فرق اندثرت وأخرى تبدأ في سوريا
هجرة كبيرة شهدتها سوريا لفرق «الموسيقى الجديدة» التي عرفت فورتها في تنوّع اتجاهاتها؛ واختلاف تيارات ملحنيها، والشكل أو القالب الموسيقي الذي عملت عليه كل من هذه الفرق؛ فمنذ العام 1998 كان العديد من المجموعات الموسيقية لشباب وشابات قد درسوا كل أنماط الغناء والعزف على آلات شرقية وغربية في المعهد العالي للموسيقى بدمشق؛ لتظهر فرقة «كلنا سوا» كأولى هذه التجمعات وأكثرها حضوراً؛ وكموسيقى اشتغل أصحابها على فولكلور البلاد؛ من حيث بناء قوالبه اللحنية، واستعاراتها لأنماط الروك والجاز والبوب، والفنك؛ وسواها من الاتجاهات الموسيقية الغربية.
«نوطة، توكسيدو؛ شام إم سيز؛ زودياك؛ إطار شمع، جين، فتت لعبت، أنس أند فريندز، ماظوط، حرارة عالية، مرمر، طويس، حوار».. أسماء لفرق سورية تشتّت شملها اليوم في ظل حرب دخلت عامها الخامس؛ تاركةً ذكريات تلك الأيام التي كانت تغصّ بها حدائق دمشق وساحاتها العامة بحفلات ما عُرِف وقتها بـ «موسيقى على الطريق» التظاهرة الأضخم التي كانت ترعاها محافظة دمشق.
من حديقة «القشلة» بباب توما، وصولاً إلى ساحة «المسكية» قبالة الجامع الأموي الكبير، ومسرح قلعة دمشق؛ وصولاً إلى حديقة «النعناع» في قلب العاصمة السورية، كان برنامج هذه الفرق يزدهر عاماً بعد عام؛ عاكساً رخاءً ثقافياً وفنياً واجتماعياً؛ وصعوداً مطّرداً لنخب موسيقية شابة، أرادت التعبير عن نفسها؛ وبكل حرية؛ ليشتهر عبر هذا الحضور الكثيف العديد من الأصوات من مثل الثنائي «لينا شاماميان، وباسل رجوب» اللذان أصدرا مبكراً ألبومات مشتركة كان أولها «خمير» و «شآميات» وسواها من الأسطوانات التي راجت بين أوساط الشباب؛ محققةً حضوراً لموسيقى دمجت بين فولكلور المنطقة من أغانٍ ومقطوعات أرمنية وسورية بتوزيع جديد أفاد من قالب الجاز التجريبي؛ أو ما يُسمى «الجاز أورينتال».
فرق
وقتها تقدمت أيضاً إلى الواجهة فرقة «نوتة» التي تكونت من عروة صالح ـ عود، مصعب تركماني - نزار عمران ترومبيت، باسل رجوب ـ ساكسفون؛ يزن هزيم درامز وعلى الغيتار قصي الدقر الذي يروي عن هذه الفرقة وغيرها من فرق الموسيقى الجديدة في بلاده، فيقول للسفير: «ليست (نوتة) هي الفرقة الوحيدة التي قمنا بتشكيلها، فهناك فرقة (فتت لعبت) التي عزفتُ معها برفقة مؤسسها هانيبال سعد؛ حيث كانت مشروعاً غير ربحياً، وقتها لم نصدر ألبوماً».
هجرة الأساتذة
كنّا نعزف من دون مقابل مادي؛ فقط كان مجرد تأمين عدّة صوت ومسرح كافياً لأن نذهب ونعزف في أبعد قرية سورية؛ فـ (فتت لعبت) ـ يتابع الدقر ـ كانت تعمل على شخصية الموسيقى الفلكلورية مع تماسك للموسيقى الغربية عبر إيقاعات فردية واضحة، أستطيع القول إنها كانت بمثابة الحالة التقدّمية من الموسيقى الفلكلورية ولكن بشكل ثيمة ميلودي جديدة».
اليوم تشتت شمل فرقتنا مثلما تشتت شمل الكثير من الفرق الأخرى ـ يقول الدقر ويتابع: فرقة (مازوط) التي أسسها رشوان ظاظا مع داني شكري سافر معظم أفرادها، وفرقة (توكسيدو) التي عملت على نمط (الفنك) موسيقى الخمسينيات أيضاً لقيت المصير نفسه؛ حيث كانت أول تجمّع لرباعي نفخي على كل من آلات الترومبون والترومبيت والساكسفون؛ ورافقتهم على الغيتار أيضاً؛ فيما غنّت معنا نور عرقسوسي».
مغنّيات ومغنّون سوريون رافقوا هذه الفرق ولمع نجمهم معها، لكن اليوم لينا شماميان تغني في تركيا، ولبانة قنطار في أميركا؛ ورشا رزق وأنس أبو قوس ووعد بو حسون وشادي علي في الخارج أيضاً؛ كما توقّفت مع الحرب فعاليات مهرجان الجاز الذي كان يُقام كل صيف على مسرح قلعة دمشق؛ إضافةً لتوقف العديد من الفعاليات التي كانت تحتفي بالموسيقى وجمهورها، لاسيما يوم الموسيقى العالمي الذي كان حدثاً ثقافياً استثنائياً للفرق الجديدة.
هجرة كثيفة ومتوالية حتى لطلاب المعهد العالي للموسيقى؛ تجاوز عددهم مؤخراً الثلاثين طالباً وطالبة، منهم ثمانية في معهد (فاينر) بألمانيا كما يُخبرنا مدرّس رفض ذكر اسمه؛ فالأكاديمية الأشهر في سورية والتي تأسّست بعد صدور المرسوم التشريعي رقم (28) لعام 1990؛ وهو مرسوم أعطى فكرة جيّدة عن اهتمام الدولة بالفن الموسيقي، حيث جاء في نصّ مادته الثانية «تعليم أصول الغناء الفردي والجماعي، العربي والعالمي وإعداد باحثين موسيقيين وخاصة في الموسيقا العربية».
الهجرة لم تتوقف على العازفين والمغنين والطلاب، بل تجاوزتها لتشمل أهم الأساتذة هناك، وأبرزهم الروسي فيكتور بابينكو الذي وافاه الأجل منذ ستة أشهر بعد سفره من دمشق؛ وعسكر علي أكبر أستاذ العود الأذربيجاني، ولبانة قنطار مديرة قسم الغناء الشرقي التي تقيم اليوم في أميركا، وأراكس شيكيجيان مدرسة أصول الغناء الأوبرالي؛ مما ترك أثره واضحاً على الحركة الموسيقية الجديدة التي عرفت أول بزوغها على المسارح السورية بتيار «الموسيقى البديلة».
بالمقابل هناك فِرق لا زالت تُصرُّ على حضورها في عز زمن الدم والعبث؛ فالموسيقى والحرب متناقضان لا يمكن أن يعيش الأول في ظل الآخر؛ ومَن يستطيع خلق موسيقى لا يقدر أن يكون شريراً. الموسيقى هي تجسيد للغة الحب – يقول الفنان سيمون مريش مؤسس فرقة «زركشة» التي آثرت تقديم حفلاتها اليوم داخل البلاد. ويضيف: «المتابع اليوم لحفلات دار الأوبرا يعلم أننا باقون؛ أجل لقد هاجر الكثير من الموسيقيين السوريين ولأسباب متعددة؛ ربما بحثاً عن لقمة عيش؛ أو مكان مناسب لإطلاق مشروع فني؛ أو هرباً من الحرب واللا استقرار؛ وفي حالات أخرى لمتابعة دراساتهم».
تستمر قائمة الأسباب ـ يعقب الفنان مريش، ويضيف: «لا شك في أن العمل في حقل الموسيقى في الظرف الذي نعيشه اليوم صعب جداً؛ إن لم يكن مستحيلاً بالنسبة للبعض. لكنني أعتبر نفسي محظوظاً؛ لكوني ما زلت أعمل في الموسيقى حتى في هذا الظرف الصعب. دوماً نقول إن الحياة والأرض التي نعيش عليها أعطتنا الكثير والآن حان الوقت لنردَّ الجميل ونصنع الفرق».
الفنان رعد خلف ما زال يعمل أيضاً على مشروعه «أوركسترا ماري» والتي قدّم سيمون مريش معها مؤخراً حفلين موسيقيين بدار الأوبرا؛ وهو عمل جدير بالمتابعة لكون البرنامج المقبل سيكون من تحقيق مجموعة من المؤلفات الموسيقية التي استوحاها رعد من الحضارات القديمة مثل حضارة أوغاريت وإيبلا وماري، ولكن مكتوبة بقالب جديد.
Coma هو اسم الفرقة التي أسّسها كلٌّ من قصي الدقر وناريك عبجيان، برفقة المغني ليفون عبجيان؛ والتي استمدّت اسمها من ترجمتها الحرفية إلى العربية «الغيبوبة» لكنها أيضاً كما يُخبرنا قصي الدقر مدرّس قسم الصوت والتقنيات في المعهد العالي للفنون المسرحية: Coma ليست فقط غيبوبة؛ بل هي التسمية الحرفية لربع الصوت، أو ربع البعد الذي نشتغل عليه؛ سواء كان هذا الربع بعداً أرمنيا أو بيزنطيا أو سريانيا أو تركيا أو مصريا».
لفرقة «الغيبوبة» هذه إنجاز لافت على صعيد التعويض في النقص الفادح بعدد العازفين معها، وندرة الحصول على عازفين اليوم في سورية لديهم الخبرة الكافية - يحدثنا الدقر شارحاً عن طبيعة عمل فرقته وتغلبها على هذه الصعاب: «صحيح الحرب أوقفت كل مشاريعنا، طلابي يقولون لي إنهم لم يحضروا حفلاً موسيقياً واحداً منذ دخولهم إلى المعهد؛ لكننا استطعنا في «كوما» أن نعوّض عن ذلك، وذلك عبر لجوئنا إلى نظام برمجي إلكتروني نتعامل معه بشكل تفاعلي حسب الحالة التفاعلية للجمهور؛ فهذا النظام عوّضنا عن أربعين دوراً لعازف أو عازفة، متجهين بذلك نحو آلة الغيتار بدون خانات ربع الصوت الشرقي، وبصحبة الفنان ناريك عبجيان على آلة الدودوك الأرمنية، وصوت شقيقه عازف القانون أيضاً الفنان ليفون عبجيان».
هذا الاشتغال قادنا إلى العمل على رباعيات الخيام ـ يتابع الدقر، ويضيف: «عملنا أقرب إلى التصويري منه إلى الموسيقي التقليدي، حيث نعتمد على إدخال المستمع أو من يحضر حفلاتنا في عالم من التأمل الخالص، من دون أن يكون هناك في عملنا صدمة تجعل هذا الجمهور يستيقظ من حالة التكرار التي نعمل عليها ونطوّرها طوال فترة الأداء؛ مقتربين من أسلوب الحضرة الصوفية، والتطريب وحلقات الذكر، جنباً إلى جنب مع عرض بصري لأعمال (الفيديو آرت) التي ترافق أداءنا نحن الثلاثة على شاشات عرض حية؛ بينما نغيب على المسرح كحضور؛ أسلوبنا أقرب إلى مدرسة (سايكا ديليك) إنه يا صديقي السَّفر عبر الموسيقى، أو قل الطيران من دون توقف».
سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد