة الإبداع المزدوجة، فاكتفينا في الأغلب الأعمّ بالنّظر إلى الشّعر على أنّه زُجاجٌ شفّافٌ ننظر من خلاله إلى المضمون. يؤكّد ذلك أنّ هذه النّظريّة النّقديّة قد عدّت اللّغة، في الشّعر، وسيلة لأداء المعنى، فهي محْض وعاء والوعاء منفصلٌ بالضّرورة عمّا يحتويه فلا يغيّر من طبيعته، ولا يُدخل عليه تعديلاً. ويتجاوب هذا مع اعتبار الكلمات أدوات للإشارة على حدّ عبارة الجرجاني "فهي لا تخلق الأفكار، وليست مواقف أو رموزاً أو تأويلات أساسيّة". والبلاغيُّون القدامى كانوا يذهبون، كما يقول مصطفى ناصف إلى "أن الكلمة بطاقة توضع على أصناف المرئيّات" وقد أدّى هذا الفهم للنّصّ الأدبي إلى العناية بمدلولات الشّعر دون دوالّه، أيْ بمقول القول لا بالأداة التي تصنع القول.
أضف إلى كلّ هذا أنّ طبيعة الشّعر التّقليدي كانت تزكّي هذا التّوجُّه وتؤكّده، فهذا الشّعر كان منشغلاً بالحوار مع العالم الخارجي أكثر من انشغاله بالحوار مع عالمه الدّاخلي فهو شعر الأغراض، والأغراض تجعل معنى الشّعر يوجد خارجه، منفصلاً عنه. غير أنّ النّظريّات النّقديّة الحديثة استدركت على هذا الفهم التّقليدي للأدب ودعت إلى العناية بطرفي العمليّة الإبداعيّة: الدّالّ والمدلول واِيلاؤهما القدر نفسه من الاهتمام.
إن المتأمّل في هذه القصيدة الديوان يلاحظ أنها كانت بمثابة مختبر شعري عملت كل النصوص الإبداعيّة والنظرية التي تفاعلت داخله على تأسيس خطاب شعري يسهم في توسيع معنى الشعر أي يسهم في توسيع معنى الحياة.
اندبندنت عربية
إضافة تعليق جديد