هامش الرواية في أزمنة الصمت
يثير بعض الندوات الخاصة بالرواية العربية جملة من الاسئلة، يحيل بعضها على القضايا التي تهيمن عليها، ويستدعي غيرها مسار هذه الرواية، التي مضى على ولادتها قرن من الزمن. وما مسار الرواية إلا علاقتها بالشروط الاجتماعية، التي قد توقظ القراءة والمتخيل والنقد في زمن، أو تحاصر هذه العلاقات الى حدود التضييق في زمن آخر. وهذا ما يجعل من الرواية مرآة صقيلة لقرن عربي من الزمن، عرف من الضيق أكثر مما عرف من الانطلاق.
ولدت الرواية العربية وهي جنس أدبي غير تقليدي محاصرة بتقليدية المجتمع الذي ولدت فيه. فقد أنكرت القوى الثقافية الماضوية، حين ظهور «حديث عيسى بن هشام» للمويليحي في بداية القرن الماضي، في الرواية أمرين «شنيعين»: أولهما الكذب الصريح، على اعتبار أن المتخيل الروائي شكل من الكذب لا يمكن القبول به، وثانيهما التشبه بـ «أدب العوام»، الذي لا يعرف شيئاً من البلاغة المتوارثة والفنون الوعظية. وهذا الاتهام، الذي ينزع عن الأديب الهيبة والموهبة، هو الذي منع محمد حسين هيكل، بعد عقد من الزمن أن يضع اسمه الصريح على روايته «زينب». بعد عقد آخر من الزمن، تقريباً، جاء مصطفى صادق الرافعي، وهو يطلق سهامه على طه حسين، باتهام جديد، حين ساوى لغة الرواية بلغة الصحافة، وساوى بين اللغتين والتآمر على الموروث اللغوي العربي الأصيل. ومع أن العقاد حاول، مخفقاً، الكتابة الروائية، فقد هوّن لاحقاً من شأن الرواية قياساً بشأن الشعر، دافعاً الشاب نجيب محفوظ الى الرد عليه بلا مساومة. وقعت على الرواية، في الفترة الممتدة من بداية القرن الماضي الى منتصف اربعيناته، صفات: الكذب، الرقاعة اللغوية، التقصير عن الابداع الشعري، التشبه بـ «العامة»، التي لا تحسن الكلام الايقاعي الرفيع. بيد أن هذه الصفات، التي ميزت أنصار القديم من أنصار الجديد، لم تعوّق كثيراً من تنامي الكتابة الروائية، ذلك أنها وجدت في الطليعة الثقافية الفاعلة مدافعاً عنها، وعثرت في صحافة الأحزاب السياسية الوليدة على من يقبل بها ويدعو اليها. ظهر، في الحالين، قارئ جديد يلتحق بالقوى الثقافية، وفضاء سياسي يجمع بين الأديب والقارئ الجديد.
بعد منتصف أربعينات القرن الماضي، تراجع، كثيراً، تسفيه الرواية العربية، كما لو كانت قد انتزعت اعتراف الآخرين، أو قسطاً كبيراً منه. لكن هذا لم يمنع تصادماً مدوياً بين العاملين في شؤون النقد والأدب عنوانه: الواقعية، أو الخصام بين «الواقعيين» ورافضي الواقعية في النقد والرواية. كأن يواجه الناقد الواقعي رواية نجيب محفوظ برواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي أو أن يرفض حليم بركات الرواية المتفائلة بأخرى مغايرة، وصولاً، بعد زمن الى ادوار الخراط الذي نقض المنظور الواقعي برؤيا «الحساسية الجديدة». تميّز الصراع الجديد بأمرين: فهو صراع بين أطراف تدعو جميعها الى الكتابة الروائية وهو صراع، في الوقت ذاته، بين أحزاب سياسية اختارت الأدب موقعاً لمعركتها. نقف، والحالة هذه، أمام ظاهرتين: توليد القارئ الحديث من الفضاء السياسي، وعلاقة الكتابية الروائية بالحراك السياسي، كما لو كانت الرواية «تحزباً» سافراً أو مضمراً. تشكل هذه الملاحظات مدخلاً للتأمل في مواضيع «ندوة الرواية العربية»، التي عقدت نهاية الشهر الماضي، في باريس. ذلك أن في المواضيع المطروحة ما يستدعي الفرق المجتمعي بين حاضر الرواية وماضيها ويستعيد، في شكل مواز، أحوال الكتابة الروائية. والمواضيع الأساسية المطروحة يمكن أن تختصر الى ثلاثة: سلطة المتخيل الروائي، المجتمع الأبوي والكتابة الروائية، والجنس في النص الروائي.
ينطوي الموضوع الأول، نظرياً على الأقل، على الأبعاد التالية: التحرر من الزمان والمكان المعيشين والذهاب الى زمان ومكان بصيغة الجمع، تعبيراً عن شوق شديد الى معيش مختلف. والخروج من المعلوم واليقين، أو من المعلوم اليقيني، الى مجهول قيد الاكتشاف.
يتلو هذا تأكيد المستقبل زمناً أساسياً، لأن في المدينة الراهنة المكتوبة مدينة فاضلة محتملة، يذهب الانسان الحالم اليها ولا تأتي اليه. أما البعد الأخير فهو حلم الكتابة الفاعلة، طالما أن في المتخيل سلطة تواجه سلطات معيشية مغايرة.
حصارالإبداع
لن تكون أسئلة «المجتمع الأبوي» مختلفة، بسبب التعددية التي تلازم القول الروائي و»الأحَدية» التي تباطن العلاقات الأبوية. فعلى خلاف الأب – السيد، الذي لا يعترف بغيره، يستولد الروائي فرديات متنوعة يعلمها الكلام وتعينه على الكلام في آن. وبسبب هذا الاختلاف تكون الروائية حداثية ويكون المجتمع الأبوي «بُقيا» من الماضي، تعيش خارج الحداثة الكونية. أما «الجنس في الرواية» فيحيل على قمع لغوي ذاتي، يندرج في اشكال قمع مختلفة، تتضمن السياسي والاقتصادي والتربوي والروحي... وواقع الامر أن الفرق بين «اللغة المدرسية المهذبة» واللغة المعيشة المكشوفة مرآة لمجتمع منقسم عاجز عن الوحدة، ومرآة لدولة قاصرة، تعتاش على الانقسام والتجزيء والحلول التلفيقية.
في المواضيع الثلاثة السابقة كما في غيرها تتكشف الرواية العربية نقيضاً، على مستوى القول والمنظور، للمجتمع الذي سمح بولادتها ذات مرة. فهي تقول بالمتخيل في مواجهة سلطات تبارك التلقين والاستظهار، ترى في الحلم بدعة وفي الفضول المعرفي خروجاً على القانون. وهي ترفض المجتمع الأبوي الذي ينتج عسفه عقولاً وقامات وأسئلة واجابات متساوية. وهي تطرح موضوع الجنس دفاعاً عن حرية التعبير، التي هي مستوى في حرية أكثر تنوعاً، تضمن ازدهار الفردية الانسانية. في اختيار هذه المواضيع، تشير الرواية العربية اليوم الى الشروط الاجتماعية التي يحتاجها تطور وازدهار الكتابة الروائية، والى تآكل وتداعي هذه الشروط في المجتمع العربي الراهن. فالمجتمع الأبوي يعرف الهجاء والمديح ولا يعترف بغيرهما، مكتفياً بلغة من خشب لا تحتاج الى تعديل.
ولعل سيطرة «الآباء» المتصاعدة هي التي تحدد الفرق بين وضع الرواية العربية اليوم، ووضعها في طور التكوّن الأول وطور «الواقعية» لاحقاً. فقد كانت في الطور الأول علاقة اجتماعية في الصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث، بقدر ما كانت في طورها الثاني علاقة اجتماعية متحزبة في صـراع الأحـزاب المـختلفة.
تفضي الملاحظات السابقة الى نتيجتين: صعدت الرواية العربية في مرحلة صعود الفضاء السياسي، ودخلت في أزمة خانقة مع عودة «المجتمع الأبوي» المظفرة. ولهذا تبدو اليوم «علاقة غير اجتماعية»، بعد أن ذاب القارئ الاجتماعي في مياه الوعظ والخطابة. وتقول النتيجة الثانية: اذا كان الصراع السياسي – الايديولوجي السابق في أساس تطور الشكل الروائي، فإن تطوير هذا الشكل معهود به اليوم الى قلة قليلة من العقول المبدعة، التي تجمع بين الثقافة والوعي السياسي معاً.
لا غرابة بعد أن تلاشى القارئ الحقيقي مع الحوار الاجتماعي المتلاشي أن تتحول القراءة الروائية، كما كتابتها، الى خيار مغترب، تعرف حدوده دور النشر العربية بلا خطأ كبير. لا يدور السؤال حول وضع القراء كمّاً وكيفياً، بل عما يتجاوزه ويتخطاه. أي: تعطي السياسة للمجتمع شكلاً راقياً يقترب من الشفافية، يساعد الروائي على طرح القضايا التي يريد، على خلاف المجتمع الأبوي الذي ينتج سديماً اجتماعياً يعوّق الاسئلة والاجابات ويحاصر الإبداع.
فيصل دراج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد