«جنيف 3» مؤجل وقرار المعارضة بيد الخليجيين والطباخون «يبشّرون» بلبننة سوريا

15-05-2015

«جنيف 3» مؤجل وقرار المعارضة بيد الخليجيين والطباخون «يبشّرون» بلبننة سوريا

لا أمل للسوريين ومن تهدده نيران حربهم بحل قريب. حراك الساحة الديبلوماسية يكرّس وضع خساراتهم الفادحة قرباناً في لعبة المساومة الإقليمية والدولية.
في المستوى الأعلى، صار رعاة الحل المعلّق متفقين على وضعه في عهدة «المدى الطويل». لا مانع ما دام لا أحد منهما يدفع ثمن جحيم الحرب من كيسه. صارت موسكو وواشنطن تعلنان، لكل من يهمه الأمر، أن مصير حكام دمشق لن يكون فاتحة الحل، ولا عقدة وسطه، بل في مجهول خواتيمه.
هذا التوافق يصعّب مهمة الجميع في البحث عن مضمون يمكن وضعه في «جنيف 3»، لا يكرر مسرحية فشل سالفه بحذافيرها. ألعاب السحر السياسية، المناورات والتجاذبات، ستستمر لإرسال الأطراف المحلية إلى طاولة مفاوضات أقل عقماً. الذي يرى الشجرة يعتبر أن عقدة الحل تدور حول ما يعنيه اتفاق «جنيف 1» بالضبط، ولكن من يرى الغابة يقول إن المشيئة الدولية يمكنها وضع أي صيغة في وعاء «جنيف» حين يحين قدرها.
يصير لبنان هنا مضرب المثل. أهله الذين يشكون من مصيبة قدر المحاصصة الطائفية، الذي ألبستهم إياه المشيئة الدولية، يسمعون من يمتدحه ويتمناه خاتمة تنهي حرب جارته الكبيرة. هكذا تصير صورة «المدى الطويل» أقل ضبابية، مع شهية مفتوحة لعداد سنين القتال والمساومة.
ولأن المضي في الحل السوري أسير الصراع الإقليمي، يبشر الخليج بأنه لا يرى بصيص «جنيف 3» في أفق الصراع مع إيران. أهل ممالكه يذكّرون من ينسى بأنه لا يمكن تجاوزهم، ما دام الحل يحتاج إلى تمويل هائل بمئات مليارات الدولارات. وفي انتظار أن يقبضوا الثمن السياسي من تنازلات إيران، ليسوا مستعدين للتصويب على غير رأس الحكم في الشام.
هذا الاستعصاء المركب يعطي فائضاً من الوقت الضائع، تحاول الأمم المتحدة ملأه بوساطة تحتاج إلى تحريك عجلات دراجتها كي لا تسقط في فشل ثالث. فائض الوقت الضائع يعطي معسكر العداء لدمشق فرصة جديدة لجمع أوراقهم، فهم سيحاولون في الرياض إعادة إنتاج ماركة جديدة لتكتل معارض ليكون عملة سياسية تصرّف مكاسب «جيش الفتح».
تتحدث قيادات خليجية، بوضوح شديد، عن أن إخراج حكام دمشق اليوم من معادلة حكم «سوريا المستقبل» لا يزال جوهر أي حل سياسي ممكن. تقول قيادة أمنية خليجية  إن كل برامج المساعدات التي قبلوا تقديمها، الآن ومستقبلاً، تمت هندستها على أساس أن هناك مخططاً وحيداً للبناء: «كل مطالبنا تدعو إلى جنيف واحد، ولن يخرج أحد عن قاعدة جنيف واحد».
تكاليف الحل السياسي لا تشمل فقط تمويل الإغاثة للاجئين والمتضررين، برغم كونها تتطلب مليارات الدولارات تعقد لها مؤتمرات المانحين ولا تتوقف الأمم المتحدة عن الشكوى من عدم كفايتها. تمويل الحل يعني أيضاً حسابات خيالية تتعلق بالنهوض بسوريا من دمار الحرب. المؤسسات المالية الدولية تتحدث عن مئات مليارات الدولارات اللازمة لإعادة الإعمار وترميم الاقتصاد المتهاوي.
هذه التكاليف «الهائلة» ستكون عاملاً حاسماً بمثابة تمويل «الحل السياسي». لذلك تعرف دول الخليج أن ميزانية هذا الحل ستكون عاجزة، بالمعنى الحرفي والمجازي، من دون انخراطها المباشر فيه، صياغة وتطبيقا، خصوصاً بعدما وضعت تحت جناح تمويلها جلّ الفصائل العسكرية المؤثرة.
في هذا السياق، تقول القيادة الأمنية الخليجية إن كل محاولات دمشق وحلفائها هدفها الالتفاف على «جنيف واحد»، أو فكفكته بما يضيع جوهره، وستكون «محكومة بالفشل». تشدد على هذه النقطة، قبل أن تعلق «دعهم يعقدون (موسكو واحد) و(موسكو 2) و(موسكو 10)... دعهم يفعلون كل ما يشاؤون»، قبل أن تشدد على أن مطالب دول الخليج «كلها موجودة في جنيف واحد، وكل برامج المساعدات وافقنا عليها بناءً عليه».
برغم كل هذا التصلب، فإن دول الخليج لم تغلق تماماً باب المساومة. هناك برأيها فرصة وحيدة للموافقة على تطبيق اتفاق جنيف الأول «لايت»، كي يتغافل عن تحديد مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد. هذه الفرصة هي تقديم إيران ثمناً يوازي «التنازل». هذا ما تقوله القيادة الأمنية، مكتفية بالتلميح لحسابات لا تزال بعيدة: «نحن مستعدون لتغيير في جنيف واحد فقط إذا رأينا أن ذلك سيكون إيجابيا لمصالحنا في المنطقة».
على كل حال، هذه البيئة الدولية والإقليمية التي يمكنها احتضان تسوية سورية «غير متوفرة الآن»، كما يقول مسوؤل أوروبي رفيع المستوى. يعرف هذا المسؤول ما يكفي لجعله يتحدث بحذر شديد من إشاعة أي تفاؤل، فهو واسع الاطلاع على الاتصالات الدولية حول الملف السوري الذي يعمل عليه بدوره. لذلك يقول من دون تردد «ليس هناك قاعدة جديدة للانطلاق نحو مؤتمر سلام جديد»، قبل أن يضيف «لا أرى أن جنيف 3 في الأفق الآن».
لا تعلق الأوساط الديبلوماسية آمالاً تذكر على المشاورات التي يعقدها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في جنيف. يتفق كثيرون على أن ما يقوم به ضروري لاستمرار مهمته أكثر من أي شيء آخر. يصف بعضهم عمله الآن بسائق الدراجة الهوائية، وعليه فإنه سيسقط إن توقف عن تدوير عجلاتها. مهمة تجميد القتال في حلب فشلت، لذا فالإعلان عن ذلك، والاكتفاء به، سيعني إقرار المبعوث الدولي بالإفلاس والاستقالة.
لكن بعض الديبلوماسيين الأوروبيين يقولون إن الوساطة الدولية أمام «المهمة المستحيلة»، فهي تتحرك في صراع تحول إلى حرب إقليمية ودولية بالوكالة، لا يملك اللاعبون المحليون قرار حسمها. هكذا يصير واضحاً للجميع أن الحل السوري لا يزال عقيماً لدرجة تجعل حسابات تقدم دراجة دي ميستورا تقاس «بالسنتيمترات وليس بالأمتار».
يقول ديبلوماسي يعمل على الملف في خارجية دولة أوروبية: «أن يكون لدينا وقف للقتال في حلب أو في حي من المدينة فهذا أفضل من استمراره هناك، وأن يكون لدينا مفاوضات، مهما كانت، أفضل من عدم وجود مفاوضات على الإطلاق».
لكن هذه التعقيدات، على تراكماتها وطبقاتها، لا تحجب عن البعض أن مفاتيح الحل لا تلبس قبعة التخفي. يقول سياسي أوروبي نافذ، عاد مؤخرا من جولة محادثات في واشنطن، إن «المشكلة هي أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بما في ذلك الدول الأوروبية، ليست متفقة حول مستقبل الأسد»، قبل أن يضيف «لا مفر من أن نوجد توافقا حول هذه القضية».
وفق هذا المنحى يبدو واضحاً الحاجة إلى «مضمون» يمكن لمؤتمر «جنيف 3» الانعقاد حوله. فمؤتمر «جنيف 2» أمكن عقده بعد مناورات سياسية، ما أدى للاتفاق على جعل نقاش مكافحة الإرهاب ومصير الحكم يسيران بالتوازي. إخفاق ذلك المؤتمر كان واضحاً للعيان، ولا يبدو أن اللاعبين المؤثرين مهتمون بإعادة عرض المسرحية ذاتها بنسخ حواراتها وخواتيمها.
مع ذلك، يشدد ديبلوماسي رفيع المستوى على أن كل ما يقال عن خلافات حول ترجمة «جنيف 1»، بين حكومة انتقالية تشاركية أم «هيئة حاكمة» تزيح الأسد، هو مجرد تفصيل لا يعبر عن الجوهر. ويضرب مثلا على ذلك مسيرة إنجاز اتفاق الطائف في لبنان، وكيف جعل توفر المشيئة الدولية أطراف الحرب يقبلون في النهاية العناصر ذاتها التي تضمنتها مبادرات لم تتوقف بين عامي 1975 و1990.
ولأنه يرى آليات التحكم بالحرب والحل السوريين مشابهة في الجوهر، يقول إن «اتفاق جنيف واحد هو وعاء يمكن أن يضعوا فيه أي سائل يتوفر، فحالما تتحقق البيئة الدولية تصير معالم الحل تفاصيل لأن أي حل سيمشي حينها». أما خيوط صيغة الاتفاق فهي مرتبطة بملفات كبيرة كما يقول: «لدينا مصير الملف النووي الإيراني، العلاقات السعودية - الإيرانية من جهة والغربية ـ الروسية من جهة أخرى. هناك الكثير من القطع الناقصة في هذا البازل».
اللافت أن دي ميستورا نفسه قال إن الحل في سوريا سيكون في النهاية على طريقة «الحل اللبناني»، كما أنه أشاد بما حققه هذا الحل بخلاف كل الانتقادات المعروفة لبناء دولة محاصصة طائفية.
بالتقاطع مع ذلك، يمكن مقاربة الخطاب الأميركي الذي بات يتبنى درجة كبيرة من المرونة المعلنة. فرغم أنه كان يتحدث من عقر دار التصلّب في الرياض، قال وزير الخارجية الأميركية جون كيري إن «الأسد ليس جزءاً من هذا المستقبل (السوري) على المدى الطويل». صحيح أنه شدد على أن الرئيس السوري يمثل «السبب» الذي ينبغي «إزالته» لتحقيق السلام، آملا أن تدرك إيران وروسيا إمكانية ذلك، لكنه ترك الأمر في عهدة مجاهيل «المدى الطويل». هذه القراءة باتت تقترب من ترجمات موسكو، التي اعتبرت أن «مستقبل الأسد» هو آخر شيء يمكن بحثه، بعد الاتفاق على صيغة الحكم الجديدة وملامح سوريا التي ستخرج من الحرب.
بناء على كل ذلك، يخلص ديبلوماسي ضليع في شؤون المنطقة إلى أن من يقدس شعار «لا مستقبل للأسد» عليه تذكّر السابقة الليبية، حين تمت إعادة تأهيل معمر القذافي بعدما بدا ذلك بحكم الاستحالة في التسعينيات.
على كل حال، المعسكر المعادي لدمشق لا يقف مكتوف الأيدي في انتظار هذا «المدى الطويل». تجري الآن محاولات لصياغة جبهة معارضة سياسية توازي رص صفوف الفصائل المسلحة في «جيش الفتح». الاستحقاق المقبل هو مؤتمر الرياض، المتوقع منتصف حزيران المقبل، ليأتي بعد مؤتمر أجّل مرارا يفترض أن تستضيفه القاهرة.
بعض القيادات البارزة في المعارضة تقول إن الكفة راجحة لمصلحة الرياض. وتشرح أن «مؤتمر الرياض لديه إيجابيات أكثر لا تتوفر لمؤتمر القاهرة، لأنه يضمن عدم معارضة تركيا وقطر، كما أن الإخوان المسلمين يمكن أن يحضروا سرا أو علنا»، قبل أن يضيف «هذا غير ممكن في القاهرة التي لا تحقق أيضا مصالح واشنطن لأن جماعتها لن تكون هناك في المركز».

وسيم إبراهيم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...