هل ينعم السودان بالسلام
لقد ذاق السودان كله مرارة الحصار الاقتصادي خلال سني الحرب وإن لم تخلُ السنوات العجاف من إيجابيات، حيث أحدثت تغييرا في بنية الشعب السوداني، وجعلت له نظرة جديدة تجاه الأمور كما أشار المراقبون.
سباق مع الزمن .. هذا ما سعت إليه الحكومة السودانية خلال الأشهر الماضية في مباحثات مضنية فالقرارات الدولية بفرض عقوبات على الشعب السوداني قيد التنفيذ، وفي انتظار إشارة البدء،وسط مخاوف من استمرار العقوبات التي فرضت خلال سني الحرب وكان لها آثارها على الاقتصاد السوداني، وإن كانت دول كثيرة خرقت قرارات أمريكا بالطبع ليس من أجل "سواد عيون السودانيين" بل من أجل المصالح الواعدة التي يبشر بها مستقبل السودان متمثلا في ثرواته التي ملأت أرضه ، أو بعض الجيران الذين قبلوا كسر الحصار ـ على ما بهم من ضعف ـ .
لاقت الدعوى بالتواجد لقوات دولية ـ إضافة أو بديلا لقوات الاتحاد الأفريقي ـ في السودان رفضا عاما في الشارع السوداني حين لوّحت بها الولايات المتحدة باستثناء بعض التصريحات المداهِنة من قبل المعارضين للحكومة التي نفت إجماع الشعب السوداني على رفض التواجد الدولي في البلاد، حيث تكرّس هذه القواتُ لدعمَ التواجد الغربي ـ غير المعتمد كقوة مؤثرة متمثلا في المؤسسات الغربية التي كمؤسسات إغاثية،وتعليمية، وملاجئ ومؤسسات تبشيرية ـ .
لقد تبنى مجلس الأمن في السادس عشر من مايو الماضي مشروع قرار أمريكي يطالب بالإسراع بتسليم القوات الإفريقية مهامها فى دارفور لقوات دولية بديلة، وأمهل المجلس الحكومة السودانية أسبوعا واحدا كي تسمح لخبراء عسكريين من الأمم المتحدة بدخول دارفور للتخطيط لنشر قوة حفظ سلام تابعة للمنظمة الدولية في الإقليم بعد انتهاء مهمة الاتحاد الأفريقي في سبتمبر القادم ، إلا أن القرار لم يحدد عواقب عدم الالتزام بالمهلة، وجاء القرار بعد ساعات من رفض السودان مجددا على لسان وزير خارجيته نقل مهمة قوات الاتحاد الأفريقي بإقليم دارفور إلى قوات دولية، وتأكيده تمسك السودان ببقاء ملف دارفور بالاتحاد الإفريقي.
ويبدو أن إدراك السودان لخطورة وجود قوات دولية دعا لتكرار القسم بأن تكون دارفور مقبرة للغزاة ، ورفع حالة الطوارئ وتجييش الدفاع الشعبي في دار فور التي تعد فرصة متاحة لتحقيق المشروع الديمقراطي في أفريقيا بخلخلة الأنظمة في أفريقيا وإعادة بنائها على الطريقة التي ترغبها أمريكا .
لقد صدر تقرير أمريكي يوضح طموحات أمريكا في أفريقيا ـ اقتصاديا ـ حيث يشكل السودان – حسب التقرير – بلداً رئيساً في الحرب الأمريكية ضد "الأنظمة الفاشلة"، والنزاعات المتصلة بالإرهاب في القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر، والتقرير يرتبط بشكل أو بآخر، بسياسة "اللااستقرار البنّاء" التي بشَّر بها "روبرت ساتلوف" مدير مؤسسة واشنطن لشؤون الشرق الأدنى،فلا بد من التغيير لصالح أمريكا بإحداث هزات عنيفة في دول المنطقة لخلخلة أوضاعها وإعادة بنائها على أساس موال لأمريكا بغطاء ديموقراطي الضمان الوحيد لتواجدها في المنطقة، والحامي الفعلي للمصالح الأمريكية في المنطقة.
وهذا يعد أداة تنفيذية لمشروع القرن الأمريكي الجديد، الذي تشكل القارة الإفريقية بمقتضاه واحدة من أهم بؤر الاهتمام الأمريكي نظراً لثرواتها الهائلة،
وتحديداً النفط الذي يشكل قاعدة الارتكاز في مشروع القرن الأمريكي الجديد، حيث تسعى أمريكا إلى رفع نسبة استيرادها من النفط الإفريقي بحلول عام 2015م إلى 50% من مجموع نفطها المستورد.وتشير مصادر الحكومة السودانية إلى أن الاحتياطي الإجمالي منه قد يصل إلى 3 مليار برميل.
إذن تدرك الحكومة السودانية هذه الرؤية وهذا سر التحرك السوداني حيال المخطط الذي يراد للسودان لما يشكل من خطر على سيادة السودان والتدخل في شؤونه، ولو كان لإحلال السلام ما ثارت ثائرة فئات الشعب المختلفة، ولما أقدمت الخارجية السودانية على خطوة جريئة جديدة تعلن رفض التدخل في شؤون السودان.
فقد قامت الخارجية السودانية باستدعاء السيد " يان برونك " ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، و تخلى "علي كرتي" وزير الدولة بالخارجية السودانية عن لغة الدبلوماسية الهادئة ، ووجه إنذارا شديد اللهجة لـ " يان لبرونك " بأن السودان لن يقبل أن يكون عراقا آخرا، وأنّ على "برونك" – شخصيا ـ ألاّ يتمادى في التصرف كأنه "بريمر" السودان..فى إشارة إلى الحاكم الأمريكي الأسبق على العراق ،ووجدنا الوزير السوداني يؤكد على أنّ هناك أيادي كثيرة تعمل في السودان، ومن صالحها أن يظل السودان بلا استقرار وأن هذه الأطراف تعرقل الدعم الدولي لتطبيق الاتفاقات مع الفصائل المسلحة.
وأكد مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل عقب لقاء الرئيس المصري في 11 يونيو الماضي إن حكومته تأمل فى التوصل لاتفاق شامل لإنهاء النزاعات في الشرق والغرب والجنوب "حتى تتفرغ البلاد للبناء والتنمية" ، وجدد رفض حكومته للتواجد الدولي في دار فور .
كان أغلب الظن أن دارفور مختلفة عن الجنوب كليا وأن البلد ستجد "فرصة" للقضاء على مسببات وبؤر التوتر في المناطق الأخرى،ومنها دارفور ..ولكن كانت هناك المحاولات دائبة لتحريك النزاعات الداخلية وأفلحت في تأجيج دارفور، وتم نقلها من مشكلة قبلية وصراعات محلية على الموارد إلى أعلى المستويات وهو ما لم يحدث في مشكلة الجنوب التي استمرت لعشرين عاما لم تصل فيها إلى مجلس الأمن ..
وكانت السودان قد تحركت إلى مفاوضات أبوجا بنيجيريا للحوار مع "المسلحين" في إقليم دارفور المضطرب،إظهارا لمدى الجدية لحسم النزاع المحتدم منذ سنوات، ولرغبة معلنة لتحقيق السلام ومع كافة فصائل النزاع كما حدث مع الجنوب .
لقد تقدمت السودان برؤية لحل الأزمة في الإقليم المضطرب أمام منتدى أفريقي كبير يضم الرؤساء" الكنغولي رئيس الاتحاد الإفريقي "جيمس ساسو انغوسو"، والنيجيري "اوليسيغون أوباسانغو"، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي "ألفا عمر كوناري" وشمل نشاط الوزير السوداني لقاءات بأعضاء الوساطة الأفريقية التي تتولى الإشراف على جولة المفوضات الجارية بين الحكومة والحركات المسلحة بدارفور ومجموعة الشركاء.
وسارت الجولة ـ التي دخلت شهرها الخامس ـ بشكل متعثر بسبب الملفات الخلافية الثلاثة وهي توزيع السلطة، والثروات، والترتيبات الأمنية ، ويبدو أن الجماعات المسلحة كانت لها طموحات أكبر حيث تم توقيع اتفاقية هشة وقعت عليها الحكومة السودانية ولم يقابل هذا توقيع الجماعات المسلحة في أبريل الماضي حيث أعلن جعفر منرو الناطق باسم حركة تحرير السودان إحدى حركات التمرد بدارفور المشاركة في مباحثات أبوجا للسلام أنهم رفضوا التوقيع على وثيقة الاتفاق التي أعدها الاتحاد الأفريقي ،وتوالت الضغوط من الاتحاد الأفريقي و الاتحاد الأوروبي حيث دعا الاتحاد الأوروبي متمردي دارفور إلى توقيع اتفاق سلام مع حكومة الخرطوم. واعتبر الاتحاد في بيان له أن "عدم إبرام مثل هذا الاتفاق سيكون عملا غير مسؤول بالنظر إلى الآلام الرهيبة التي يعانيها سكان دارفور" مشددا على أن يكون وقف النار "محترما بقوة" وعلى أثر الضغوط تمت الموافقة على السلام على مضض .
في المسألة السودانية بعض الحركات كانت تريد الاستقلال عن الدولة إذ يوجد ما يروي الغليل من التنمية والاعتراف الرسمي بهم كجزء من الشعب السوداني ، بل كان البعض يسعى ليس لمجرد الاعتراف بل لما هو أكبر من ذلك الانفصال عن جسد الدولة، والاستقلال، ولا يخفى ما تشكله الدعوة من خطر على مستقبل وحدة السودان ككيان تاريخي.
فإقليم دارفور مثلا يشكل 20% من مساحة السودان، ويعنى استقلال إقليم انفراط عقد السودان الموحد.الإغراءات بتكوين كيان مستقل للمسلحين كانت تلوح بين حين وآخر وخاصة بعد إبرام اتفاق الجنوب الذي يشجع على المشاركة في كل شيء، فإن لم يكن فالاستفتاء على الاستقلال.
تصل نسبة المسلمين في دارفور إلى 99 % ، وتعد قبائل الفور، والمساليت ، الزغاوة من أكبر الجماعات العرقية ، وإلى جوارهم قبائل أقل عددا مثل إبالة، وزبلات، وكاميد، والداجو، والتنجر ، والتامة ، وبني حسين ، والرزيقات ، والمعالية ،وتشكل الجماعات ذات الأصول الأفريقية 60 % بينما ذوو الأصول العربية 40 %وإذا كان شح الطبيعة والقحط سببا تاريخيا من أسباب الصراع وسرعان ما يتم السيطرة عليها إلا أن هناك أسبابا لا يمكن السيطرة عليها مثل التواجد الغربي التنصيري إلا إذا وقف الجميع يدا واحدة .
"إقليم دارفور كان منطقة صراع مستمر ـ نظرا لحدوده المفتوحة ولمساحته الشاسعة ولوجود قبائل عديدة لها امتدادات داخل دول أفريقية أخرى ـ. وقد تأثرت المنطقة بالصراع التشادي-التشادي والصراع التشادي-الليبي حول شريط "أوزو" الحدودي، وبالصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى فراجت في إقليم دارفور تجارة السلاح، كما تفاعلت قبائل الإقليم مع تلك الأزمات.
والإقليم يشكل مخاوف لدى الدول المجاورة، فهو قاعدة تشاد الخلفية إذ جميع الانقلابات التي حدثت في هذا البلد الأفريقي تم تدبيرها من دارفور، ما عدا أول انقلاب أطاح بـ "فرانسوا تمبلباي" الذي كان أول رئيس لتشاد بعد استقلالها عن فرنسا، فالإطاحة بالرئيس فيليكس مالوم أو غوكوني عويدي ونزاع حسن حبري مع الرئيس الحالي إدريس ديبي ارتبط بإقليم دارفور الذي كان القاعدة الخلفية للصراعات التشادية الداخلية، لذا تسعى بعض الأطراف لدعم التواجد الغربي أو دعم الاضطرابات !
وكذلك يشكل الإقليم نقطة تماسٍ مع ما يعرف بالحزام الفرانكفوني (تشاد، النيجر، أفريقيا الوسطى، الكاميرون) وهي الدول التي كانت تحتلها فرنسا أثناء عهد الاستعمار وتدين لها بالولاء بعد الاستقلال، ولا تزال هذه الدول يجمعها بفرنسا روابط تؤمّن مصالح فرنسا في هذه البلاد، لذلك يسهل ـ حسب المراقبين ـ فهم الاهتمام الفرنسي بما يجري في الإقليم في الوقت الراهن.والدول المجاورة تريد من القبائل المسلحة أن تكون حائط صد أو جدارا عازلا يحول دون القلاقل التي تحدث عبر الحدود، أو يحل السلام بالتواجد الدولي أمام عدم قدرة الحكومة على حل المشكلة.
في العام 1987 نشأ تحالف موسع يشمل القبائل ذات الأصول العربية بالإقليم ويضم 27 قبيلة كان الهدف منه الحد من نفوذ قبائل الشمال العربية أي الجعليين والشايقية والدناقلة، وتوسع التحالف ليشمل بعض قبائل كردفان ذات الأصول العربية،واتهمت القوى الغربية الحكومة في عهد الصادق المهدي والبشير برعاية هذا التحالف، ونفت الحكومة في العهدين دعم الجنجويد الذين اتهموا بجرائم سطو واغتصاب، ويربط بعض المراقبين نشأة الجنجويد بالحرب التشادية ـ التشادية في الثمانينات حين واجه الرئيس التشادي الحالي إدريس ديبي خصمه حسين حبري، فجند كل طرف بعض المليشيات من أبناء القبائل العربية القاطنة بشرق تشاد فبرزت مليشيا الجنجويد
وفي المقابل قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الراحل ـ جون قرنق ـ بتسليح قبيلة الفور في الإقليم لمواجهة حكومة الخرطوم .واتهمت الجبهة الشعبية الجنجويد بالقضاء على التمرد الذي قاده المهندس "داود يحيى بولاد" عام 1991 بدعم جون قرنق زعيم الحركة الشعبية ـ السابق ـ ومنشقا عن الجبهة القومية الإسلامية بزعامة حسن الترابي، وقد قمعت حملته وقتل.
لقد طالب مجلس الأمن الدولي الحكومة السودانية بداية أغسطس 2004 في قرار بشأن دارفور أن تقوم بنزع أسلحة مليشيا "الجنجويد" وضرورة تعقب الضالعين في القتل والنهب والاغتصاب ، واستجابة لطلب مجلس الأمن شرعت الحكومة السودانية في نزع سلاحهم ، ومجهم في مؤسسات الدولة أو القوات المسلحة.
لكن يبدو أن البعض لا يريد للأمور أن تستقر، السلاح صار في أيدي الجميع ، والضعفاء هم الضحايا ، والكثيرون رحلوا وسكنوا في مخيمات الإغاثة في ظروف بائسة، فالحالة الإنسانية والأمنية تتدهور والحكومة تقدم ما في وسعها من إمدادات غذائية ومعيشية ، ولكن يبدو أن قدراتها لا تفي بالحاجة الفعلية لحاجة السكان، لقد تدخلت بعض المؤسسات الغربية ، و الإغاثية من بلدان إسلامية .
وتشير تقارير محايدة أن سكان إقليم دارفور يتعرضون لخطر مجاعة كبرى ليس من السهل تلافيها، وأن السكان يعانون من درجات كبيرة من سوء التغذية ، والكثيرون لم يستطيعوا زراعة أراضيهم بسبب الخوف من الاضطرابات وتدهور الوضع الأمني ،كما أشارت إحصائيات الأمم المتحدة إلى موت180 ألف شخص، ولكن الإحصائية ينظر إليها بعين الشك، فكثير من الضحايا لا يخضعون للإحصاء، بينما يقيم أكثر من مليوني إنسان في العراء.
الكثيرون كانوا يتساءلون عن مصادر تمويل المتمردين في السودان ،وسر اهتمام الغرب بمؤسساته العاملة المختلفة بالسودان،والتلويح بالانفصال عن الدولة من قبل بعض القوميات ،وتؤكد الوقائع أنه منذ العام 1971والمجلس العالمي للكنائس يهتم اهتماما خاصا بالسودان و يتابع بدقة ما يجري فيه، وفي العام 1990 أعلن عن ضرورة توزيع ريع الناتج النفطي بين الأطراف السودانية، ندرك إذن مغزى المحاولات المستميتة للإبقاء على النزاع هناك ، ثم السعي لإقرار سلام وفق شروط قاسية على الحكومة،و لوجود قوات دولية .
هناك أيادٍ ليست خفية تسعى لتمزيق السودان بافتعال مشكلات داخلية وتستخدم وسائل قذرة بتسليح البعض، أو منْح البعض ومنع آخرين حسب أهواء من يمنح ويمنع، والبلاد من أثر الاضطرابات التي تملأ أرجاءها،لا تكاد تنتهي من مشكلة حتى تقع في أخرى ،و كانت دول الجوار لها دور في إشعال نار الحرب كوسيط لقوة أكبر تتولى إدارة الأزمات ،ويجب ألاّ نسارع بإدانة دول الجوار،فكلها دول خاضعة لقوى دولية كبرى تعمل تحت إمرتها خوفا وطمعا، لتثير القلاقل في بلد غارق في الخلافات العرقية والإثنية.
.. فهل يتحقق السلام مع فرق متناحرة كلٌ له طموحاته ؟ وكل له دوافعه ومغامراته وبواعث لانفصاله عن جسد الدولة " السودان الكبير " ستثبت الأيام مدى مصداقية ذلك .
عادل صديق
المصدر: المحيط
إضافة تعليق جديد