مجازر الأرمن ذكرى ألم متجدد
لن أفلح بكل تأكيد في أن أعبر وبوجهة نظري عن الألم الذي كونته طبيعة المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الأرمني كوني من قومية أخرى, ولكن أجدني, وبطبيعة إحساسي الإنساني الذي أحاول دائماَ أن انتمي إليه قبل أي انتماء قومي, أوديني, أو طائفي, أو إثني فكل على حدى, ونشترك جميعنا بهذه الصفة الآدمية.
إلى ذلك الأرمني الذي قتل بيد سفاح تركي, أو كردي, أو عربي, أو أي سفاح آخر سامحنا على ما اقترفت أيدينا من بطش, وقمع, واضطهاد بحقكم ونرى أنفسنا أصغر من الاعتذار لهذا الشعب الذي قامت عليه القيامة, ولم تقعد فقط لأنه مختلف عن الأخر الأقوى, وكنا ضحية عقلية صوفية دينية إرهابية متخلفة, وخلقت مرجعيات متخلفة تسلقناها بكل سذاجة, وحاولنا اقتناء مفاتيح جنة الأربعين حورية فقط بقتل أرمني, أو تعذيبه.
استذكر مع الأرمن المجزرة الكبرى التي بدأت بتاريخ 24/نيسان/1915، حيث اعتقلت السلطات العثمانية ستمائة زعيم أرمني في اسطنبول, وقامت بتصفيتهم جسدياً, وقاموا بتسريح كل الأرمن المتواجدين في الجيش السلطاني, واقتادوا إلى الأعمال الشاقة, ومن ثم تمت تصفيتهم هناك, استذكر معهم صراخ تلك الطفلة التي حاولت أن تبكي لكن أخمص تلك البندقية الصدأة كانت أقرب من دموعها إلى عينيها فاردتها صريعة تتاوه من سكرات موت أحمق, وآلم يصرخ بأنين تقوم الدنيا, ولا يقعدها أحد.
ذلك الألم الذي اخترق الأذان كدوي صاعقة سماوية تتأوه من خجلها كل كلمات الأرض الصماء التي حاولت من خلال أنينها الأجوف انبثاق دمعة صغيرة قد تطفئ غليل الأيام القاحلة, وتشفي قليلاً جراحاً قد مل القدر من تأخر التئامها منتظرة الخروج من عزلة الصمت إلى علنية القهر, والعذاب, والألم الأخرس.
أنين ذلك العجوز الذي يتوسل آمة لإرضاعه قطرة ماء قد تنهيه من الوجود, وقد تعيد له الحياة لكن أبت طورانية العقل, وقذارة الأفكار أن تحن تلك الآمة على ذلك العجوز الهرم, وأبقته يحترق عطشاً, ويتألم أنيناً يستذكر أطفاله, وزوجه, وأحفاده الذين كانوا يحومون من حواليه يلهيهم عن آلام القدر, ومصائب الأرض, ويضحك ساخراً من القضاء الذي حل بهم جراء خلفية دينية متخلفة.
إلى تلك المرأة التي أبت أن تداس طفلتها تحت وقع حوافر خيل الجشع الإنساني, والغطرسة الفوقية, وتكالب وحوش البرية على أطفال لا يعلمون بعد إلى أي قبلة يتوجهون, وليسوا بشيء سوى أنهم أطفال حاولوا اللعب كغيرهم من أطفال البرية التي اعتادت الجري بأقدام حافية رغم انغراس آلاف الأشواك في تلك الأقدام الصغيرة, ولم تكونان تعلمان بأنها هي, وأمها ستكونان ضحية موت يصرخ من ألم الحوافر وأقدام الخيل الهائج.
إلى ذلك الذي تذكر معي يوماً ما كيف اقتادته العسكرية السلطانية إلى مكان قتله, وحاولت كل الجندرمة قتله خنقاً في ماء نهر صغير, ولكن حكمة الحياة, وقلبه الشجاع أبى أن يفارق الحياة إلا بعد سنين من هذه الحادثة التي رسمت في مخيلته معنىً آخر للحياة فكان يرى في كل يوم حلماً جديداً, وحياة جديدة قد انتزع أيامه منها عنوة, وهدم كل حواجز الموت المصطنعة, وخرج للحياة رغم أنف الطغاة, والقتلة المأجورين.
أقتل أرمنياً, أو عذبه تدخل الجنة, وبيت لك هناك لا تستطيع حمله كل ملائكة الأرض, والسماء ناهيك عن أربعين حورية, ومنزلة رفيعة مع القديسين, والصالحين فأي دين يبيح لك قتل بريء؟ وأي جنة يداسها قاتلوا الأبرياء, ومصاصي دماء الأطفال, والشيوخ, والنساء؟ وهل الجنة حكر فقط للقتلى, والمجرمين أم هي مكان لكل الأخيار, والنار, وفقط النار لكل من تسول له نفسه المساس بحرية, أو حياة إنسان آخر له الحق في الحياة, والعيش, والكلام, والألم بلغته, وقوميته, ودينه فأي جنون اجتاح هؤلاء البشر حتى انهالوا, وتكالبوا على أناس لم يكونوا سوى أناس غيرهم مختلفين معهم بالدين, أو القومية, أو أي انتماء آخر.
هذا الطريق الوعر المليء بالأجساد المقطعة, والرؤوس المحزوزة على أيدي جلاوزة الظلام تعيد إلى أذهاننا مجازر ارتكبت بحق إخواننا في الإنسانية و بذريعة أربعين حورية والجنة الخالد المخلد فيها فأية جنة هي إذا كان ثمن تذكرة دخولها قتل إنسانٍ بريء لا حول له ولا قوة؟ وذنبه الوحيد أنه إنسان أخر فقط يختلف معك وبكل تأكيد سيتذكر ذلك الأرمني آلماً جديداً في ذكرى هذه المجازر, وهذه الآلام التي لا يقف أنينها ولا تهدأ آهاتها ولا تندمل جراحها التي مل القدر منها محاولاً وأدها ونسيانها إلى الأبد. لكن! تبقى هذه المجازر ذكرى لآلم متجدد لا ينسى.
مسعود عكو
إضافة تعليق جديد