نساء طهران يكسرن الصورة النمطية ويرفضن التنازل عن جرعة الحرية
مترو الأنفاق في طهران يعج بالناس في ساعات الصباح الأولى لكنه سريعاً ما يستعيد هدوءه ولمعان بلاطه بعد ساعة الذروة. أروقته لا تشبه أروقة أي مترو في العالم. لا ازدحام فوق العادة ولا ركض في كل الاتجاهات ولا حتى أوساخ في الممرات أو رسومات على الجدران. كل شيء فيه جديد براق كأن العمل عليه أنجز منذ لحظات. حتى المقصورة المخصصة للنساء ليست إلزامية كما في الباصات، وتترك لهن كامل الحرية في ركوب المقصورات المختلطة.
لكن كثيرات يفضلن الجلوس بجانب بنات جنسهن في التنقلات خصوصاً مع حركة البيع والشراء التي تشهدها تلك المقصورات. وما إن تقفل الابواب حتى يستيقظ عالم نسائي بالكامل. تخرج بائعة عقود وأدوات تجميل بألوان زاهية فتلتف حولها طالبات الجامعة والمراهقات فيما تتحلق نسوة أكبر سناً حول من تعرض قمصان نوم فضفاضة أو مناشف مطبخ. تعلو الاصوات والضحكات وتبدأ المنازلات على الاسعار والمفاضلة بينها حتى يبدو الانتقال من محطة إلى أخرى كرحلة في السوق الشعبي يوم المزاد. قبل إعادة فتح الأبواب تسوي النساء حجابهن بحركة يد سريعة وينطلقن إلى الجامعات والوظائف والأسواق حيث يكملن نهارهن جنباً إلى جنب مع الرجال. ويكفي أن ينسى الناظر للحظات المظهر الخارجي لتلك السيدات اللواتي يغلب عليهن اللون الاسود، ليبدو المشهد شبيهاً بأي محطة مترو في كبريات العواصم الغربية حيث النساء العاملات يحثثن الخطى للحاق بمواعيدهن.
وإذ يبدو حجاب الرأس الإلزامي أول مؤشر على وضع المرأة في الجمهورية الإسلامية لكنه لا يختزل قضاياها ولا طريقة حياتها ولا حتى همومها اليومية، بل لا يعدو كونه أحد أوجه الصورة النمطية والكليشيه الغربي عنها. فما أن تضع المرأة حجابها الذي يمكن أن يتراوح بين التشادور الاسود الذي يغلفها بالكامل أو الشال الملون الكاشف عن جزء من الشعر، حتى ينصب اهتمامها على كيفية الوصول إلى فرص متكافئة مع الرجل سواء في التحصيل العلمي أو المسيرة المهنية.
ومن يزور طهران لا يمكن أن يخطئ الحضور النسائي القوي. فالمرأة تطالعك كيفما التفت في المدينة. إن ذهبت إلى الدوائر الرسمية وجدتها، عاملة تنظيف أو رئيسة دائرة أو عضو برلمان. وإن زرت السينما رأيتها، على الشاشة أو بين المتفرجين، وفي الشارع تقود سيارتها الصغيرة أو تنقل الركاب في المواصلات العامة. على مداخل المجمع الرياضي الكبير شرق طهران، صورها العملاقة تملأ المكان... فروسية وكاراتيه وحتى سباق سيارات! لكن يبقى أن أكثر ما يرضي غرورها هي تلك الفكرة الشائعة عنها بأنها «أنثى جميلة وفي المنزل يبقى الأمر لها» حسبما تقول زهراء بفخر. تعمل زهراء مهندسة ديكور، وهي أم شابة لطفلين ومتزوجة من مهندس أيضاً. تقول «هنا لدينا دينامية خاصة بالأزواج والعائلة، فغالباً ما يكون الرأي الأخير للمرأة في قرارات مصيرية كثيرة». وتضيف ضاحكة «يعتقد الناس في الخارج اننا زوجات مضطهدات ورجالنا يضربوننا يومياً، لكنهم في الواقع يساعدوننا في أعمال المنزل وتربية الأطفال والتسوق». وتروي زهراء ما تعرف أنه سيثير الدهشة «إذا بكى ولد من الشائع أن يهرع الأب لحمله وليس الأم، لذا في المنتزهات مثلاً يمكننا تمييز الأجانب بسرعة لأنهم يتركون عبء الاطفال كله على الزوجات». وتوضح «هذا ليس من معالم الحداثة أو مفاهيم العصر الجديدة كما قد يعتقد البعض... إنه أمر راسخ في تقاليدنا ونشأنا عليه حتى يكاد يكون بديهياً بالنسبة إلينا».
وتعي النساء الإيرانيات جيداً الصورة المسطحة عنهن في الخارج، ولا ينكرن وجود تجاوزات بحقهن وعنف أحياناً «لكنها ليست أكثر من تلك التي تعانيها المرأة في بلدان أخرى».
والواقع أن تلك التقاليد والعادات التي جاءت زهراء على ذكرها لا تحمل المعنى نفسه الذي قد تحمله عبارة «عادات وتقاليد» في أي مجتمع آخر، حيث ترفق تلك العبارة غالباً بأوصاف منددة بها ودعوات للتخلي عنها. ذاك ان التقاليد في إيران «تقدمية» إلى حد بعيد، وتحمل من الحداثة ما لا تحمله مجتمعات «عصرية» كثيرة. فتعليم البنات بدأ منذ القرن التاسع عشر، وتأسست أول مدرسة نظامية للبنات أواخر القرن نفسه. وفي عام 1895 نشرت بي بي خاتون استارآبادي كتاب «معايب الرجال» الذي اعتبر أول إعلان عام لحقوق المرأة في إيران، واعتمد بعضه في دستور البلاد. وفي 1930 دخلت النساء الجامعات ونلن حق الانتخاب في 1963. وكانت المرأة الإيرانية لاعباً أساسياً في الثورة التي أطاحت بالشاه في 1979 ثم قوي عودها أكثر خلال الحرب العراقية - الإيرانية حين اضطرت لتحمل مسؤوليات كثيرة والاضطلاع بأكثر من دور داخل الاسرة وخارجها. واليوم، تشكل النساء ثلث العدد الإجمالي من طلبة الجامعات بما حدا البعض إلى المطالبة بفرض كوتا للرجال ليضمنوا لنفسهم أيضاً مقاعد دراسية بعد المرحلة الثانوية.
وقد يبدو غريباً للوهلة الأولى أن يكون الحجاب الذي فرضته الثورة هو من «حرر» فتيات كثيرات من أُسرهن المحافظة. ففي عهد الشاه الذي تمتعت به المرأة بكامل الحرية والحقوق تحفظت أُسر كثيرة دينية أو محافظة اجتماعياً عن السماح لبناتها باعتماد ذاك النمط الحياتي المفرط بالتحرر أحياناً. أما وقد جاءت الثورة منادية بما نادت به، وفرضت الحجاب زياً موحداً، تمتعت بنات العائلات المحافظة بحرية أكبر في الحركة وخرجت كثيرات للدراسة والعمل وانخرطن في الحياة العامة.
«لكن ذلك وحده ما عاد كافياً للمرأة العصرية اليوم» تقول زهراء. «فما صح منذ ثلاثين سنة لا يمكن أن يبقى صحيحاً اليوم أو بعد ثلاثين سنة أخرى». وتسعى زهراء التي تدرس الانكليزية في معهد «كيش» للهجرة مع عائلتها إلى كندا «حيث يمكن توفير مستقبل أفضل للاولاد» كما تقول، «وهي تبقى أسهل من أميركا!».
وفي المعهد الذي يحمل اسم جزر «كيش» وهي منطقة حرة للتجارة ولا تخضع للقوانين الإيرانية الصارمة، تتابع فتيات كثيرات دروساً في الإنكليزية من اجل تقديم أوراقهن للخارج بدافع الهجرة أو متابعة الدراسة.
فعلى رغم كل ما تحقق للمرأة الإيرانية خصوصاً مقارنة بدول الجوار، إلا أنها لا تزال تطمح الى أكثر من ذلك. وآخر مكتسباتها كان الحصول على حق حضانة اولادها حتى عمر السابعة في حال الطلاق، وجعل ديتها مساوية لدية الرجل. لكنها في نظر القانون تعتبر راشدة منذ التاسعة من عمرها، ويمكن تطبيق كل العقوبات عليها ومن بينها الإعدام في حال ارتكبت جريمة فيما الذكر لا يعتبر راشداً قبل الخامسة عشرة. ويضاف إلى الانتظارات التي تحملها المرأة الإيرانية لنفسها أنها غير مستعدة اليوم للتنازل عن جرعة الحرية التي ذاقتها خلال حكم الإصلاحيين.
فبنات الثورة متطلبات متكلفات لا يشبهن أمهاتهن كثيراً بل هن يبحثن عن أوجه إضافية لأدوراهن كنساء عصريات، ليس أقلها تأكيد الجمال والأناقة. وهن في سعيهن إلى إحقاق توازن بين الصورة التي تطلبها منهن الثورة وصورتهن الشخصية عن ذواتهن، يملأن الأسواق ومحال الماركات العالمية التي فصلت بدورها أزياءها بحسب حاجاتهن. وإذ تكتسح الأسواق البضائع التركية، إلا أنها تبقى في منافسة صعبة مع محال الماركات المزورة لعلامات تجارية فاخرة مثل «غوتشي» و»بيربيري» و»شانيل». لكن ذلك لا يعني أنه لا يمكن للمتسوقة المرفهة ألا تجد طلبها من تلك الماركات الأصلية في أسواق طهران. فهنا كله موجود وبسعره! وأكثر الأعمال دراً للأرباح صالونات التجميل وعياداته. فبنات طهران كيّفن حجابهن مع الموضة، وكيّفن تسريحات شعورهن مع الحجاب. فخصلات الشعر المنسدلة على الجبين غالباً ما تتلون بتواشيح حمراء أو شقراء، إن لم تكن مصبوغة بالكامل. كذلك ينسجم لون حمرة الشفاه الفاقع أحياناً مع طلاء الأظافر وما يمكن إظهاره من أكسسوارات. وتعرف بنات طهران أين يعتمدن الموضة وأين يلتزمن باللباس التقليدي الاسود. فللجامعة والعمل ووسط المدينة زي، و «للمولات» والمنتزهات وشمال طهران زي آخر. وهن يعرفن تماماً القوانين، ولكنهن يعرفن في المقابل كيفية الالتفاف عليها. لذا عندما توجه شرطية في الشارع ملاحظة لمراهقة على ماكياجها الصارخ، تقطع الشابة وعدا بأنها ستكون المرة الأخيرة، وتزيل بعضاً من حمرة شفاهها وتمضي. لكن الوعد لا يقنع الشرطية ولا يلزم المراهقة!
وقد تظهر قوة شخصية المرأة الإيرانية في أكثر من تفصيل في الحياة اليومية. في علاقتها مع الرجل مثلاً لا تتردد في أن تأخذ هي المبادرة وتقوم بخطوة أولى ليس بالضرورة أن تكون وقحة أو مبتذلة، وإنما هي خطوة تقرب مسافات لا يجرؤ الشباب على اجتيازها خوفاً من اتهامهم بـ «التحرش»!
ففي الحدائق العامة التي تعتبر المتنفس الأول للشباب قد تقترب فتاتان أو أكثر من مجموعة شبان ويطلبن مشاركتهم بتدخين «الغليون» (النارجيلة)، ليبدأ تعارف ثم مواعدة في أحيان كثيرة. وإذ تشكل الحدائق إحدى الفضاءات العامة القليلة التي تسمح بشيء من الخصوصية والاختلاط بين الجنسين، تقاوم اليوم الحركات النسائية قراراً يقضي بإنشاء أربع حدائق «للنساء فقط» في طهران. وكانت منذ فترة أنشأت حديقة «جنة الامهات» التي يمنع دخول الرجال إليها خلال الاسبوع. فتذهب النساء مع بعضهن أو مع الاولاد ويرتدين الشورت والاكمام القصيرة ويتركن شعرهن للهواء. وتنفصل الحديقة عن العالم الخارجي بصفائح اسمنت مرتفعة تحجب نظرات الفضوليين. لكن، وعلى رغم توق النساء للفحة حرية، إلا أن الحديقة لم تحقق الإقبال المرجو واضطرت إلى فتح أبوابها للرجال في عطلة نهاية الاسبوع. وتقول زهراء: «لا أحب أن ارتاد مكاناً للنساء فقط، ولا أشعر بالارتياح أن أخلع ثيابي لمجرد أنني بين بنات جنسي». وأضافت بغضب «الفصل بين الجنسين ليس من تقاليدنا! حاولوا تطبيقه ذات مرة في الجامعات وفشلوا... فكيف يطبقونه في الهواء الطلق؟». وإذ تشيح المرأة بنظرها بعيداً تعود وتقول بصوت متهدج «إذا كنا محجبات لا يعني أننا نشبه بقية نساء العالم الإسلامي!».
بيسان الشيخ
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد