الحل الأخلاقي للأزمة السورية
الجمل ـ عمار سليمان علي: يبدو أن من ينتظرون حلاً دولياً للأزمة السورية المعقدة والمتعددة الجوانب, يشبهون من ينتظر هطول المطر في قلب الصحراء ليطفئ حريقاً في عز الصيف! ومثلهم كذلك من ينتظرون حلاً سياسياً صرفاً, أو ينتظرون حلاً عسكرياً صرفاً, أو حتى حلاً إنسانياً صرفاً.
فالحل الدولي ـ بمعنى الاتفاق أو القرار الدولي ـ مهما كان عادلاً ومتوازناً بين طرفي الأزمة, سيسعى, من وجهة نظر سورية بحتة, إلى تحقيق وتمرير مصالح الدول الكبرى النافذة وتقديمها على مصلحة الدولة السورية ومصلحة الشعب السوري, وفي هذه الحال لن ينطفئ الحريق السوري إلا بشكل مؤقت, ليعود بعد فترة لن تكون طويلة هذه المرة للتقمص بأشكال أخرى قد تكون أشد وأعنف! ومن يراجع تاريخ الأزمات المماثلة ـ وأقربها الأزمة اللبنانية الجارة ـ سيكتشف أن الحل الدولي ليس إلا ذراً للرماد في العيون, وتغطية للجمر الملتهب ببعض ذلك الرماد!
أما الحل السياسي الصرف ـ بمعنى الحوار بين النظام ومعارضيه ـ فسوف يكون, من وجهة نظر أغلبية الشعب السوري, حواراً يؤدي إلى تقاسم السلطة أو تداولها, والأمر سيان, وسيسعى لتحقيق مصالح الأطراف المتحاورة وتقديمها على مصلحة الشعب الذي لن تختلف الأمور عليه بين الأمس واليوم, وسيغني مع المثل "تيتي تيتي...", والجار اللبناني ـ مرة أخرى ـ مثال على حوار اللاحوار, لتمرير مصالح الكبار!
وبالنسبة للحل العسكري الصرف ـ بمعنى حسم النزاع على الأرض لصالح النظام, وهو الأرجح, أو لصالح معارضيه, وهو ما يبدو مستحيلاً ـ فإنه ككل صراع عسكري عرفه التاريخ البعيد والقريب لن يكون إلا مرحلة من مراحل الحوار أو التفاوض, وسيحتاج في النهاية إلى تظهير نتائجه في حوار سياسي أو اتفاق سياسي يحقق مصلحة الطرف الغالب ويقدّمها على كل مصلحة, ويكون الطرف المهزوم مجرد ديكور أو كومبارس كي يكتمل الفيلم لا أكثر! وهنا أيضاً سيبقى الجمر تحت الرماد.
يبقى الحل الإنساني, وهو لا يستحق اسم الحل بالأساس, لكونه سيعالج ارتدادات الأزمة ومظاهرها دون الغوص في تفاصيلها ومنعرجاتها وعللها ومسبباتها!
أين الحل إذاً؟ لعله مزيج مما سبق! أي حل دولي سياسي عسكري إنساني. لكن خلطة كهذه ستحمل داخلها كل علل الحلول السابقة الصرفة, إذا لم تستند إلى معايير وطنية وأخلاقية صارمة وثابتة, وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الحل الأخلاقي"!
ما هي المقومات الأساسية للحل الأخلاقي؟
أولاً ـ الاعتراف بالخطأ: ينبغي أن يعترف كل طرف بأخطائه وخطاياه, وأن يكون مستعداً للتراجع عنها وإصلاحها حيث أمكن, وينسحب هذا على الأخطاء والخطايا الفردية والجماعية التي ارتكبت منذ تاريخ الخامس عشر من آذار 2011, والتوقف عن ارتكاب أية أخطاء أو خطايا مماثلة, تبدأ بالسب والقذف وتنتهي بالقتل والتخريب, والعمل لصالح دول أجنبية وبأموالها وأسلحتها. وهذا يعني حكماً وقف التسلح ووقف إطلاق النار, ووقف الحروب الكلامية أيضاً, التي تبدأ بالشتائم وتنتهي بأوصاف ما أنزل بها الضمير من سلطان.
ثانياً ـ المحاسبة والمساءلة: ينبغي محاسبة ومساءلة كل فرد وكل جهة وكل طرف عما ارتكب من أخطاء وخطايا وتجاوزات, ولو اقتضى الأمر عزل ربع أو نصف مسؤولي الدولة, أو معاقبة بعض وجوه المعارضة بعقوبات قاسية لا تقل عن منعهم من العودة لممارسة العمل السياسي طيلة الحياة أو لفترة محددة حسب درجة تورطهم وارتكاباتهم.
ثالثاً ـ القضاء على الإرهاب: ينبغي أن يكون الجميع, دون استثناء, داعمين لجهود الجيش العربي السوري في مكافحة الإرهاب واجتثاث الإرهابيين (ومن ينكر وجود الإرهابيين في سوريا أو يرفض اجتثاثهم ينبغي أن يعامل معاملتهم) وهنا يجب التفريق بين الإرهابيين المحترفين والمرتزقة (الأجانب والسوريين) وبين حملة السلاح المغرّر بهم والقابلين للإصلاح والتقويم, سواء عبر السجن, أو عبر حلقات توعية مكثفة يقودها خصوصاً رجال دين متنورون ومنفتحون من طينة المفتي حسون والشيخ الدكتور البوطي وأمثالهما, أو متخصصون بالتربية وعلم النفس والسلوك البشري.
رابعاً ـ التعويض: ينبغي التعويض على كل إنسان عما خسره خلال فترة الأزمة, والمقصود التعويض المادي للمتضررين في بيوتهم وأرزاقهم وممتلكاتهم, بالإضافة للتعويض المعنوي مقروناُ بالمادي لمن فقدوا/فقدن أخاً أو زوجاً أو قريباً أو عزيزاً. ولكي تكتمل الصورة الأخلاقية للحل المنشود ينبغي أن تؤخذ التعويضات ـ تبرعاً أو فرضاً ـ من الأغنياء (القدامى أو من اغتنوا خلال الأزمة وبسببها) وتوزع على مستحقيها, ولا بأس أن يتنازل الأغنياء المتضررون عن حقهم بالتعويض, لصالح الفقراء والمعوزين.
خامساً ـ البرنامج الاقتصادي الاجتماعي: ينبغي وضع وتفعيل برنامج اقتصادي اجتماعي يراعي خصوصاً مصالح الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود, لكي يحسّن أوضاعهم بسرعة قياسية, ويخفف قدر الإمكان من تأثير الانفلات النيوليبرالي الذي كان سبباً أساسياً في الأزمة الراهنة, بفعل المخططين للسياسات الاقتصادية الاجتماعية في الحكومات السابقة, الذين ينبغي ألا يكونوا في منأى عن المحاسبة والمساءلة, ولو طال الزمن.
سادساً ـ الانتخابات: بعد تحقيق ما تقدم, وتفعيل العمل الحزبي التعددي, مدعوماً باستقلال قضائي مقبول, وتطور إعلامي كمي ونوعي, يمكن اللجوء إلى صناديق الاقتراع ليختار الشعب ممثليه, ويحدد من يحكم سوريا وكيف تحكم سوريا.
هل هو حل مثالي؟ لا شك أن فيه الكثير من المثالية, ولكنه ـ كما نزعم ـ الأكثر إمكانية للتطبيق والنجاح من كل الحلول الأخرى, والأكثر تعويلاً على السوريين أنفسهم, وعلى كل حال يبقى أقل مثالية وابتعاداً عن الواقع من طروحات بعض المعارضين الذين يصورون في مقالاتهم كيف ستكون سوريا التي يحلمون بها والتي ـ للمفارقة ـ لا تختلف إلا ببعض التفاصيل والشكليات عن سوريا التي بشر بها حزب البعث العربي الاشتراكي, سواء عبر منطلقاته النظرية أو عبر بيان ثورته في الثامن من آذار 1963 وهي للإنصاف الثورة الوحيدة في تاريخ سوريا المعاصر, وفق التعريف المتداول والمتفق عليه للثورة, فما سبقها كان عبارة عن انقلابات, وما تلاها كان عبارة عن فتن, وآخرها الفتنة التي نحن فيها اليوم, والتي لا يخلصنا منها سوى أن يبدأ المشاركون فيها والداعمون لها بالاعتراف بأنها فتنة, كبداية ناجحة ـ ربما ـ لتطبيق هذا الحل الأخلاقي الذي عرضناه!.
التعليقات
الحل الأخلاقي ...والحل الجذري
إضافة تعليق جديد