دعوة المثقفين إلى الاعتراف بمسؤولياتهم تجاه الإنسانية والحقيقة
الجمل ـ سعيد زكريا: "الرأسمالية كما وصفها ماركس، لم توجد على الإطلاق، وإنما هي محض اختلاق، نوع من الخيال الشيطاني، أو الرواية الشيطانية. صحيح كان هنالك أغنياء وفقراء، وان الفقراء يعانون دائماً، وان الأخلاق تقتضي أن نساعدهم، ونساعد المعوزين...".
هذا طرف من آراء فيلسوف القرن كارل بوبر في الحوار الذي أداره معه جيانكارلو بوزيتي في منزله بمقاطعة سارِّىّ القريبة من لندن.
يحتوي كتاب "خلاصة القرن" على مجموعة من النصوص عبارة عن حوارات ومقالات تعد خلاصة للقرن الماضي وأيضاً خلاصة لفكر كارل بوبر وتجربته حول القرن العشرين، فلقد عاش بوبر 92 عاماً (1902ـ 1994)، أمضاها فيلسوفاً مراقباً لأهم الأحداث الكبرى، وعمل على إيجاد صيغة فكرية لتطلعات البشر نحو عالم أفضل. فقد شهد النصف الأول من القرن الماضي حربين عالميتين وانهيار الإمبراطوريات القديمة ونهوض روسيا السوفياتية، بينما حمل النصف الثاني المتغيرات الأكثر حسماً لنهاية الاستعمار وظهور أمم جديدة على مسرح التاريخ وسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في ظرف وزمن قياسيين، لم تشهد البشرية مثيلاً لهما من قبل بهذه السرعة، وما تبعها من تحولات اقتصادية واجتماعية. بالإضافة على التطورات المذهلة في الصناعة والتكنولوجيا والعلم والمعرفة ووسائل الاتصالات.
كان بوبر في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه 1945) خصماً كبيراً للماركسية والشيوعية، ولجميع الذين يزعمون تأييد مشروع سياسي على أساس معرفة قوانين الصيرورة التاريخية. وجاءت أحداث 1989/1991 لتثبت صحة انتقاداته الجذرية للماركسية. يصم بوبر الناقد العنيد والمواظب للتاريخانية بأنها خاطئة بالكامل، ويشرح فكرته حولها بأسلوب واضح: ينظر التاريخاني إلى التاريخ على أنه مثل النهر، وبما أنه يزعم بأنه يعرف منبعه ومصبه، يعتقد أنه يستطيع توقع مجرى الماء، بل ويعتقد أنه أكثر ذكاء، بحيث يرى الماء ويتصور أو يتخيل أن بإمكانه التكهن بالمستقبل مادام يعرف مجراه وأين سيصب. وبتطبيق هذا المثال على الواقع، نستطيع إدراك لماذا كانت هذه الفكرة سبب عدد كبير من الجرائم، لمجرد أننا نعتقد أن لدينا القدرة على التنبؤ بحركة التاريخ. يحدد بوبر: إن الوقت الحاضر هو الوقت الذي ينتهي فيه التاريخ، ونحن لسنا قادرين على رؤية المستقبل.
وهذا ما يحدث أيضاً بالنسبة للفن، يطمح الفنانون إلى أن يصبح الواحد منهم الأول في المستقبل، فيقتبسون من التاريخانيين تنبؤاتهم المستقبلية، ويقلدونهم بتكهن اتجاه المجرى، لكي يكونوا سابقين لزمانهم، ويهتمون بأنفسهم أكثر من اهتمامهم بنوعية عملهم. وينتجون أعمالاً تنتمي لما يعتقدون أنه صالح للمستقبل. كيف؟! لا أحد يعرف المستقبل. كان من الأفضل أن ينتجوا أعمالاً قيمة في الوقت الحاضر، بدلاً من السعي وراء الفلاسفة والمتنبئين السيئين.
رفض التاريخانية يعني أن يصبح المستقبل مفتوحاً، وهي فكرة المجتمع المفتوح على احتمالات عديدة . طبعاً، نحن نتعلم من الماضي، لكن لا شيء يسمح لنا بإسقاطه على المستقبل والتنبؤ بما سيحدث. عن الزعم بمعرفة مسار المستقبل ينزع المسؤولية الأخلاقية عن الحاضر، ويحول الناس إلى منفذين لمصير بدعوى أنه سيتحقق. كذلك الجري وراء فكرة "معنى التاريخ" فهي بلاهة خطيرة، لا حاجة للمعنى، يمكن أن يروق لنا غنى التاريخ بالأحداث والأشخاص الذين يستحقون الإعجاب، وقد يعلمنا ما ينبغي أن نخاف منه. أما إضفاء معنى عليه، فهذا يزجنا في اتجاهات تقودنا إلى مآلات سيئة.
المشكلة أن الكثيرين من الناس متأثرون بالماركسية، لكنه مع سقوطها فإن الأمل بتجسيد وتحقيق الاشتراكية قد انتهى وضاع، غلا أنه بقيت فكرة تم تعليمها وتحفيظها وتلقينها في المدارس، وهي أن الناس جميعاً يرغبون في الحصول على المال والذهب...الخ، وأن الناس جميعا أنانيون ويريدون أن يصبحوا اغنياء، وبحسب التاويل الماركسي للتاريخ فإن غاية كل فرد هو ربح المال، والحصول على مواد جيدة وأشياء جديدة، وعلى أسلحة وسلطة. هذه النظرة للتاريخ المجردة من كل أمل، لا تترك لنا إلا أنانية قاطنة في تصور الأشياء الإنسانية، وأيضاً فكرة أن العالم كان هكذا وسيبقى هكذا.
النموذج السياسي الجيد هو بالأساس النموذج الديمقراطي، وكما قال تشرشل مرة في جملة أصبحت مشهورة: "الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء الأشكال الأخرى التي هي أسوأ منها". الديمقراطية في ذاتها، لاشيء مفيد فيها، كل ما هو مفيد يأتي من جهات أخرى، لا من الديمقراطية. إنها ليست أكثر من وسيلة لتجنب الطغيان، لا أكثر ولا أقل. بالطبع الديمقراطية تعني أن الجميع متساوون أمام القانون، وأن أحداً لا يجرم أو يُدان مالن تثبت عليه الأدلة..هذه المبادئ الأساسية جزء من دولة القانون، ولكن لا وجود في الديمقراطية لمبدأ يجعل للأغلبية الحق؛ لأن الأغلبية قد ترتكب أخطاء فادحة، كأن تنصب طاغية، كما يحدث دائماً. في النمسا تم اختيار هتلر بنسبة أربعة وتسعين بالمائة من الناخبين.
إن الديموقراطية لا تهدف إلى الهيمنة الثقافية، وإنما تهدف إلى إقامة الحرية الثقافية، ومن أجل خلق هذه الوضعية ينبغي تثقيف الناس. يجب أن نعي أن التلفزة قتلت عدداً من الآمال في مجال الثقافة. صحيح أننا نعيش في عالم أفضل مما كان في بدايات القرن، لم يكن لدى البشر خيارات أو آمال، كانت ساعات الراحة زهيدة جداً، عدة ساعات كل أسبوع فقط. لكن اليوم عالمنا مهدد بنمط من التربية الجنوني، ينبغي أن نضع نظاماً تربوياً مسؤولاً، بحيث تأمل بأن نعود إلى تلك الأيام عندما كان العنف استثناء وليس كما نلاحظ حالياً بأن العنف أصبح جزءاً من المشهد اليومي محط الاهتمام الوحيد.
يستند بوبر إلى فكرة دولة القانون كضامنة لحرية الأفراد ضد العنف أو ضد سلطة الدولة، كنتيجة لمسار حضاري مؤسس على كره عام تجاه العنف، واتفاق أيضاً على تجنبه. دولة القانون هي أولوية مطلقة.
الثقافة مسؤولية، لكن المثقفين غير المسؤولين لم يستطيعوا أن يروا إلا الشر في عالمنا الغربي، لذا اسسوا ديانة جديدة تُعلم أن العالم ظالم، وأنه محكوم بالخسارة ،وآيل إلى الضياع. بدأوا هذا بكتاب شبنجلر "انحطاط الغرب" لمجرد أنهم يريدون أن تكون لهم صفة الجدية والابداع، وقول اشياء مخالفة ومعارضة، او مناقضة ومضادة للبديهيات. ولقد نجحوا في التعتيم ليس عليها فقط، بل وعلى الحقيقة الموضوعية.
لا يرغب بوبر في محاكمة المثقفين، وإنما يريد أن يدعوهم إلى الاعتراف بمسؤولياتهم تجاه الانسانية والحقيقة، فإذا كانت حريتهم تسمح لهم بقول أي شيء، وحتى بقذف العالم الحر بشتى التهم وتصويره على أنه عالم فاسد وقبيح، فهذا من حقهم، لكن هذه ليست الحقيقة، بث الأكاذيب أمر لا أخلاقي حتى عندما يكون لنا الحق في ذلك. ينبغي الاعتراف بأنه حتى الروس اعترفوا بالعالم الحر، بل وبات الاعتقاد بعالم مسالم ليس مستحيلاً ولا يوتوبياً ولا خيالياً، ومن الواجب تجنيد الطاقات لتحقيق عالم نرضى عنه.
"خلاصة القرن" ليس كتاباً مهماً فحسب، بل وممتع أيضاً، ربما لأنه ينفي الكثير من الآراء الدارجة بين المثقفين، ويدحضها ببساطة وعمق.
الكتاب: خلاصة القرن.
تأليف: كارل بوبر.
ترجمة: الزواوي بغورة/ لخضر مذبوح.
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة.
المشروع القومي للترجمة.
الجمل
إضافة تعليق جديد