«الحسناء النائمة في الغابة» لتشايكوفسكي: لهيب الروح في حكاية للصغار
«الحمد لله أن موتسارت والموسيقى الأوبرالية الإيطالية كانا دائماً في المرصاد كي ينقذاني من تأثيرات الموسيقى الألمانية كما تجلت لدى فاغنر وبرامز». كان هذا، تقريباً ما يقوله تشايكوفسكي، حين يُطلب منه أن يتحدث عن فنه. غير أن ما كان صاحب «بحيرة البجع» يقوله أقل من ذلك، هو الجانب من تاريخه المتعلق بالصراع القوي الذي خاضه، موسيقياً أيضاً، ضد مجموعة «الخمسة الروس» فهذه المجموعة التي كانت تضم، في ذلك الحين، أي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كلاً من موسورغسكي وكوي ورمسكي - كورساكوف وبورودين وبالاكيريف، كان من الواضح منذ تكونها التدريجي أنها تسعى، طبعاً، إلى إيجاد موسيقى حديثة، بيد أن حداثتها كانت تقوم فقط على تطوير أسلوب قومي روسي. أما بالنسبة إلى تشايكوفسكي، فلم يكن ثمة مجال لإيجاد مثل هذا الأسلوب، لأن المطلوب، لدخول روح العالم والعصر، هو إيجاد توازن خلاق بين ما هو محلي من ناحية الموضوع، وأوروبي من ناحية الشكل والأسلوب للوصول إلى موسيقى كوزموبوليتية شديدة الرهافة. والحقيقة هي أنه في الوقت الذي تمكّن الخمسة من إنجاز مشروعهم في بعض أعمالهم فقط، كان من تشايكوفسكي أن حقق مشروعه في أعماله كلها، من دون أن يعني هذا أن أسلوباً من الاثنين انتصر على الآخر. فالذي حدث هو أن تشايكوفسكي أدخل موسيقى بلاده في خريطة الفن الموسيقي العالمي، بينما تمكن «خصومه» من مد الموسيقى العالمية بألحان وأساليب روسية سرعان ما شوهدت تأثيراتها في مناطق معينة من أوروبا، ولكن من دون أن تصبح حقاً جزءاً من الموسيقى الأوروبية.
> ولأن تشايكوفسكي آثر الكوزموبوليتية على المحلية، كان من الطبيعي له أن يستمد معظم مواضيع أوبراته أو استعراضات الباليه التي لحّنها، من مواضيع كوزموبوليتية، يمكن أن تنتمي إلى أي حضارة من الحضارات ذات الحضور المركزي في العالم. ومن هنا نجد بين أعماله مواضيع روسية («أوجين أونيغين») متكيفة مع الذوق الخارجي، ومواضيع شكسبيرية، وما إلى ذلك، من دون أن ننسى بالطبع موسقته لحكايات كونية تنتمي إلى أدب كتب للصغار. وفي هذا المجال تبرز رائعته «الحسناء النائمة في الغابة» ذلك الباليه الذي لا يتفوق عليه في أعمال تشايكوفسكي نفسه سوى «بحيرة البجع» وربما أيضاً «كسارة البندق» ولو بحدود. ونعرف أن «الحسناء النائمة في الغابة» هي في الأصل واحدة من الحكايات التي دوّنها الفرنسي شارل بيرو أولاً، ثم الأخوان غريم من بعده، ثم جالت على معظم ثقافات العالم وآدابه، لتحوَّل مسرحيات وأوبرات، قبل أن يتلقفها الفن السابع في القرن العشرين جاعلاً منها أفلاماً روائية أو غنائية، أو أفلام رسوم متحركة، في الوقت نفسه الذي التقطها علم النفس والتحليل النفسي للأدب ممعناً فيها تحليلاً لعل أهم ما فيه كونه ينفي عنها البراءة ليحولها عملاً جاداً مملوءاً بالدلالات (برونو بتلهام في كتابه «التحليل النفسي لحكايات الجان»). وفي عودة من هذا الاستطراد لا بد من الإشارة إلى أن تشايكوفسكي في معرض تلحينه لهذا العمل، بقي حاصراً نفسه وسط رومانطيقية خلاقة طبع بها الاستعراض الراقص. رومانطيقية تتجاوز كون النص وجد أصلاً ليُقرأ من قبل الصغار. ما يعني، بالنسبة إلينا هنا، أن تشايكوفسكي أدرك جوهر العمل وروحه، قبل أن يصل التحليل النفسي الحديث إلى التقاط هذا كله.
> في الحكاية الأصلية التي تشكل موضوع «الحسناء النائمة في الغابة» تُروى لنا المأساة التي حلت بالأميرة الفتية يوم عيد عمادها، حين دعيت الجنيات الاثنتي عشرة لمباركتها فجئن وفعلن ذلك تباعاً، ولكن سرعان ما تبين أن الداعين نسوا دعوة الجنية الثالثة عشرة، فأتت هذه من تلقائها ولكن ليس لتبارك الأميرة، بل لتقتلها انتقاماً. وهكذا ما إن دنت منها حتى ثقبت قبضتها بسُمّ أماتها. ولكن لحسن الحظ كانت هناك جنية طيبة لم تتفوه بعد بالمباركة، فدنت من الأميرة الصبية لتدعو لها بأنها بدلاً من موت، لم يعد في الإمكان إلغاء كل مفاعيله، بأن تغرق، فقط، في سبات عميق يشاركها فيه أهل البلاد جميعاً ويدوم مئة عام تنتهي بمجيء الأمير الفاتن الذي ستكون يقظتها على يديه، أو بالأحرى بقبلة منه. ونعرف أن الحكاية التي كتبها الأخوان غريم تنتهي هنا، أما نص شارل بيرو فإنه يزيد حكاية الغولة التي تريد أن تفترس ولدي الملكة الجديدة، واسماهما «أورور» و «جور» (أي «فجر» و «نهار»). وفي مطلق الأحوال، من الواضح هنا أن ثمة ذلك التشابه بين جوهر هذه الحكاية، وحكاية برونهيلدي التي لن تستيقظ بدورها إلا بفضل قبلة زيغفريد. وهذا التشابه وتكرُّر وجود الحكاية نفسها في الكثير من أساطير وحكايات شعــوب مختلفة، دفعا الخبراء إلى الاعتقاد بأن كل هذه الحكاية إنما هي نوع من الإسقاط لأسطورة الشمس القديمة جداً، حيث أن «الحسناء النائمة في الغابة» إنما ترمز هي وولداها إلى مسألة تعاقب الفصول.
> والحقيقة أن تشايكوفسكي، خلال اشتغاله على موسقة هذا العمل، لم يفته هذا كله، وهذا ما نلاحظه في شكل فوري ومنذ المقدمة التي وضعها للعمل، لتتلوها ثلاثة فصول تشكل متنه، حيث تتخذ الموسيقى طابعاً كونياً ذا علاقة مباشرة بتقلب الطبيعة والفصول، في تمهيد يحضّر المتفرج للفصول التالية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، يفسر هذا الأصل الكوني للحكاية - والذي يتجاوز قضية تتعلق بكون الحكاية استقرت في النهاية كأدب للصغار -، يفسر تلك الكوزموبوليتية التي تطبع السياق الموسيقي الذي اختاره تشايكوفسكي لعمله. إذ هنا، وإلى الطابع الرومانسي الذي تحدثنا عنه، نجد تأثيرات واضحة في جمل موسيقية ذات ألوان أوروبية عامة، يصعب ربطها بجغرافية محددة، بل كذلك يصعب ربطها - على رغم حداثتها المطلقة - بأية حقبة من الحقب. وكأن تشايكوفسكي أراد هنا أن يؤكد الإنسانية العامة لحكاية رأى باكراً، أنها إنما تنتمي إلى إنسانية الفن في شكل عام.
> حين لحّن تشايكوفكسي «الحسناء النائمة في الغابة» كان في الخمسين من عمره. وهذا الباليه يحمل، بين أعمال هذا الموسيقي الروسي المجدد، الرقم 66، وكان قد أنجز معظم أعماله الكبرى التي جعلت له الشهرة التي نعرف والتي وضعته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مقدم المبدعين الموسيقيين في بلده، وعلى الصعيد الأوروبي بصورة عامة. ومع هذا، على رغم أن ثمة أعمالاً لتشايكوفسكي تعتبر أكثر شهرة من «الحسناء النائمة في الغابة» («بحيرة البجع» و «كسارة البندق»، على سبيل المثال) وأكثر قوة منها («السيمفونية السادسة» والأخيرة، من دون أدنى ريب)، فإن «الحسناء النائمة في الغابة» تبقى العمل الأكثر تعبيراً عن انتقائية تشايكوفسكي في مجال اختيار الموضوع من ناحية وفي مجال التوزيع اللحني من ناحية أخرى، ولكن قبل هذا وذاك، في مجال إضفاء ذلك الطابع الكلي الشامل على نزعة رومانطيقية كان يرى فيها بديلاً عن كل النزعات، وليس فقط - كما كان يرى غيره من الرومانطيقيين -، مرحلة في الانتقال من تيار فني إلى آخر.
> ومن المؤكد أن هذا التصوّر للرومانسية، إذ انتقل لدى بيتير ايليتش تشايكوفسكي (1840 - 1893)، من الحيّز النظري إلى حيّز التطبيق، صار لديه فعل إيمان فني ارتبط كثيراً على أية حال، بتقلبات حياته هو الذي، إذ تأخّر في الابتداء بالتأليف الموسيقي بعد أن أضاع سنين كثيرة من عمره موظفاً في وزارة العدل، عاش حياة عاصفة من علاماتها زواج فاشل، وغرام صعب مع سيدة مجتمع أغدقت عليه من مالها ما مكّنه من التفرغ للتأليف الموسيقي... وكل هذا حقق له ما كان يصبو إليه من نجاح، لكنه لم يحمل أي دعة أو سلام لروحه القلقة وإرادته الوثابة، فكان أن أفرغ ذلك كله في أعمال فنية عبرت دائماً عن توثّب روحه، وعن معاناته، وكأن الرجل ما صنع أياً من موسيقاه إلا كمتنفس مستحيل لكل تلك المعاناة التي استبدت به، والتي تفننت نصوص وأفلام عدة في التعبير عنها، ولكن من دون أن يصل أي من هذه إلى تفسير لهيب روحه بمثل ما تفعل، مثلاً، مقدمة «الحسناء النائمة في الغابة» هذا العمل الذي قدم للمرة الأولى في ليننغراد عام 1890، أي قبل رحيل مبدعه بثلاث سنوات.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد