المثقف السوري: دون كيشوت الدراما التلفزيونية
المثقف في الدراما التلفزيونية متعدّد الوجوه. هناك حسني البرظان الذي يمثل الصورة الهزلية للمثقف، المدّعي الذي يعيش تحت مقالب غوار الشعبي وهناك أيضاً المثقف الثوري الذي خاب أمله في الثورة. أما المثقفات فلهن أحياناً صورة مشرقة عثر عليها المؤلفون في التاريخ السوري
هذا الموسم وكل موسم درامي تجود مسلسلات التلفزيون على جمهورها بشخصياتٍ عديدة، قدّمت صوراً متنوعة عن المثقف السوري؛ منها ما بات يُصرّ على تنحيته من الواجهة الاجتماعية عبر كاركترات أقرب إلى «دون كيشوت» يحارب طواحين السلطة والاغتراب والعجز وسخرية الآخرين؛ ومنها مَن عزّز حضوره الفاعل في قلب المجتمعات الحديثة؛ مدينةً انتهازية البعض وتعاليهم على أبناء قومهم؛ أو مصوّرةً إياهم في دور الضحية؛ وفي هذه وتلك لماذا حرصت الدراما التلفزيونية السورية على تقديم صور نمطية ـ في أغلبها ـ عن شخصية هذا المثقف؛ وهل هي انعكاس واقعي عن حال المثقفين والثقافة؟
سؤال يبدو جلياً في رغبة الدراما على الخوض في تنوير مجتمعاتها؛ والإضاءة على شريحة قد تكون حتى الآن مظلومة على شاشات العرض؛ من هنا شاهدنا في الموسم الماضي نماذج عديدة للمثقف السوري؛ حيث أتت شخصية « الدكتور نورس ـ حاتم علي» في مسلسل «العرّاب ـ نادي الشرق» الروائي؛ والكاتب الصحافي في جريدة «تشرين» السورية، وكيف يتعرّض لبطش السلطة وعسفها؛ صورة عن مثقف يعيش على هامش مدينة دمشق؛ لا حول له ولا قوة حين يوضع خلف القضبان؛ على خلفية لجوء ابنة أحد المتنفذين إلى بيته ومن ثم هروبها منه.
صورة كانت الدراما السورية قد تناولتها منذ بداياتها؛ فمن ينسى جملة الصحافي «حسني البورظان» الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في البرازيل يجب أن نعرف ماذا في إيطاليا»، إذ قدّم الراحل نهاد قلعي كتابةً وتمثيلاً شخصية المثقف في صورة مهّدت للعديد من الصور الهزلية لشخصية تعيش وتحب في فندق، من دون أن تتمكن من إتمام العبارة الأولى من مقالتها؛ بل هي أغرب شخصية يمكن أن تتصدّى لحجم هائل من المقالب التي كان يشربها «البورظان» من «غوار» صبي أوتيل «صح النوم» الشهير من دون أن يرف له جفن.
صورة لن تكون بعيدة في الكوميديا عنها في التراجيديا؛ لكنها في شخصية «وائل ـ بسام كوسا» في مسلسل «الانتظار» لمؤلفيه حسن سامي اليوسف ونجيب نصير؛ تتبع كاميرا الليث حجو في هذا العمل محنة مثقف عضوي مندمج مع محيطه؛ ومنفعل مع مشاكل بسطاء الحي العشوائي؛ الصحافي الذي يفقد شمل عائلته بعد معارضة زوجته العيش معه في العشوائيات الدمشقية.
بالمقابل شاهدنا في الموسم الدامي الماضي شخصية «محمود ـ عبد المنعم عمايري» الشاعر والروائي المعارض للنظام؛ والذي يعيش حالة من الضياع والهزيمة بعد هروبه إلى بيروت؛ وتخلّي زوجته عنه بعد إضاعته مخطوط راويته في سيارة أجرة؛ لتنتهي حياته بالانتحار مطلقاً النار على رأسه.
صورة «العاشق السيئ الحظّ» هذه ليس غريبة عن الصورة التي شاهدناها مراراً للمثقف السوري والتي كان «عمايري» نفسه قد لعبها عبر شخصية «وائل السالم» في مسلسل «ظل امرأة ـ نص خالد خليفة ـ إخراج نذير عواد» فالشاعر الذي يُصاب بالعمى بعد تعرّضه لحادث سير، تتخلى عنه زوجته؛ وينفض عنه جمهوره؛ ليهيم في حارات دمشق وحلب مع عميان الأزقة الشعبية.
صورة قاتمة وتشاؤمية عكسها العديد من الأعمال؛ لاسيما في عرضها لعلاقة المثقف بالسلطة؛ حيث قدّم الفنان أيمن رضا في الموسم الماضي أيضاً شخصية «صبحي ياسين» عازف العود والمغني اليساري في مسلسل «عناية مشددة ـ نص علي وجيه ويامن الحجلي ـ إخراج أحمد إبراهيم أحمد»؛ فالمطرب الثوري الذي رست به الأحوال للغناء في مطعم؛ ستنتهي قصة حبّه لدمشق وأغنيات الشيخ إمام باختطافه من قبل عصابات الحرب؛ على خلفية مجابهته لقوى الفساد وأرباب السلطة.
مواجهة كان قدّمها الفنان غسان مسعود بأدائه لشخصية «وحيد الجلالي» في مسلسل «سيرة آل الجلالي ـ سيناريو خالد خليفة وإخراج هيثم حقي»، فالمخرج المسرحي رفض خيارات المؤسسة وبيروقراطية المكاتب بالتحكم بصالات العرض المسرحي؛ فيقرر كنس شذاذ الآفاق ودعاة الفن من على خشبة المسرح؛ في مشهد حرّضت هذه الشخصية على الفعل وعدم الانصياع لدور الضحية الثقافية.
دونكيشوت
على عكس ذلك حافظت بعض الأعمال على الصورة الساخرة والضاحكة من المثقف كدونكيشوت؛ حيث قدّم مسلسل «حارة المشرقة ـ نص أيمن الدقر ـ إخراج ناجي طعمة» شخصيتين هزليتين في هذا السياق تجلتا في شخصية «أبو فريد ـ بشار إسماعيل» الرسام الانطوائي غريب الأطوار؛ والفنان الموهوم الذي يطبق نظرياته التشكيلية حتى على أفراد عائلته؛ فارضاً طقوساً عجائبية لممارسة فنه، إضافةً لذلك قدّم «حارة المشرقة» أيضاً شخصية «منتصر ـ محمد خير الجراح» الصحافي والشاعر الانتهازي التي شاهدها الجمهور غير مرة في العديد من الأعمال؛ لعل أبرزها كانت شخصية «برهوم ـ أندريه سكاف» في مسلسل «الفصول الأربعة» الشاعر المتبطِّل الذي يعيش على موائد الآخرين، بمن فيهم عديله «مالك الجوربار ـ سليم صبري»، حيث ينزله هذا الأخير في فندق ويدفع له النقود مقابل كتابة «برهوم» لإعلان تجاري عن جوارب ينتجها معمله!
صورة ليست أفضل حالاً من شخصية «أبو النواس ـ سامر المصري» في مسلسل «مشاريع صغيرة» الشاعر الهزلي ومؤلف أغاني الأعراس الذي يفرض على إدارة تحرير الجريدة أن تنشر له نصوصاً بائسة؛ لينتهي به الحال إلى طلاق زوجته وتشرّد أبنائه واشتغاله في بيع قطع الألمنيوم الكاسدة؛ نموذج كان قد قدّمه الفنان الراحل نضال سيجري في المسلسل الكوميدي «قانون ولكن»، عبر شخصية الشاعر الذي يؤلف دواوين شعرية لصديقته؛ مقابل تقاضي مبالغ مالية؛ ليكتشف المشاهد أنه يقوم بسرقة ما يكتبه لصديقته من دواوين شعرية قديمة!
مثقفات
بالمقابل لم تغِبْ هنا النماذج النسائية للمرأة المثقفة؛ حيث قدّم المخرج باسل الخطيب في الموسم الماضي عبر مسلسله «حرائر ـ نص عنود الخالد» شخصية «ماري عجمي ـ حلا رجب» الكاتبة وصاحبة أول نادي نسائي في العالم العربي؛ منتصراً لمشروع «مجلة العروس» التي أدارتها «عجمي» بداية القرن العشرين؛ مساهمةً في نهضة البلاد، وفاضحةً جرائم جمال باشا السفاح الذي أعدم حبيبها «بيترو باولي ـ يزن خليل» بعد محاكمات صورية لمناضلي النهضة العربية.
شخصية «عجمي» لم تكن الوحيدة عن نساء سوريات مثقفات في هذا العمل، بل شاهدنا شخصية المناضلة الدمشقية «نازك العابد ـ لمى الحكيم» وشخصية «ماريان ماراش ـ أميرة حجو» الكاتبة والحقوقية الحلبية.
نماذج كانت الدراما التلفزيونية قد احتفت بها في الواقع والمتخيَّل؛ لاسيما في شخصية «عنايت ـ صباح بركات» في مسلسل «حمّام القيشاني» لمخرجه الراحل هاني الروماني؛ حيث تخلع «عنايت» ملاءتها السوداء لتلتحق بصفوف الحزب الشيوعي؛ نافضةً عنها سنوات من الظلام والمكوث في الحرملك العثماني.
بالمقابل قدّمت الفنانة سلاف فواخرجي شخصية «سماهر» في مسلسل «الولادة من الخاصرة» الروائية التي تواجه ضابط الأمن «المقدّم رؤوف ـ عابد فهد» مصرةً على نشر روايتها السياسية بعد تنكيل «رؤوف» بها وبوالدتها ووقوف الرقابة والمجتمع ضدها. شخصيات عديدة تصدّت لإبراز المرأة المثقفة في المجتمع السوري؛ لم تغب عنها صورة مدّعيات الثقافة، حيث قدّم مسلسل «نساء من هذا الزمن» لكاتبته بثينة عوض نموذجاً مغايراً في هذا السياق عبر شخصية «شغف ـ ميرنا شلفون» الفتاة اللعوب التي تستغل علاقتها بـ «سامي ـ رامز أسود» الروائي الذي يضرب زوجته ويمارس عليها ساديته؛ بينما يفتح الأبواب واسعة لعشيقته كي تقتحم عالم الرواية العربية.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد