أدونيس: هذا العنف الهادئ
- 1 –
أظن أن على كل لبناني، اليوم، أن يطرح هذا السؤال: ما السياسة؟ قد يكون هناك أكثر من جواب. وقد تكون الأجوبة صعبة. غير أن الجواب الذي قد يكون الأكثر قرباً الى الصواب، والأكثر وضوحاً، هو ذلك الذي أسست له «الثورة الفرنسية»، وتابعته السياسة الحديثة. ويصوغه الفيلسوف الفرنسي لوك فيرّي (الفيغارو، 8 كانون الثاني/ يناير 2007) كما يلي: «تقديم الحياة العامة على الحياة الخاصة». ويتابع قائلاً: «إذا حدث خلاف بين هاتين الحياتين، فلا بُد من التضحية بالثانية من أجل الأولى».
- 2 –
ما «الحياة العامة» في لبنان؟
الجواب «العام» هو أنها «ذائبة»، «ضائعة في «الحياة الشخصية». ولفظة «الشخصية» هنا لا تقتصر على «فردية» الفرد العامل في السياسة، وإنما تشمل كذلك شبكة واسعة: العائلة التي تحدر منها أو يرثها، الطائفة التي ينتمي إليها، الدين الذي يؤمن به، التجارة التي يمارسها، والمصلحة التي يعمل لتحقيقها.
ونعرف جميعاً، ميدانياً وبالتجربة التاريخية أن «حُمّى» السياسة المرتبطة بالفَرد العامل في السياسة، وبهذه الشبكة، لا تدمر «الحياة العامة» وحدها، كما هو حاصل، وإنما تدمّر كذلك «الحياة الشخصية» وشبكتها.
- 3 –
في هذا الضوء، أصف كُلاً من موقفي «المعارضة» و «الموالاة» في لبنان، بأنه «عُنفٌ»، ولا فرق بينه وبين «العُنف الإرهابي» إلا «هدوءه». غير أن «العنف الهادئ» مُبطّنٌ بآخر «صاخب»، أو باحتمال انقلابه الى «حرب».
سوف أتناسى هذا الاحتمال، موقتاً، وأطرح سؤالاً على أصحاب هذين الموقفين، هو التالي:
ما «مشروع» المعارضة أو الموالاة، الاجتماعي – المدني، والثقافي – الاقتصادي، لبناء «الحياة العامة» في لبنان، والذي يستحق أن يُمارَس من أجله «هذا العُنف»؟
المحكمة؟ إنها قضية عدالة ضرورية، وليست مشروعاً بهذا المعنى الذي أشير إليه.
قتال العدو؟ ليس مشروعاً في ذاته، وإنما هو جزءٌ في مشروع تحرر كامل من هيمنة «الأعداء»، أياً كانوا، وعلى جميع الأصعدة.
دعمُ هذا النظام الصديق، أو ذاك، بحجة أو بأخرى، لا يُعدّ، هو كذلك، مشروعاً.
المشروع الجدير بهذا الاسم والذي يحتاج إليه لبنان هو بناء «حياة لبنانية عامة»، بناء لبنان آخر – إنسانياً وحضارياً. وهو مشروعٌ «غائب» عند الموالاة والمعارضة معاً، أو عند «الأكثرية» و «الأقلية».
هكذا يبدو هذا العنف، وإن يكن «هادئاً» كأنه تقويضٌ لما تبقى من لبنان، أي لما يمكن أن يكون مُنطلقاً أو نواة لهذا النوع من البناء.
أُضيف أنه لا بد من الاعتراف بأن هذا «العُنف الهادئ» في لبنان، «يعمل»، بشكلٍ أو بآخر، وربما من دون أن يقصد، كأنه «خميرة» للعنف بحصر المعنى، أو كأنه «تزكيةٌ» له، لا في لبنان وحده، بل كذلك في البلاد العربية كلها. هكذا يبدو كأنه نوع من «التربية» و «التثقيف»، و «الإعداد» لمجيء العُنف المدمر الشامل. أو كأنه بمثابة الغيوم الكثيفة التي تنذر بالصواعق وربما بالطوفان.
- 4 –
أين هي تلك «الذاكرة» التي لا يسكن العربي، غالباً، إلا فيها؟ أين هي لكي نسألها:
ماذا فعلت وتفعل تجربة العنف، باسم الدين، في البلاد العربية، من الجزائر حتى بغداد؟
ماذا فعلت تجربة العنف في الحرب الأهلية اللبنانية؟
ثم إن خمسين سنة من العُنف باسم فلسطين جديرة بأن توضح أن هذا العُنف لم «يُنهك» العدو، وإنما أنهك أصحابه.
وكيف لا نرى الواقع؟ ولماذا لا نراه؟ ما هذا «الحجاب» السري الذي ينسدل على وجوهنا ويحول بيننا وبين الرؤية الواضحة الصريحة، البسيطة؟ ما السر في تمسكنا بخوض «حروب» تشل حياتنا، وتستنزف مواردنا وثرواتنا وطاقاتنا، وتكاد أن «تستأصلنا»؟ ما السر في هذا الإصرار على الموت، مجاناً، أو عبثاً، أفراداً وجماعات وبلداناً؟
- 5 –
أعرف وحشية العُنف الدولي «الحديث» الذي يطارد العرب، والذي يتناقض مع الأعراف والقوانين الدولية. وأعرف أن بعض أصحابه لا يُخفون مُنطلقه الديني، وتمثيله الشرعي للدين وأتباعه ودولة إسرائيل، في هذا الصدد، مَثَل حيّ، وفريد في تاريخ العالم الحديث، بعد استئصال الهنود الحمر: فقد قامت هذه الدولة كمثل الولايات المتحدة، على أنقاض شعب آخر.
أعرف كذلك العُنف «الحديث» الآخر الذي ينطلق من موقف ديني – مَدني، مبيناً خطاب عصر الأنوار، والنضال من أجل تعميم الديموقراطية، مما يدفع أصحابه الى إعلان حقهم في ممارسة نوع من المسؤولية على مستوى الكون. وهي الممارسة التي تقوم بها السياسة الأميركية في الوقت الراهن.
أعرف أيضاً وأيضاً أن العنف ملازم لعدم الاعتراف بالآخر، سواء كان مُنشقاً في الداخل، أم كان «غازياً» أجنبياً.
أعرف، بخاصة، هَوْل العنف الإسرائيلي في عدم الاعتراف بالآخر الفلسطيني، وأسأل، استناداً الى هذا كله: كيف يتخيل العالم أن يقابل الفلسطيني هذا العنف الإسرائيلي؟
وأعرف أن العالم «يهرب» من الجواب عن هذا السؤال، أو يدور حوله، موجهاً وجهه الى إسرائيل، مديراً ظهره الى «القتيل»، مضفياً عليه، فوق ذلك، صفة «الإرهابي».
أعرف هذا كله.
لكنني أعرف، في الوقت نفسه، أن الرد على هذا العنف في مختلف أشكاله، يمكن أن يتم في خيار آخر غير العنف: يكون ببناء «الحياة العامة»، ببناء خلاّق للبنان آخر، ومجتمع عربي آخر.
والسؤال هو، إذاً: ماذا يعمل اللبنانيون لتحقيق هذا البناء، وماذا يعمل العرب؟
- 6 –
ما يحدث اليوم في لبنان، في فلسطين، في الجزائر وبغداد والخرطوم، (والبقية الآتية) «نسيجٌ» واحد – «انفجارٌ» في حالة متواصلة، منذ زمن ليس بالقصير. «تنويعٌ» على قتل الإنسان. يهودٌ، مسيحيون، مسلمون يعيدون كتابة تاريخهم الأول، بالدم نفسه: دم هابيل. وهو، بوصفه كذلك، يُصبح تاريخاً كونياً، فيما يبدو العرب أنهم هم «الخراف»: خراف التضحية.
هكذا، يُقتل الإنسان في هذه المنطقة العربية، وبقتله لا يبقى فيها غير الآلة.
ماذا تريد هذه الآلة؟
وأين أنتم أيها الأنبياء الذين «لا نفرّق بين أحدٍ منهم»؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد