مسألة الأقلّيّات المسيحيّة في الشرق العربيّ
خلافًا لما قد يذهب إليه بعضُ أهل الفكر السياسيّ، ينبغي القول بأنّ مقولة الأقلّيّة، في قرائن التفكّر الفلسفيّ الرصين، تنشأ من الذهنيّة الطائفيّة التي تفرز الناس بين الأكثريّة والأقلّيّة. واليقين السائد أنّ الأكثريّة هي التي تنسلك في دائرة الحقيقة، في حين أنّ الأقلّيّة تجسّد الاستثناء والشواذ والاختلاف. فالمسألة، في عمقها، مسألةُ تفكير دينيّ توحيديّ إقصائيّ ينظر إلى الآخر نظرته إلى كائن مختلف يهدّد الوجود الفرديّ والتماسك الجماعيّ للأمّة. ولذلك ينبغي الإصرار على القول بأنّ مقولة الأقلّيّات هي مقولةٌ ابتدعها الفكرُ الطائفيّ، سواءٌ في لبنان وأوطان العالم العربيّ، أو في سائر أوطان التنوّع الدينيّ. ويسري منطقُ الإقصاء عينه على مجتمعات التنوّع العرقيّ والثقافيّ. أمّا في الحقل السياسيّ، فالأكثريّة والأقلّيّة مقولتان شرعيّتان تقتضيهما ضروراتُ مداولة السلطة بين الناس.
ومُبتغى القول إنّ الأديان، ولا سيّما الأديان التوحيديّة الثلاثة، ينبغي لها أن تعترف بأنّ محنة الإقصاء ناشبةٌ في أصول أنظومتها الدينيّة، ولو أنّ تطوّر العلوم الإنسانيّة وتبدّل الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة أفضى بالفكر الدينيّ التوحيديّ إلى مراجعة تصوّره للذات وللآخر. وهي مراجعةٌ نقديّة تتفاوت مقاديرُ أثرها الخلاصيّ بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. والانطباع الفكريّ العالميّ السائد يقتضي الإقرار بأنّ الفكر الدينيّ المسيحيّ، ولا سيّما في شقّه البروتستانتيّ الغربيّ، هو الذي بلغ المبلغ الأقصى في مسرى المراجعة النقديّة والانفتاح الهنيّ على الغيريّة. غير أنّ هذا القول لا يعني أنّ المسلمين لا يسعون سعيًا صادقًا إلى تجديد فكريّ جذريّ يصيب عمق البنية الدينيّة ويضعها في تفاعل مثمر مع وعود الحداثة البنّاءة. بيد أنّ سعيهم مقتصرٌ على النخبة المضطهَدة، وخصوصًا في مجتمعات العالم العربيّ.
والثابت حتّى اليوم أنّ الأديان التوحيديّة ما برحت تستحسن التفكير وفاقًا لمقولة الذات والآخر، الذات الساكنة في الحقيقة والآخر القائم على تخوم الحقيقة في أحسن الأحوال وأطيب المقاصد. هذا التصوّر التوحيديّ هو الذي ينشئ مقولة الأقلّيّة المتمايزة عن الجماعة. ولذلك، حين ينظر المرء في مسألة الأقلّيّات المسيحيّة في الشرق العربيّ، ينبغي له أن يعالج الأمر معالجةً تصيب عمق الذهنيّة العربيّة الإسلاميّة حتّى يستقيم الحلُّ في مستوى التدبير السياسيّ التاريخيّ. وجوهر الحلّ، في نطاق المقاربة الفلسفيّة العَلمانيّة المحايدة، يقوم في الاعتراف الصادق بأنّ الإنسان كائنٌ حرٌّ من كلّ انتماء، ولكنّه قابلٌ على الدوام للانتماء التاريخيّ. فالإنسان إنسانٌ قبل أن يكون مؤمنًا، أو منتميًا إلى عرق، أو قاطنًا في أرض أو وطن أو مدينة. وهو، من حيث انتماؤه الإنسانيّ الأوّل، يشبه جميع الناس في جميع الأقطار.
وأمّا الرداء الثقافيّ الذي يلتحف به الإنسان على وجه الضرورة، والرداء يحمل في نسيجه التحسّسات الدينيّة والمؤالفات الاجتماعيّة والمواطآت السياسيّة، فهو رداءٌ تاريخيٌّ يكتسبه الإنسانُ على توالي الأيّام من جرّاء أنماط انخراطه في البيئة الطبيعيّة التي احتضنته على سبيل الصدفة، لا على سبيل القرار الذاتيّ الحرّ. ومع أنّ العلوم الإنسانيّة المعاصرة غدت تؤثِر النظر إلى الإنسان في نطاق هذه الانتماءات، إلاّ أنّ المنطق الإنسانيّ الأصوب يقتضي التمييز بين الإنسان في انتمائه إلى الذات الإنسانيّة الواحدة والإنسان في انتمائه التاريخيّ الثقافيّ إلى الأمّة المؤمنة والعرق الخاصّ والأرض المستوية في الأنظومة السياسيّة.
هذا في النظر الفلسفيّ المحض. أمّا في النظر السياسيّ التاريخيّ، فيجب التمييز بين المقاربة الدينيّة لمسألة الآخر والمقاربة السياسيّة البحتة. في المقاربة الدينيّة ينبغي الاعتراف بأنّ هناك تآلفًا عظيمًا واختلافًا خطيرًا بين الأنظومتيَن الدينيّتَين المسيحيّة والإسلاميّة. وثمّة ائتلافٌ واختلافٌ بين المسيحيّين أنفسهم من ناحية، وبين المسلمين أنفسهم من ناحية أخرى. ومن المنطقيّ أن يعظّم بعضُهم الائتلاف حتّى الانصهار، وأن يسترهب بعضُهم الآخر الاختلاف حتّى الاقتتال. وفي جميع الأحوال، ينبغي الإقرار بأنّ للمسيحيّين تصوّرهم لله وللإنسان وللكون وللتاريخ، وهو تصوّرٌ يخالف في وجوه شتّى التصوّر الإسلاميّ. وليس ينفع الإنسان العربيّ أن تُكرهه الأنظومةُ الدينيّة الإسلاميّة على الانخراط في تصوّرها الذي تعتبره من أشمل وأرحب وأرفع التصوّرات. فالشمول محنة الأديان ومقتل الحرّيّات. ولقد آن الأوان لكي يعزف المسلمون والمسيحيّون عن إرادة ضمّ الآخرين وإلحاقهم والاستعلاء عليهم. وحده هذا الموقف المتواضع المعترف بالغيريّة كأصل للوجود الإنسانيّ يُبطل من دائرة التصوّرات الدينيّة مقولة الأكثريّة والأقلّيّة.
وأمّا في المقاربة السياسيّة، فالأمور لا تستقيم في إبطال مقولة الأقلّيّات إلاّ إذا قامت في العالم العربيّ مجتمعاتٌ مدنيّةٌ عَلمانيّةٌ تتيح لجميع المواطنين من مؤمنين وعلَمانيّين ولا أدريّين أن يعبّروا عن طرق تفكيرهم وطرق عيشهم تعبيرًا حرًّا يراعي أصول الانتماء إلى المدينة الإنسانيّة القائمة على الاعتراف بالكرامة الإنسانيّة الواحدة لجميع الناس. غير أنّ المجتمعات العربيّة ما انفكّت تسير على النهج العشائريّ القبليّ الموروث من القرون الوسطى. ولذلك انقلب الحديث عن الأقلّيّات من أبغض الحلال. ذلك أنّ الجماعات القاطنة في العالم العربيّ والموصوفة بالأقلّيّات تستشعر الخطر يداهمها، فتنتفض للدفاع عن ذاتها وخصوصيّتها في إزاء الفكر الأكثريّ الإقصائيّ التسلّطيّ. وقد تتسلّط على مجتمع عربيّ أقلّيّةٌ عرقيّة أو دينيّة أو قبليّة أو سياسيّة منفعيّة، فتتصرّف تصرّف الأكثريّة المستبدّة.
فالمسألة هي في أساسها مسألة الاعتراف بكرامةٍ للإنسان تتجاوز حدود الانتماء العرقيّ والدينيّ والقبليّ والحزبيّ، لتجعل له مقامًا حصينًا في داخل المجتمعات العربيّة. وفي ظنّي أنّ مقاربة فكر حقوق الإنسان لمسألة الأقلّيّات هي أفضل من مقاربة الفكر الدينيّ الإقصائيّ وأصدق من مقاربة العقل الاستعماريّ الغربيّ. ذلك أنّ فكر حقوق الإنسان ينظر باحترام فائق إلى الحقّ الفرديّ في التعبير عن هويّته الذاتيّة والجماعيّة. ولكنّه فكرٌ يضطرّ جميع الناس إلى العيش في حقل محايد من التفاعل الاجتماعيّ الحرّ. وهو تفاعلٌ لا يُبطل إمكانات التعبير الفرديّ والجماعيّ عن الهويّة والذات.
ومن مكتسبات فكر حقوق الإنسان أنّه فكرٌ يعتبر الهويّة والذات جوهرين يقعان في دائرة الحركة التاريخيّة والتطوّر الزمنيّ. فالهويّة الدينيّة ليست جوهرًا صلبًا متعاليًا على التاريخ لا تسري إليه أحوال الانفعال والتأثّر والنموّ والتطوّر. فالدين الإسلاميّ، على تنوّعه وحيويّته ورحابة مضامينه، ليس مماثلاً لذاته على توالي الأزمنة. والمسيحيّة، على تنوّعها وحيويّتها ورحابة مضامينها، ليست مماثلةً لذاتها على تعاقب العصور. وما الصياغات اللاهوتيّة والعقائديّة التي ابتكرتها الأديان سوى الدليل الصريح على مسرى التفاعل التاريخيّ الذي ألجأ الأنظومات الدينيّة إلى مصاحبة أحوال الناس ومرافقة اختباراتهم وتطلّباتهم وتطلّعاتهم. والناس لا ينفكّون يختبرون من الوجود وجوهًا وجوانبَ لا سبيل للدين إلاّ أن يتفكّر فيها ويتدبّر استدعاءاتها ويلاقيها بالمعنى الروحيّ الذي يلبّي توثّباتها وآمالها. ولذلك كانت مسألة الأقلّيّات مرتبطةً بأحوال الفكر الدينيّ الطائفيّ وناجمةً عن انعدام هذا الحقل المحايد من التفاعل الاجتماعيّ الحرّ الذي يراعي تلاقي الحرّيّات في مسعى أنسنة الإنسان العربيّ وإبلاغه إلى مستوى الرقيّ الحضاريّ الأسنى.
وخلاصة القول أنّ مسألة الأقلّيّات في الشرق العربيّ ستظلّ تثير القلق والتوتّر حتّى ينقضي أمرٌ من أمرين: إمّا أن تنقرض الأقلّيّات بتضاؤل عددها على طريقة الهنود الحمر، وإمّا أن يصيب الفكر الدينيّ العربيّ تحوّلٌ بنيويٌّ عميقٌ يخوّله الانتقال إلى مستوى التحضّر الكونيّ القائم في مكتسبات الفكر الإنسانيّ المعاصر. ومن علامات الارتداد في الفكر الدينيّ العربيّ أن يعترف بالاختلاف أصلاً، لا فرعًا طارئًا على الوجود، وأن يأتي مثلُ هذا الاعتراف مستندًا حصرًا إلى أصل الكرامة الإنسانيّة، لا إلى نصّ دينيّ توراتيّ أو كتابيّ أو قرآنيّ، وأن يقيم المدينة الإنسانيّة العربيّة على أساس التمييز بين أصول احترام الحرّيّة الفرديّة المطلقة وإخضاع مقتضيات التعبير عن الهويّة الجماعيّة للقيمة الإنسانيّة العظمى، عنيتُ بها كرامة الإنسان الفرد بكونه المرجع الأساس في تصوّر المعيّة الإنسانيّة. فالإنسان الفرد متقدّم على الأمّة. وهو عمادُها ومرجعُها ومعناها ومبرّر قيامها. وهذا كلّه يقتضي أن يتعزّز في المدينة العربيّة المقبلة حقلٌ محايدٌ من التفاعل الاجتماعيّ الحرّ بين الناس المتساوين في الكرامة المختلفين في الاختبار الثقافيّ، الدينيّ منه والفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ، بحيث تخضع مقولةُ الاختلاف لأصل المساواة، وتخضع مقولةُ الحقّ لأصل الحرّيّة، وتخضع مقولةُ الخير الروحيّ الأسمى لأصل العدل.
وأمّا إذا نظر المرء إلى واقع الحال العربيّة، فإنّه يُصدم بالحالة الاستبداديّة التي تمارسها الأنظومة الدينيّة والأنظومة السياسيّة الحاكمة. وحجّة العرب في ذلك كلّه أنّ عقلهم وتراثهم لا يطيقان الانضواء في شرعة حقوق الإنسان الكونيّة ولا يطيقان الاختلاف لأسباب شتّى. ولكأنّ للعرب عقلاً مختلفًا عن عقول سائر الناس. ومن أبرز هذه الأسباب أنّ العرب قومٌ متديّنون وأنّ دينهم، وخصوصًا الإسلام، لا يمكنه إلاّ أن ينظر إلى الآخرين من موقع الانتماء إلى الحقيقة الإلهيّة. هذا كلامٌ تقوله جميع الأديان، ومنها اليهوديّة والمسيحيّة وسائر الأديان التي تتصوّر الحقّ الإلهيّ في نطاق اختباراتها للكشف الإلهيّ. فلا ضير في ذلك على الإطلاق. غير أنّ واقع التنوّع الكونيّ يحتّم على الجميع الاعتراف بتنوّع الاختبارات الإيمانيّة وبشرعيّتها وبخصوبتها. فجميع الناس مقبلون إلى النور الإلهيّ إنْ هم صانوا كرامة الإنسان. وما من مانع يمنع العرب من استلهام الإسلام في التخلّق بالأخلاق الحميدة. غير أنّهم لا يستطيعون أن يحيوا اليوم في معزل عن الإقرار بتنوّع التراثات الروحيّة في نطاق المدينة العربيّة الواحدة.
ولا سبيل إلى ذلك إلاّ إذا فصل الناس بين الدين والسياسة، وذلك من غير أن يفصلوا بين أخلاقهم الروحيّة ومسلكهم الإنسانيّ. فليس كلّ ما في الدين صالحًا لأن يحياه الناس في المجتمع على وجه الإكراه والتظهير التشريعيّ والمؤسّساتيّ القاهر. فالفرد المؤمن حرٌّ في تدبّر كيفيّات ارتباطه الوجدانيّ بالحضرة الإلهيّة. ولا يظنّنّ أحدٌ أنّ الحقل المحايد الذي أتحدّث عنه سينقلب حقل الانحراف والرذائل والخطايا إنْ استقلّ في تدبيره السياسيّ التقنيّ عن أحكام الدين. فالاحتكام إلى شرعة حقوق الإنسان الكونيّة يضمن لهذا الحقل الحدّ الأدنى الضروريّ لصون الكرامة الإنسانيّة ولتلاقيّ الحرّيّات الخلاّق. وكلّ استئثار دينيّ توحيديّ للحقل الاجتماعيّ والسياسيّ هو تغليبٌ لمنطق الغلبة الماورائيّة الإقصائيّ.
والحال أنّ العرب ما زالوا اليوم ينفعلون بغريزتهم وعصبيّتهم وطائفيّتهم ومذهبيّتهم، عوضًا من أن يعقلوا بعقلهم. ولا شكّ في أنّ التفكّر العقليّ يقتضي الاعتراف بأنّ أفضل السبُل لبناء المدينة الإنسانيّة الرفيعة هو إبعاد المفاضلات الدينيّة عن الإدارة السياسيّة. فالدين يصقل الكائن المنفرد، والسياسة تتدبّر تلاقي الكائنات الحرّة. ولذلك كانت المجتمعات الإنسانيّة، ولا سيّما في الغرب، هي مجتمعات الاعتراف بالتنوّع الإنسانيّ الثقافيّ، الدينيّ والاجتماعيّ والسياسيّ. ومن ثمّ، عاد لا يليق بالإنسان العربيّ أن يرضى بأنظمة الشمول القاهر والتوحيد القصريّ والإقصاء العنفيّ.
أمّا المسيحيّون العرب، فهم من صميم الشرق العربيّ. كرامتهم من كرامة الإنسان العربيّ ومذلّتهم من مذلّة الإنسان العربيّ. ولكنّهم ليسوا جزءًا من الأمّة الإسلاميّة، بل الوثنيّون واليهود والمسيحيّون والمسلمون والعَلمانيّون واللاأدريّون المعاصرون هم جميعًا على السواء جزءٌ من الحضارة العربيّة الواحدة في لسانها والمتنوّعة في اختباراتها. وإنّي أرى الإنسان العربيّ في جميع الأوطان العربيّة على السواء ذليلاً، مظلومًا، مستغلاًّ، محكومًا ومقيّدًا عليه بالجهل والعبوديّة. وما من أنوار عقليّة حقيقيّة اختبرها العالم العربيّ حتّى اليوم بعد سقوط ابن رشد واندثار الفكر العقليّ الحرّ المنفتح على الغيريّة. ولست أرى عنوانًا صالحًا للثورة العربيّة الحقيقيّة سوى العَلمانيّة الهنيّة التي تضع الدين في دائرة الاقتناع الروحيّ الخاصّ، وتُفرد للعقل السياسيّ تدبّر شؤون المدينة الإنسانيّة بما يضمن لجميع المواطنين الاعتراف الشرعيّ بكرامتهم الفرديّة المطلقة ويعزّز صلات المشاركة الحقيقيّة في مواصلة بناء إنسانيّة الإنسان العربيّ.
مسير باسيل عون-أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد