معرض الخريف السنوي في دمشق.. كأني أخرج من مقبرة

08-01-2010

معرض الخريف السنوي في دمشق.. كأني أخرج من مقبرة

لا يستطيع المرء أن يكتم غيظه، وهو يخرج من البناء العريق لخان أسعد باشا بعد أن عاين التظاهرة الدوريّة التي تقيمها فيه وزارة الثقافة نهاية كل عام للفن التشكيلي في سوريا تحت عنوان «معرض الخريف السنوي».
ولا يسع المرء إلا أن يُجري مقارنات مشروعة بين حال المعرض الآن، وحاله قبل ثلاثين عاماً؛ والمقارنات بالتأكيد ليست لصالح سويّة المعرض اليوم، فلقد استطاعت البيروقراطية على مدى ثلاثة عقود تحويل هذه التظاهرة من مناسبة تتجلى فيها آخر وأعلى إبداعات التشكيل السوري، وتتهادى فيها لوحات حماد ومدرس وشورى وكيالي ونبعة وزيات وعلواني وأرناؤوط وعرابي وإسماعيل ومراد... إلخ إلى مرتع للهواة والمبتدئين وعديمي الموهبة! لوحة لماجد الصابوني
ومعروف أن المعرض العام السنوي في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت كان المختبر المتقدم للحركة التشكيلية وأسئلتها الملحة تلك الأيام من بحث في الهوية والإرث البصري للمنطقة، وطريقة الاستلهام المبدع منه، إلى العلاقة بالفنون الغربية وحداثتها واكتشافاتها وتقدمها، إلى التواصل مع الموروث الشعبي...إلخ.
وما نراه اليوم هو تماماً تخبط واجترار لا يملك سؤالاً ولا يجترح إجابة بالطبع، فالسائد في المعرض هو النظرة الواقعية الساذجة من جهة، والتوجه الفلكلوري لإرثنا الثقافي، مجبول ذلك بكم من الركاكة التقنية. كل ذلك يُجبر المرء على أن يسائل نفسه وهو يغادر الخان عن الاكتشافات الجديدة، والتجارب الهامة التي شدّته؟ وعن أية لوحة استطاعت أن تسمّّره لتأملها؟ وللأسف مجدداً لا تكون النتيجة إلا إجابات محبطة تماماً.
وللإنصاف فإن السوية الهابطة للمعرض ليست وليدة عام أو عامين، إنها نتيجة تراكم مديد «طردت فيه العملة السيئة العملة الجيدة»، على مدى عقود فقد زحف على المعرض وباطّراد الفنانون المتوسطون ثم الأقل فالأقل مرتكزين على العلاقات الشخصية والمحسوبيات الثقافية والسياسية والحزبية، وبالمقابل انسحب منه وباطّراد أيضاً الفنانون الحقيقيون. بحيث نجد اليوم وكأن هذا المعرض هو معرض في بلد آخر متخلف أكثر من بلدنا، ولفنانين آخرين لا يقارنون بفنانينا المجيدين السابقين والحاليين.
أما الأعمال القليلة اللافتة للنظر وأصحابها ذوي التجارب الشخصية المعروفة فهي للأسف تضيع تماماً في كم الركاكة، كلؤلؤة في نهر من الوحل.
-2-
قبل الدخول في تفاصيل المعرض لا بد من التنويه بنقطة إيجابية – ربما هي الأهم - في المعرض، هي توجيهه تحية للفنان الرائد محمود حماد، واستضافته للفنان نشأت الزعبي، أحد أهم الأسماء في جيل الستينيات، فلقد عرض للأول ثلاثة أعمال، اثنان منها من أثمن أعماله المعروفة بعمارتها المتينة، وصياغاتها المتقشفة في الاستيحاء من الحرف العربي. وعرض للثاني خمسة أعمال من شغله المسكون برهافته اللونية ومزاوجته بين إرث المنمنمات من جهة وتلقائية الأداء في الفنون الشعبية.
لم يكن مفهوماً أن يعرض لكل من هذين الفنانين عمل واقعي مدرسي! خارج تماماً عن سياق أسلوبيهما؛ إذ أن المجال هنا مجال تكريمهما، وليس مجال استعراض مراحل عملهما، فمكان ذلك هو المعارض الاستعادية كما هو معروف.
-3-
سألتني المسؤولة عن مديرية الفنون في وزارة الثقافة السيدة بكفلوني في افتتاح المعرض عن رأيي فيه، فقلت لها إن نصف الأعمال المعروضة ما كان يفترض أن تدخل قاعة العرض. والآن عندما أتذكر ذلك أشعر أني لم أكن منصفاً، إذ كان يفترض أن استبدل بكلمة: نصف، كلمة: ثلاثة أرباع.
في التفاصيل، وإذا رغبنا أن نجري جرداً للتوجهات، وللفنانين المشاركين في محاولة للاقتراب الملموس من المعروضات نجد مجموعة من الأعمال الواقعية المدرسية التي لا تغيب عن العديد منها النظرة السياحية للمنظر والتي تليق بمعارض المبتدئين ليس إلا (وبالطبع مع حفظ الفارق بين الفنانين وأداءاتهم المتباينة)، غير أننا يمكن أن ندرج في هذا السياق لوحات: ابراهيم داوود، أحمد البني، جمانة جبر، جهاد موسى، راغب حواضري، رانيا كعكرلي، سالم الشوا، عبد الكريم عزام، علي خليل، هيثم المجركش، عمر الشامي، غسان ديري، مثنّى المعصراني، فاخر أتاسي، قصي عيزوق، كروسليمان، وجيه مدور، محمود شيخاني، ناثر حسني، عماد جروة، والفنانون الأربعة الأخيرون معروفون بإمكاناتهم المميزة وخبرتهم، ويحار المرء كيف يجد لهم أعمالاً مثل تلك الموجودة في المعرض!
-4-
على نفس المستوى المدرسي المتواضع نجد مجموعة من الأعمال التي تلبس لبوساً رمزياً أو تحاول ذلك! أو تستوحي عناصر تراثية من منطلق تبسيطي (وأيضاً مع حفظ الفوارق في الأداءات) أمثال أعمال الفنانين: أحمد الأنصاري، اسماعيل أبو ترابه، الهام جبور، أكثم طلاع، محمد قره دامو، جمعة النزهان، الهام سليم، منير العبد، زهيرة الرز، شبلي سليم، عبد الفتاح العبد، عصام مأمون، عيسى هيشون، فايز عبد المولى، مجدي حكيمة، محمد الركوعي، محمد ديب المصري، مخلص الورار، مصطفى الضافي، ممدوح عباس، محمد قاسم خليف، سهام منصور، وليث قصاص، وليد الشامي، والأخير أحد الأسماء المعروفة بقدراتها اللونية، وتأليفاتها الشاعرية، والتي يحار المرء مجدداً فيما دفعه لتوقيع وعرض لوحته هذه.
أما اللوحة التي تبزّ كل هذه المجموعة، فهي عمل الكولاج للفنان أحمد الياس الذي ألصق مجموعة عملات عربية على سطح لوحته! وحشر بينها أسماء العديد من الدول العربية! وأكمل النقل بمجموعة زخرفات هندسية بين العملات والأسماء، وفي النهاية وككرزة فوق كل ذلك الكاتو أطلق على لوحته اسم: الحلم العربي!
-5-
حضور النحت (المتراجع تاريخياً في سوريا عن التصوير) يلفت النظر هذا العام، بغزارته النسبية، على رغم وجود العديد من الأعمال الهامة التي سيجري التنويه بها لاحقا، ووجود تجارب مميزة مثل أعمال جهاد عيسى، محمد ميرة، مصطفى العيسى...إلخ فإننا نسجل السوية المتواضعة لأغلب قطع النحت أمثال أعمال الفنانين: سهيل بدور، أيمن ناصر، أنور رشيد، سليم عكة، سعد شوقي، عهد القطان، فيصل الحسن، نجيب الجلبي، عماد رشدان.
-6-
المجموعة الرابعة هي لفنانين من أجيال مختلفة، من ذوي الأسماء المعروفة بسوية أعمالها، ورصانة أدائها، وتميزها الإيحائي والتقني، وهنا يمكن أن نذكر على سبيل المثال أعمال الفنانين: خزيمة علواني، خليل عكاري، غسان سباعي، سهيل معتوق، غسان صباغ، لبيب رسلان، نذير اسماعيل، مصطفى علي، عبد الله مراد، أحمد ابراهيم ...الخ
غير أن معظم (وليس كل) أعمال الفنانين تقع ضمن سياق عملهم المعروف منذ سنوات (أو أكثر كثيراً) ولا تشكل إضافة نوعية لتجاربهم المألوفة على أهميتها.
-7-
لا بد من التنويه بعدد من الأعمال التي تستوقف الزائر، والتي تشكل نفحة أوكسجين فيه، مثل لوحة الفنان ماجد صابوني، فهذا المصور المقل من جيل السبعينيات يعرض عملاً بهيّاً، يزاوج فيه بين متانة البناء ورهافة اللون. تلفت النظر أيضاً قطعة النحت المرمرية للفنان عبد الرحمن موقت برسوخها وانسيابية خطوطها وتقشفها. وأيضاً عمل (لوحة – رولييف) الفنان فؤاد دحدوح بأجوائه السوداوية وتشوهات شخوصه وشحنتها التعبيرية، على رغم أن دحدوح سبق وعرض ما هو أعلى من عمله الحالي. تشد الانتباه في المعرض أيضاً لوحة الفنان عبد السلام عبود (وهو اسم جديد غير معروف لكاتب السطور) بقوة الضبط التي تلحظ بين لمسات وبقع الرماديات وتوتر الخطوط السوداء. عمل الفنان عدنان حميدة تستوقفنا فيه جرأته وحيوية أدائه، وعمله على لون واحد مما يشكل تخطياً لأعماله السابقة المسكونة برغبة الإبهار! في الخزف عملان يستدعيان التنويه: قطعة الفنان شكيب بشقان بأناقة حساباتها ورسوخ كتلتها. وقطعة الفنان فواز بكدش بديناميكية الكتل المتراكبة فيها وقدرتها على مخاطبة العين من مختلف الزوايا، وإن كانت وحدانية اللون لم تماش حركية الكتل. أخيراً قطعة الحجر الصناعي للنحات محمود شاهين التي ينصهر فيها جسدان بافتتان وقوة وتوحد.
-8-
في نهاية هذا الجرد غير الكامل يتوجب تسجيل استغراب كبير تجاه عرض العديد من الأعمال التي تحاكي (أو تقلد) أعمال فنانين سوريين معروفين، ولا داعي للقول إن المعرض السنوي لا يجب أن يشجع استباحة إنجازات وابتكارات الفنانين المخضرمين، وهنا تحضرني لوحة الفنان عبد المحسن خانجي الذي يغرف من أعمال لؤي كيالي شكلاً وتقنية، كذلك عمل الفنان يحيى تويت الذي يكرر فيه تيمة وأداء الفنان خليل عكاري: الرمان. وأخيراً استيلاء الفنان اسماعيل الحلو على أجواء ومفردات الفنان الراحل أحمد دراق السباعي!
-9-
إن المعارض العامة اليوم، وربما التشكيل السوري برمته يعيش حالة غير مألوفة، يمكن تلخيصها بعدم قدرة (أو رغبة) المؤسسات على لعب الدور الذي لعبته تاريخياً، دور الداعم للفن وللفنانين الحقيقيين، مما أوصل المعارض العامة إلى ما هي عليه اليوم من ضعف وهزال، وذلك أن الفنانين المبدعين من مختلف الأجيال، بمن فيهم الجيل الأحدث سناً لهم وجود قوي، لكنهم يزهدون في العرض في معارض الدولة، ويترفعون عنها، كنوع من الاحتجاج غير المعلن على هبوط سويتها وعلى وضع أعمالهم إلى جانب أعمال هزيلة، وهذه المقاطعة نفسها تزيد من التدهور. علماً بأن المعارض العامة هي (أو يجب أن تكون) ميزان الإبداع التشكيلي في كل بلد. حيث أن عرض منجزات كل الفنانين يتيح فرصة ثمينة لتشكيل صورة بانورامية عن سوية التشكيل، كما يتيح الفرصة لإجراء المقارنات، وإثارة الحوارات الضرورية بما تشكله من حالة تحريض إبداعي ... إلخ.
من المسلّم به أن انسحاب المؤسسات الرسمية من الاهتمام الجاد بالفن التشكيلي يترك المجال مفتوحاً للصالات الخاصة، ولشروط السوق، والتي هي في كثير من الأحيان تبزّ بيروقراطية المؤسسات في مزاجيتها وانعدام المقاييس لديها، علماً بأن تلك الصالات ليست معنيّة أصلاً بالمعارض العامة لأسباب تسويقية معروفة.
إن هبوط سوية المعارض العامة، ليس إلا وجهاً واحداً من وجوه انسحاب المؤسسات، حيث أن ما يتوجب عليها في دولة مثل سوريا هو أكبر بكثير من مسألة تنظيم معرض سنوي أو اثنين؛ فاليوم لا نجد في بلدنا معارض (أو بيناليات) عربية أو عالمية تشكل نافذة للفنانين، والفنانين الجدد على وجه الخصوص، للتلاقح مع تجارب ورؤى وتقنيات فناني المنطقة والعالم! كما لا نجد مسابقات للفنانين الشباب في مجالات التصوير ولا النحت ولا الحفر ولا السيراميك ولا الفوتوغراف...إلخ مما لو حصل ضمن شروط النزاهة لشكل حافزاً هاماً لذوي المواهب لتطوير عملهم، ودفعهم إلى المكانه التي يستحقونها في المشهد التشكيلي. ولا نجد أيضاً صالات عرض احترافية لغرض المعارض الفردية٬ مجهّزة تجهيزاً لائقاً، تحتضن أعمال الفنانين وتزودهم بالفضاء الضروري للحوار البصري والفكري مع الذواقة أو الجمهور الأوسع منهم٬ وتشكل فضاءً موازياً للصالات الخاصة.
ما هو المأمول اليوم ضمن خارطة التشكيل في سوريا؟ هل يمكن الحديث على الأقل عن استعادة المعارض العامة لدورها وسوّيتها، وبهاء تجاربها وفنانيها؟ لا أعتقد أن هناك الكثير مما يؤمّل به هنا. وحالة التدهور الثقافي العام في حقول النشر والمسرح والموسيقى والسينما...إلخ نجدها في الحقل التشكيلي بأوضح صورها. لذا تبدو الصورة سوداء اليوم، وفي الغد (القريب أقلّه) سوداء أيضاً في غياب أية مشاريع حقيقية جدّية صاحبة رؤى وإرادات وأدوات للإحياء الثقافي. ونحن أبعد ما نكون عن استشراف أمل ما في آخر النفق.. ما لم تحدث معجزة ما « تحيي العظام وهي رميم» وليس جديداً القول إننا لسنا في زمن المعجزات.

يوسف عبدلكي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...