هكذا تسهم «الصحافة» في ولادة الفاشية
في أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، كان جان – بول سارتر يعتبر «رفيق درب»، وهو تعبير كان في ذلك الحين ينطبق بخاصة على جماعات من المثقفين والمبدعين اليساريين أو الديموقراطيين الذين كانوا يناصرون الاتحاد السوفياتي من على مسافة ما، حافظين لأنفسهم حق النقد والاعتراض، من دون أن يكونوا على عداء مع أفكار دول المنظومة الاشتراكية. ومن هنا كان رفاق الدرب ينظرون بشيء من التعاطف الى الأحزاب الشيوعية المحلية من دون أن يؤيدوا مواقفها كلها. في أواسط الخمسينات، اذاً، كان سارتر، ومعه سيمون دي بوفوار، رفيقته، على هدنة مع الأوساط الشيوعية الفرنسية، على الأقل انطلاقاً من موقف مشترك ازاء بعض القضايا الأساسية، مثل حرب الجزائر، والوقوف ضد الأميركيين في «الحرب الباردة»، ناهيك ببعض البرامج السياسية والاقتصادية المحلية التي كانت ذات نفس تقدمي واضح. في تلك السنوات كتبت سيمون دي بوفوار واحداً من أكثر كتبها التقاءً باليسار «الواقع الفكري اليميني» (نقله جورج طرابيشي الى العربية في ذلك الحين)، كما كتب سارتر مجموعة من أعمال فكرية وفنية (مسرحية) تلقفها اليساريون بكل اهتمام وساهموا في صنع مكانتها ومجدها، وبالتالي في ترسيخ سمعة سارتر بوصفه كاتباً تقدمياً «يكاد يكون مثبتاً للمواقف الشيوعية». ومن هذه الأعمال مسرحيته «نكراسوف» التي أول ما يمكن أن يقال عنها، انها كانت العمل الذي وازن به سارتر مسرحية سابقة له، بدت في حينه (أواسط الأربعينات) «غير منصفة» تماماً ازاء الشيوعيين الفرنسيين وهي مسرحية «الأيدي القذرة».
- اذاً، كتب سارتر «نكراسوف» في العام 1955 لتقدم على خشبة المسرح في العام نفسه، وتنشر في العام التالي. واللافت ان تلك السنوات التي تلت موت ستالين وواكبت بداية اصلاحات خروتشوف وخروج الاتحاد السوفياتي من عزلة ايديولوجية خانقة، كانت تشهد ذروة في انتشار الكتابات الصحافية المعادية للسوفيات، وكذلك شهدت انشقاق مسؤولين سوفيات هربوا الى الغرب وحجتهم الدائمة انهم يهربون من ممارسات ستالينية لا تزال قائمة، وكانت الأوساط الغربية، ولا سيما الفرنسية المرتبطة بمنظمات ذات صلة بالأجهزة الأميركية – كما ستبين فرانسيس ساوندرز لاحقاً في كتابها «من يدفع أجر الزمّار» -، كانت ترحب بهم وتقيم من حولهم ضجة كبيرة في سياق حرب ايديولوجية مفتوحة لم تنته إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية الحاكمة كلها لاحقاً. ضمن هذا الصراع الفكري اتخذ سارتر موقفه معبراً عنه، خصوصاً، من خلال مسرحية «نكراسوف»، لكنه في الوقت نفسه عبر أيضاً عن موقف واضح تجاه نوع من الصحافة اتخذ من الكذب سبيلاً له، كأنه مؤمن بنظرية غوبلز الشهيرة «اكذب... اكذب وستجد في النهاية من يصدقك». ومن هنا أصاب صاحب «الوجود والعدم» أكثر من هدف في مسرحيته.
- تدور «نكراسوف» التي تتألف من ثماني لوحات، من حول نصاب فرنسي يدعى جورج دي فاليرا، وجد نفسه ذات حين محاصراً من قبل أجهزة الأمن التي تكاد تطبق عليه بعدما اكتشفت فنون نصبه واحتياله، فيقوم بلعبة كانت على «الموضة» في ذلك الحين: يقدم نفسه الى الصحافيين العاملين في صحيفة يومية متخصصة في نشر المقالات المعادية للشيوعية على أنه وزير سوفياتي انشق وهرب من بلاده، مفضلاً الحرية على عيش العبودية ولو وزيراً. ويعطي النصَّاب لنفسه اسم نكراسوف. طبعاً، وكما يحدث عادة في هذا النوع من الصحافة المأجورة، لا يودّ الصحافيون تحري الحقيقة، بل انهم يتلقون حكاية «نكراسوف» المزعومة وتصريحاته ويجعلون منه قضية الساعة، ما يحوله بين ليلة وضحاها الى فتى مدلل لدى المجتمع الصاخب المعادي للشيوعية، ويستصرح الرجل ويفيض حتى اللحظة التي يشعر فيها انه قد جرى استخدامه أكثر مما يتحمل بخاصة وأن تلك الأوساط، راحت تنسج تصريحات باسمه وتنشرها، أما حين يرسل تكذيباً غاضباً على ما نسب اليه، فإن التكذيب لا ينشر. ويصل هذا الأمر الى ذروته حين تنشر الصحيفة، والجوقة التي تدور من حولها، جملة تصريحات منسوبة الى «نكراسوف» تحمل «فضحاً» لعدد من المناضلين الشيوعيين المحليين، يؤدي الى القبض عليهم. هنا يشعر الرجل انه قد يكون نصاباً ولصاً... أجل، لكنه لا يمكنه أبداً أن يكون من الصنف الذي يؤذي الآخرين، لذا سارع الى اعلان الحقيقة لكن أحداً لا يصدقه، فهو انسان لم تعد له قيمة إلا بقدر ما يستخدم في الصراع ضدّ الشيوعيين. ولذا تسارع أوساط اليمين المتطرف الى ايداعه مصحاً، هو سجن في الحقيقة، بزعم أنه فقد عقله. وهنا فقط يتدخل الشيوعيون ويؤمنون له وسيلة للهرب من المصح، بمساعدة صحافية يسارية شابة هي فيرونيك.
- طبعاً لا يتعين على القارئ هنا أن يعتقد بأن المسرحية درامية أو محزّبة... بل بالعكس. لقد آثر سارتر أن يكتبها كعمل هزلي صاخب، بمشاهد مضحكة – تصل الى حدود «الفارس» الذي كان عند بدايات زمن السينما، من حصة أفلام ماك سينين ثم شارلي شابلن، وكان سارتر في ذلك الحين يبدي تأثره بذلك النوع السينمائي ويعلن ان المسرح يجب أن يقلد السينما في حركة سريعة مضحكة تعبر الزمن بخفة، وهو ما فعله حقاً في معظم مشاهد هذه المسرحية -. مهما يكن من أمر، فإن هذا الجانب الهزلي. الذي يبدو على السطح مفتقراً الى الجدية، كان في العمق جاداً جداً، ومكن سارتر من أن يسخّف كل الأوساط الرجعية في فرنسا ذلك الحين والتي كانت تتخذ من «فضح عيوب الشيوعية» ميداناً لتحركها. أراد سارتر أن يفضح تلك الأوساط وأن يفضح من خلالها ذلك النوع المأجور من الصحافة التي تنشر لذلك الغرض تحديداً لتساهم في خلق واقع يجعل أكاذيب جورج، نكراسوف تنطلي على الجمهور الساذج أكثر وأكثر كلما كانت الأكاذيب أكبر وأكبر. فالمطلوب في نهاية الأمر، ليس نكراسوف وأفكاره وتوبته، بل تصوير كل شيء سيئ في الاتحاد السوفياتي بصورة شديدة التضخم. والاشتغال انطلاقاً من هذا الواقع للإمعان في المعركة. ويتجلى هذا خصوصاً حين تزعم الصحيفة ان نكراسوف قد تحدث عن «قائمة تضم أسماء الذين سيعدمون حين يصل الشيوعيون الى السلطة»، وتزيد ان نكراسوف قد شكل، سراً، «جمعية الذين سيعدمون في المستقبل». واذ نشرت القائمة راح كل واحد يشعر بالفخر كون اسمه وارداً في القائمة، بينما حل «العار» بالذين لم يجدوا أسماءهم اذ يعني هذا انهم «تقدميون خونة للفكر الحر»!
- من خلال هذا العمل السارتري المنسيّ بعض الشيء اليوم، تمكن صاحب «أبواب مغلقة» و «أسرى التونا» وفيلسوف الوجودية الأول، من التنديد بنمط معين من الصحافة السياسية التي لا توجد أصلاً. إلا كي تكون ضد شيء ما مفتعلة معارك دون – كيشوتية كاذبة، لكن المؤسف أنها تعثر لنفسها عادة على جمهور يصدقها. وسيقول سارتر في ذلك الحين، تعليقاً على مسرحيته «نكراسوف» هذه، ان نمو وانتشار هذا النوع بالتحديد من صحافة رد الفعل الكاذبة، كان في المانيا أواخر سنوات العشرين مسؤولاً الى حد كبير عن صعود الفاشية التي – وصحافتها – لم تكن صاحبة رسالة بناءة، بل مجرد رد فعل ضد القيم الديموقراطية يقوم بها فاشلون وخالقو أساطير وأناس لا مواهب لهم، مستغلين بؤس الجماهير ورغبتها في تعيين عدو وهمي يصبح مشجباً تعلق عليه اخفاقاتها.
- اذا كان جان – بول سارتر (1905 – 1980) قد عرف بخاصة كفيلسوف ابتدع نوعاً يسارياً علمانياً من الوجودية، فإنه كان أيضاً – وكما نعرف – روائياً وصحافياً وكاتباً مسرحياً، حتى وان كان قد سخَّر كل ضروب الإبداع في هذا السياق، لخدمة أفكار فلسفية وسياسية وإيديولوجية بحيث كان مسرحه – وكانت رواياته – فن تعبير عن الأفكار في المقام الأول.
ابراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد