محمد عبد العزيز: ليس هناك سينما سورية والأفلام البارزة لا تُشكّل إرثاً
يُصرّ محمد عبد العزيز على أن تكون سينماه خارج أي تصنيف أو تنميط في تيار فنّي محدّد. في فيلمه الجديد «حرائق البنفسج» (إنتاج «المؤسّسة العامة للسينما)، الذي أنهى تصويره مؤخّراً في دمشق، يختبر كاميرا ضد الرصاص وقذائف الموت. فبعد إنجازه 6 أفلام روائية طويلة نالت جوائز عديدة، كـ«دمشق مع حبي» (2008) و«ليلى والذئاب» (2011) و«نصف ملغ نيكوتين» (2007)، يوقّع المخرج السينمائي السوري فيلمه الأحدث عن 5 نساء يتوزّعن أدوارهن في الجحيم الدائر منذ قرابة 3 أعوام ونصف العام. هنا حوار معه:
ماذا عن فيلمك الجديد «حرائق البنفسج»؟
^ أعتقد أن الجانب اللافت للانتباه في إنجاز فيلم حالياً، كامنٌ في خليط المشاعر الناتجة من كوننا، كسوريين، في عين العاصفة، كتلك المنبثقة من سقوط القذائف حولك، أو رحيل صديق كان سيُصوّر معكَ بعد أيام بقذيفة طائشة فتحزن على رحيله، ثم تتعاون مع غيره، وتستيقظ صباحاً، وتجلس خلف الكاميرا لتنجز صورة، تحت قشرتها طبقة كاملة من الأحاسيس المتشابكة، بغضّ النظر عمّا تتحدث تلك الصورة. صورة مفعمة بخليط المشاعر المتناقضة والطائشة والمتناغمة في الوقت نفسه. من هنا تأتي أهمية أي منجز وتفرّده، في قلب الحروب والصراعات الدامية، كما في الحالة السورية.
أما إذا كان لا بدّ من قول شيء حول «الحرائق»، فهو محاولة جديدة لملامسة أطراف المستنقع السوري عبر قصص واقعية لـ 5 فتيات في ظلّ الحرب الطاحنة التي تهرس الجميع من دون استثناء. محاولة لقذف حجر على السطح لاختبار ما سينتج عنها من دوائر، بأسلوب يميل إلى الفيلم التسجيلي كذهنية عند الاشتغال، وإلى الروائي بشكله البصري الأخير.
لا للتصنيف
معظم الأفلام التي حقّقتها كانت من كتابتك. هل يُمكن القول إنك تنتمي إلى تيار سينما المؤلّف؟
^ ليست لديّ فكرة أو هاجس لتصنيف نفسي ونسبها إلى أي تيّار أو نمط سينمائي. أنا لم أقم بأي بحث منهجي بهذا الخصوص. البعض يقول إني متأثّر بالواقعية الإيطالية، ونقاد يصفونني بالسوريالي. الأمر ببساطة أنه لم أحظَ بنصّ يعبّر عمّا أودّ إنجازه، لهذا أكتب أفلامي.
حقّقت مؤخّراً فيلماً عن الحرب السورية بعنوان «الرابعة بتوقيت الفردوس». ماذا عن هذه التجربة التي كتبتها أيضاً؟ هل تستطيع السينما اليوم أن تحتفظ بمسافة أمان مع ما يحدث في البلد منذ نحو 4 أعوام؟
^ ما يحدث في البلد لا يستطيع أي سينمائي أن يحتفظ بمسافة أمان منه. انظر إلى معظم ما أُنتج عن الأزمة/ الثورة: مجرد سُباب بصري، وشتائم على شكل أفلام. هذا بوليس سينمائي أفرزه الربيع العربي، وشرطة سينمائية تجوب الأرجاء ملوّحةً بعصاها الغليظة في وجه كل ما لا يتوافق وهواها السياسي. لم تظهر حتى الآن تجربة تتوّقف عندها، وتعيد النظر بمخزونك المعرفي والثقافي والبصري كلّه. «الرابعة بتوقيت الفردوس» محاولة للخوض في شكل السينما الجديدة من حيث النمط وسياق السرد والأسلوب. كما جرت العادة، ابتعدت قدر الإمكان عن الوصفات الجاهزة والقوالب الفكرية الصلدة لقول أو تمرير شيء ما. أستطيع القول ان هذا الفيلم عمل يوحي أو يحاكي، يلامس أو يحرّض أو يعيد صوغ مفاهيمك حول الحرب والحب والجمال، من دون تلقين.
أنت من جيل سينمائي مغاير ومختلف للسائد في السينما السورية. كيف ترى تجربتك اليوم في سياق تجربة الرواد؟
أكرّر مجدّداً: ليس هناك سينما سورية. هناك أفلام بارزة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة. وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنها غير كافية لتشكّل إرثاً. من الممكن أن تؤثّر في الأجيال المتعاقبة. ربما هذا الأمر ليس سيئاً، ما يجعل تجربة كلّ فرد مختلفة، وإمكانية التقاط اللغة والأسلوب ونمط التفكير أكثر انفتاحا ورحابةً. شخصياً، لا تعنيني هذه المسائل، ولا أتوقّف كثيراً لمراجعة تجربتي مع تجارب الآخرين.
التواصل والانفتاح
لو تخبرنا اليوم بماذا تفكر، وما هي السينما التي تحلم بها في بلد يحتلّ فيه التلفزيون مخيلة جمهوره؟
^ التلفزيون أفسد ذائقة الجميع، لكنه أيضاً ليس غريباً، كونه جزءاً من نتاج الخراب والبشاعة اللذين لم تتوقّف المنطقة عن إنتاجهما على كل المستويات. السينما المُشتهاة أعتقد أن الوقت لا يزال باكراً لإنجازها. المناخ العام والظروف والذهنية والمحيط الضيق، كلّها عوامل تقف حاجزاً في طريقنا جميعنا. لكن المتعة تكمن في تكرار المحاولة لإنجاز ما يقارب الحلم، وهذا حسن في الوقت الذي تكون فيه غارقاً في الحضيض، والسائد يكون الدراما التلفزيونية والمجاهدين الذين لا ينفكّون عن تحويل سيارات نقل الأغنام إلى سيارات دوشكا لإثارة إعجاب إناث القطيع من سلسلة جبال القلمون حتى بيشاور.
في «دمشق مع حبي»، هناك شخصية يهودية سورية. كيف تقيّم هذه التجربة اليوم بعد 4 أفلام روائية طويلة حقّقتها لاحقاً؟
^ وقتها، كان هاجسي المواطنة والتجانس والبحث عما يمكن تعزيز أو فتح الباب، ولو قليلاً، أمام هذا الاتجاه. وجدت أن الشخصية السورية اليهودية مفيدة لفتح نوع من الحوار حينها. كما أني حاولت المزج بين الجماهيري ـ بمعناه المتدوال ـ والفني. أعتقد أن ذلك لاقى استحسان الجمهور والنقاد. لكن، بالنسبة إليّ، الفيلم انتهى في الثواني الأربعين من بدئه. ما تبقى منه مجرّد حكاية مصقولة أحبها الناس. وكما تعلم، الناس عندنا لا يزالون يحبّون الحكايات.
تتميّز أفلامك بجرأة كبيرة وذكاء خاص في إسقاطاتها البصرية. برأيك، إلى أيّ حدّ تستطيع السينما اليوم تحقيق حضورها في المشهد الثقافي العربي؟
^ لا شيء يحقّق حضوره في المشهد الثقافي العربي، لأنه أصلاً ضحل وقاحل. الجمهور العربي عبء على الرواية والموسيقى والسينما والأدب. للأسف، نحن في حقبة القتلة والغوغاء. الجميع يريدون أن يهادنوا ويصنعوا ما يتوافق وذهنيتهم، لأنهم الأكثرية الفاعلة على المستويات كلّها. الانقياد خلف العامة الغوغاء من الحركات ذات الطابع الشعبوي أصبحت موضة الربيع، وهو ما يجعل من المبدع مجرّد عامل تنظيفات بمكنسة طويلة، مهمته الوحيدة مقتصرة على كنس الروث كلّه الذي يخلفونه في كل محاولة لهم للخروج من باب الزريبة الموصد بإحكام. أغلب ما شاهدته للسوريين المشتغلين في الجانبين البصري والأدبي يصبّ في هذا الاتجاه. انظر ما يفعلونه في محيط دمشق وحلب والقامشلي. لقد باعوا حلب خردةً في أسواق الأناضول، وهناك من يصوّرهم أبطالاً. لا السينما ولا أنواع الفنون والآداب كلّها قادرة على تحقيق حضور ملموس، حالياً على الأقل. هذه حقبة القتلة والغوغاء والبهاليل والمهرّجين المحيطين بهم.
أجرى الحوار: سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد