حلب.. قلب التناقضات الكبرى

13-02-2016

حلب.. قلب التناقضات الكبرى

قد لا تكون مدينة حلب قطعة من الجنة، لكنها في ظل الصراع الدولي المحتدم فيها وعليها هذه الأيام قد تغدو قطعة من الجحيم. الأبواب في ريفها الشمالي مشرّعة على جميع الاحتمالات من التوصل إلى هدنة يحتاج إليها العديد من الأطراف، وصولاً إلى إمكان اشتعال الشرارة التي ستجر المنطقة برمتها إلى معركة كبرى.
وعلى وقع هذه الاحتمالات تتأرجح المدينة، التي كانت ذات يوم العاصمة الاقتصادية لسوريا، بين مصيرين، أن تكون «عاصمة الحسم» أو تكون «عاصمة الحل».
الجميع كانوا حاضرين على طاولة الريف الحلبي منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، الأميركيون والسعوديون والأتراك والأكراد وعشرات الفصائل متباينة التوجهات والولاءات والجنسيات، «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«الجبهة الشامية» وسواها، لكنّ هؤلاء شعروا بصدمة غير مسبوقة وهم يراقبون كيف وصل الجيش السوري، صاحب البيت، وحجز لنفسه مقعد الصدارة على رأس الطاولة في نبل والزهراء، وصولاً إلى مشارف تل رفعت، فجن جنونهم لدرجة أن أقصى ما باتوا يطالبون به اليوم كان متاحاً لهم قبل عام، عندما جاء المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا عارضاً مبادرة «تجميد القتال في حلب» التي وعدت الحكومة السورية حينذاك بالتعاون لضمان نجاحها، لكن المعارضة والفصائل المسلحة رفضاها بشدة، معتبرين أنها مؤامرة لإسقاط «الثورة».
وكان من الطبيعي أن يتردد صدى تقدم الجيش السوري فوق التراب الحلبي في كواليس ميونيخ وبروكسل، وغيرها من عواصم القرار في المنطقة، خاصةً أنقرة والرياض، فالحدث جلل. لأن تداعيات استعادة الجيش السوري لحلب لن تقتصر على سوريا بل ستشمل المنطقة برمتها، وربما ستكون له تداعيات على مستوى العالم أيضاً، بحسب رأي المحلل الروسي فلاديمير لبيخين، الذي أطلق على حلب تسمية «ستالينغراد سوريا». وقال، بحسب ما نقل عنه موقع «روسيا اليوم»، إن «معركة حلب مصيرية وحاسمة، وقد تغير الوضع الجيوسياسي في المنطقة والعالم».
ومشكلة حلب لا تكمن فقط في كثرة المشاريع والأجندات المعدة لها، وإنما أيضاً في الصراعات القائمة بين أصحاب هذه المشاريع والأجندات، وحتى بين أولئك الذين يبدو من حيث الظاهر أنهم يقفون في صف واحد. وما زاد الطين بلّةً أن الجميع باتوا محشورين ضمن مساحة ضيقة نسبياً، مع ارتفاع حرارة المواجهات، وتقارب المسافة بين جبهات القتال المختلفة، وهو ما بات يهدد فعلياً بأن تتحول حلب، من طاولة لتوزيع الحصص والغنائم إلى بركان ذي فوهات متعددة قد ينفجر في أي لحظة.
وعلى الرغم من أن جميع الحاضرين على رقعة ريف حلب الشمالي متفقون في ما بينهم على عداء تنظيم «داعش» ووجوب محاربته والقضاء عليه، وليس هناك حاضر واحد يقول عكس ذلك، غير أن أسلحتهم مصوبة ضد بعضهم البعض.
فالولايات المتحدة التي لا تكف هذه الأيام عن التذمر من القصف الروسي، الذي أتاح للجيش السوري التقدم وحجز مقعده على طاولة الريف الحلبي، لم تكن تبالي من قبل بالمعارك الدائرة بين حليفتها العسكرية «قوات سوريا الديموقراطية» وبين ذات الفصائل التي يقاتل الجيش السوري ضدها في المنطقة، وهي «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «الجبهة الشامية»، ولم تتدخل الولايات المتحدة طوال معارك الكر والفر التي اندلعت، في الأشهر القليلة السابقة، بين الجانبين في بعض قرى إعزاز وعفرين.
أما تركيا المأزومة نتيجة اقتراب الجيش السوري من حدودها، فكانت تراهن على أمرين للحيلولة دون رؤية أسوأ كوابيسها يتحقق على حدودها الجنوبية، وهو «كيان كردي ذاتي». هذان الأمران هما: الأول دعم الفصائل المسلحة الأخرى، حتى لو كان بينها من هو موضوع على قائمة الإرهاب الدولية، ومساعدتها عسكرياً للتصدي لتقدم القوات «الكردية»، والثاني المراهنة على إمكان التنسيق مع الجانب الأميركي للحد من نفوذ الأكراد، أو على الأقل لجعل المناطق بين عفرين وجرابلس مساحة لإدارة مشتركة لا تكون السلطة فيها مقتصرة على أعدائها التاريخيين «الأكراد»، وربما هذا ما يفسر انضمام بعض الفصائل التركمانية، وبعض فصائل العشائر العربية إلى تحالف «قوات سوريا الديموقراطية».
وكان «ثوار الرقة» و «جيش العشائر» قد حاولا الوقوف في وجه الهيمنة الكردية، واعتزلا مؤقتاً المشاركة في «قوات سوريا الديموقراطية»، لكنهما عادا مؤخراً. بل إن «جبهة ثوار الرقة» أعلنت عن مشاركتها في «المجلس السياسي لسوريا الديموقراطية»، ما يعني أن التحالف لم يعد ذا صبغة عسكرية فقط.
والمفارقة أن الجيش السوري بحضوره المفاجئ، لم يقلب المعادلات وموازين القوى رأساً على عقب فحسب، بل كشف أيضاً مغالاة بعض الدول في تضخيم الهواجس التي تقول إنها تقف وراء قراراتها وتصرفاتها. فإذا كانت واشنطن تريد محاربة «داعش» والقضاء عليه فإن الجيش السوري بتقدمه في الريفين الشرقي والشمالي لحلب، بات قادراً على وضع معاقل «داعش» بين فكي كماشة، والعمل على التضييق عليها وتخليص الجميع منها. لكن الواقع هو أن واشنطن لا تريد القضاء على «داعش» إلا إذا ضمنت أن تركته ستكون من نصيبها هي وحلفائها، وهو ما أكده تصريح وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر حول «إرسال قوات برية تقوم بمهمة التدريب لبناء قوات محلية وتأمين المناطق المحررة من داعش».
وليس المهم في هذه المفارقة أنها تكشف عدم جدية بعض الدول في محاربة «داعش»، فالأهم أنها تسلط الضوء على حقيقة جوهرية تتبلور أكثر فأكثر مع الوقت، وهي أن قتال «داعش» لم يعد، وربما لم يكن يوماً، هدفاً بذاته، بل تحول إلى مجرد ذريعة لتمرير أجندات إقليمية ودولية متفاوتة العناوين والأهداف.
وإدراكاً منه على ما يبدو لهذه الحقيقة، وقف «داعش» حتى الآن موقف المتفرج على تطورات ريف حلب الشمالي، متّكئاً على الأمل الوحيد الذي يراوده، وهو المراهنة على الفيتو الأميركي ـ التركي ضد تقدم الجيش السوري في المنطقة، لذلك عمد إلى ضبط النفس من جهة، ولم يشارك في المعارك التي كانت تجري على تماس مع مناطق سيطرته في تل سوسيان وتل قراح وغيرها، لإدراكه أن أطرافاً أخرى ستسارع قبله إلى قرع ناقوس الخطر. كما عمد إلى عرض مشروع هدنة على الفصائل الأخرى التي باتت تقاتل على جبهتين، جبهة الجيش السوري وجبهة «سوريا الديموقراطية»، متوخياً من ذلك التلاعب بالمخاوف التركية، عبر طرح نفسه كقوة قادرة على وقف تقدم الجيش السوري والأكراد في المنطقة، لاسيما أن تركيا قدمت له خدمة كبيرة، وإن بطريقة غير مباشرة، عندما رفعت الكرت الأحمر بوجه تقدم «الوحدات الكردية» غرب نهر الفرات، ورضخت الولايات المتحدة لمفاعيل هذا الكرت فأوقفت عمليات حلفائها هناك.

عبد الله سليمان علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...