ملاحظات حول مجلة «الآخر» لأدونيس
بعد «شعر» و«آفاق» و«مواقف»، وهي ثلاث مجلات بثت وعياً جديداً مضاداً، تأتي «الآخر» مجلة أدونيس الجديدة لترسم لنفسها دوراً حاسماً هو دور المغامرة بوصفها خروجاً عن الذاتية المغلقة، ورفضاً لتذويب المختلف، ومواجهة للذات والآخر. ولسنا في صدد استعراض ما كتب، والكثير منه بات معروفاً ومألوفاً، ولكن لنا ملاحظات موجزة تكشف حقيقة العلاقة بين الذات (المجلة وكتابها) وبين الآخر (أدونيس).
الملاحظة الأولى هي أن مجلة «الآخر» تختلف عن سائر المجلات التي تزعم لنفسها دوراً فعالياً لم تؤده، وليس بوسعها تأديته. زعمت إحداهما أنها بمنزلة الجامعة التي تثقف، ولكن نظرة متفحصة تدلنا على أنها لم تقرأ القضايا العربية قراءة جديدة، وليس لها دور إيجابي يذكر في الدراسات النقدية. مجلة أخرى عمّرت طويلا يخيل إليك أن مقالاتها العديدة من تأليف رجل واحد، يطل على العالم من ثقب إبرة، ويبتهج فرحاً لأنه اكتشف ما لا يُكتشف بطريقة «علمية». والحق أن مجلة «الآخر» مختلفة قياساً إلى هذه المجلات التي تقول كل شيء، ولا تقول شيئاً واحداً يغيّر الوعي السائد.
الملاحظة الثانية هي أن مجلة «الآخر» لم تنجُ من وضعية التشابه والتقليد. ذلك أن المقالات (ولا أقول الدراسات) التي بحثت في مسألة الفلسفة العربية من حيث تقليديتها أو إبداعها، كلها شبه متشابهة، ولا تقدم فكراً جديداً، وكأن هؤلاء الكتّاب يمتاحون من بئر واحدة، ويصدرون عن المألوف والشائع، حتى لو كان مألوفاً نقدياً. أين الجديد حين نتلمس في مقالاتهم صدى لما قاله آخرون، وإذا بهؤلاء ـ كتّاب مجلة الآخر ـ يستعيدونه ويكررونه، بشكل أو بآخر، وينتحلون لأنفسهم دور المغامرة، هذه الكلمة الصعبة التي تعني، في ما تعنيه، إضافة شيء جديد، ونقد التصورات الشائعة، كما فعل فلاسفة الأنوار، وكما فعل نيتشه وفرويد وماركس، وسواهم من الذين أخطأوا أو أصابوا، ولكنهم بكل تأكيد، أعادوا التفكير بكل شيء، بقطع النظر عن مدى صوابية أفكارهم؟ وكما أن أهل التقليد يقلدون الثقافة القديمة أو الثقافة الغربية (كما ورد في المجلة)، فإن كتّاب «الآخر» يستلهمون المناخ الحداثي العربي من غير أن يضيفوا فكراً أصيلاً إلا في بعض التفاصيل.
أدونيس دائماً
الملاحظة الثالثة هي تكرار اسم المايسترو/ أدونيس في معظم المقالات، وكأنه بعل الحضارة الأوحد، يخصبها بمفرده. الحق أن هؤلاء المؤلفين لم يبلغوا حد تمجيد أدونيس تمجيداً سافراً، كما فعل الراحل عبد الحميد جيدة في مجلة «مواقف»، ولكن تكرار اسم الشاعر يوحي بأشياء كثيرة. إنه يوحي بإشادة خفية متكررة في مجلة هو مؤسسها، وكان الواجب تجنب هذا المنزلق الخطير. إنه يوحي أيضاً بتتلمذ الكتاب في الوقت الذي يهاجمون فيه مبدأ التلمذة والاتباعية. فهل يسر أدونيس أن يكون كخالق ابن عربي الذي يتأمل نفسه في مرآة صورته النرجسية، وينتج خلائق/ أي مريدي الشاعر بلا غد؟ أما ينبغي عليه أن يكسر حدود النرجسية ويلاقي الآخر فعلاً لا وهماً؟
الملاحظة الرابعة وتتعلق بمقال كتبه أحدهم (أحمد دلباني)، وفيه يستعير مفرداته ومفاهيمه من القاموس الأدونيسي، ومن مناخ الحداثة الشعرية العام (قتل الأب الثقافي ـ البكارة ـ فكر يتصالح مع المعطى ـ المجهول...). ولعل القارئ المتبصر يدهش لمدى التطابق بين فكر أدونيس، والفكر السائد في المجلة، ولا سيما عند دلباني، فكأن الإبداع صورة مطابقة للذات الأدونيسية، وكأن القوم جماعة من التلاميذ يكررون ما يقوله المعلم، ولكن بأسلوبهم الخاص.
الملاحظة الخامسة ومدارها التعميم الذي يقارب حد التجريد. ذلك أن الكتّاب في المجلة تحدّثوا عن الفكر العربي، قديماً وحديثاً، على نحو غير خصوصي. وكان الأجدى، في رأينا، أن يكتفي المؤسس بمقالين يتناولان المسائل بشكل عام، ثم تخصص للمجلة دراسة أو أكثر تختص بأحد المفكرين تبين فيها إلى أي حد شكل المرجع الأوروبي مرجعاً يقينياً لا خروج عليه ولا إضافة. تلك هي المنهجية الواجب اتباعها بغية إقناع القارئ إقناعاً ملموساً وحسياً بصوابية الطرح ودقته. على أننا نستثني دراسة حورية عبد الواحد لأنها تنطوي على فكر شخصي، بل على تجربة شخصية، بعيداً عن العموميات.
مشروع نقدي
الملاحظة السادسة وهي على صورة أمنية. فمن رام المغامرة ونقد ثقافة السلطة ومواجهة الذات والآخر بعيداً عن رغبة تذويب الغير (أنظر إلى المؤلفين في المجلة كيف ذوّبوا أنفسهم في المدار الأدونيسي)، نقول من رام ذلك عليه أن يعيد النظر في كل شيء. طبعاً نحن نتحدث عن العدد الأول، ولم تصدر بعد أعداد تالية، ولكن هذا الأمر لا يمنع، بل يشجع على صوغ هذه الأمنية. فمن الواجب على أدونيس أن يرحب بدراسات تعيد النظر في إنتاجه نفسه. ألم يقل ذات يوم إنه لا يريد أصدقاء تابعين، بل يريد أعداء في مستواه؟! إن أوجب الواجبات ليكون الشاعر عظيماً، أو قل ليزيد عظمته قيمة، أن يقدم لنا مشروعا نقديا للحداثة الشعرية والفكرية التي باتت، عند بعضهم، صنماً لا يجوز المساس به. من ذلك أن تُعاد قراءة «الثابت والمتحول» بوصفه نتاجاً تختلط فيه حدود الثابت والمتحول حتى إن أشد الأفكار ظلامية تصبح عنده من متحولات التراث. من ذلك أيضاً أن يُعاد النظر في شعره، ولا سيما شعره المتأخر وقد أمسى نوعا من التوليد الذهني المحض. من ذلك أيضا وأيضا أن يُقرأ شعر زملائه قراءة جديدة: السيّاب، الماغوط، حاوي، وهلمجراً. إن العقل إذا تحرر لا يعفّ عن شيء، خصوصا أن تجديد الحداثة يكون بنقدها... وفي هذا الإطار، من الضروري إعادة النظر بالأحزاب والكتّاب اللبنانيين الذين يهاجمون الاستبداد، وهم أكثر الناس استبداداً، ويدّعون التقدمية وهم أكثر الناس رجعية...
هذا شيء من المغامرة التي نتمناها لمجلة «الآخر»، مغامرة نقد الذات أولاً، ونقد الحداثة في شتى مستوياتها. أما أن يقول أدونيس في الافتتاحية: «تصدر الآخر كأنها على موعد مع التمردات والانفجارات البهية التي كانت تحدس بها»، فأمر يفيد التلاعب بالكلام وركوب الموجة. ألم يقل سابقاً إن الدور الحضاري للعرب قد انقرض وانتهى؟ ألم يعمّم في كلامه على بيروت، ويصفها بأنها مدينة ميتة (بقطع النظر عن صوابية تحليله ودقته)، ثم يقول لاحقاً في احتفال الجامعة الأميركية بمناسبة منحه شهادة دكتوراه فخرية، إن بيروت هي المدينة العالية؟ إن جملة أدونيس في الافتتاحية ينبغي أن تصاغ على النحو الآتي: «تصدر الآخر كأنها على موعد مع التمردات والانفجارات البهية التي حاولت أن تمهد لها نظرياً (بشطب عبارة تحدس بها)...
وباختصار، إن مجلة «الآخر» أرقى مستوى من زميلاتها، والمأمول أن تقلب الأوضاع، وتنزع الهالة عن مثقفين منتفخين، يأخذون من هناك، ويوهمون الناس أنهم أنبياء جدد في الوقت الذي نراهم أكثر الناس إلغاء للآخر، حتى لو كان هذا الأخير أقرب الناس إلى «مهنتهم»، أي صناعة كلام، وليس صناعة فكر جديد. فإذا تم ذلك بتنا على يقين أن الآخر مختلف حقاً عن أدونيس، وليس صورة مطابقة له.
جان نعوم طنوس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد