لو يكفّ “الأزهر” عن الإساءة إلى الإسلام!
قراءة النّص الدينيّ، وتاريخ الأزهر مع الاجتهادات، وكم صبّت أو تصبّ حقاً في الدّفاع عن الإسلام، أم تتسبّب بالإساءة إليه، سواء أكان الأمر عن وعي أم عن غير وعي.
في الإسلام، كما في سائر الأديان الأخرى، هناك تمييز قطعي بين العقيدة والشّريعة، بين ما هو ظرفي وخاضع للاجتهاد خطت تونس في الأسابع الأخيرة خطوة متقدّمة في تحقيق المساواة بين المرأة والرّجل في ميدان الإرث، وفي حقّ المسلمة أن تتزوّج من غير المسلم، وهي أمور جوهريّة تتّصل بحقوق الإنسان والمواطنة. ردّ الأزهر بشكل متوتر على اقتراحات المساواة هذه، واعتبرها مسًّا بالشّريعة الإسلاميّة، ورفض وضعها موضع التّطبيق، انطلاقاً من أنّ النّصوص الشرعيَّة، “إذا كانت قطعيّة الثّبوت والدَّلالة معاً فإنّها لا تحتمّل الاجتهاد، مثل آيات المواريث الواردة في القرآن الكريم والنّصوص الصَّريحة المنظّمة لبعض أحكام الأسرة” وفقا لما صرح به أحد النّاطقين باسم الأزهر الشّيخ أشرف عبد الحميد بتاريخ 21 – 8 – 2017. وذهب النّاطق باسم الأزهر إلى التّذكير بأنّ الأزهر هو حامي الإسلام منذ أكثر من ألف سنة، وهو “يقوم بدوره الدينيّ والوطنيّ الّذي ائتمنه عليه المسلمون عبر القرون، والأزهر وهو يؤدّي هذا الواجب لا ينبغي أن يفهم منه أنّه يتدخّل في شؤون أحد ولا في سياسة دولة مَّا”.
يستدعي موقف الأزهر من الإصلاحات في تطبيق بعض جوانب الشّريعة، كما موقفه المتشدّد من الاجتهاد نقاشًا وتفنيدًا لطروحاته. وفي هذا المجال، يفترض السّجال التّطرق إلى مسألة الشّريعة نفسها، وكيفيّة وتجاوزه وفق الظّروف، وبين ما هو متجاوز للزّمان والمكان. فالعقيدة بما هي الإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، إضافة إلى القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة الّتي يدعو إليها الدّين، إنّما هي أمور مطلقة لا تستدعي الاجتهاد والتّمحيص، منها مسائل إيمانيّة، ومنها مسائل تتّصل بدور الدّين في الهدية وتوجيه البشر نحو الخير. أمّا الشّريعة الّتي تتّصل بإدارة بعض الشّؤون الحياتيّة المتّصلة بحياة البشر، فهي قابلة للاجتهاد والتّجاوز إذا لم تعد متناسبة مع تطوّرات العصر وحاجات النّاس الفعليّة. إذا كانت قضايا العقيدة تتّصل بالإله، فإنّ قضايا الشّريعة تصل بالبشر. والشّريعة ليست من وظائفها “تصنيم” الدّين، فالدّين في خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمة الدّين. وهو تمييز جوهري لتعيين ما يمكن تعيله في الشّريعة وما لا يمكن تعديله.
الأساس في الإسلام، خصوصاً ما ورد في القرآن، يغلب عليه بشكل قاطع قضايا العقيدة، وليس أمور النّاس اليوميّة. وما نزل من تشريعات تتّصل بشؤون النّاس إنمّا كانت استجابة لحاجات نتجت عن توسّع الدَّعوة وعن ضرورة حلّ مشاكل النّاس. لذا كانت الآيات أو الأحاديث النبويّة تنزل لتفسّر أو تشرح أو تعطي حلولاً لمعضلات استجدَّت. وكثير من التّشريعات كانت تتلاءم مع المرحلة الّتي تنتشر فيها الدّعوة، وبعضها كان يكرّر ما كان قائما قبل الدّعوة، حيث كان يبدو مستحيلاً تجاوزه آنذاك. وفي ميدان الإرث وما ورد فيه من آيات، لم يكن خارج مألوف ما هو سائد قبل الإسلام مع بعض التّعديلات عليها، وكان الأساس فيها أنّ الرجل المتميز في تقسيم الميراث لصالحه، لكونه المسؤول عن تأمين حاجيات الأسرة وموردها الاقتصادي. انعدام المساواة آنذاك يمكن أن نجد له تبريرًا موضوعيًّا. أمّا اليوم، وقد باتت المرأة مساوية للرّجل في الإنتاج والعمل وإعالة الأسرة، فلم يعد للتّمييز من سبب. بل إنّ التّطورات الاجتماعيّة وحقّ المواطنة في المساواة بين الجنسين، تتغلّب على أيّ نصوص تشريعيّة، سواء وردت في القرآن أم في الحديث أم في اجتهادات الفقهاء. وهذا الموقف لا يمسّ بالإسلام دينا وعقيدة، بمقدار ما يعطي صورة حضاريّة عن مواكبة الإسلام للعصر ولحقوق الإنسان والمواطن. نخلص إلى أنّ الشّريعة نتاج بشريٌ، تخضع للتّغيرات والتّحولات وفق تغير المجتمعات وحاجاتها. على أي حال، لا قوانين موحّدة في المجتمعات الإسلاميّة حول قضايا الشّريعة، فكلّ مجتمع كان يكيّف التّشريعات وفق حاجات مجتمعه. بل إنّ الرّسول كان يسعى إلى عدم إغراقه بفتاوى عن حاجات المجتمع، وهو القائل للمسلمين “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.
في العودة إلى حجج شيخ الأزهر عن آيات تمتلك “قطيعة الثبوت والدّلالة” من قبيل آيات الميراث حيث لا اجتهاد فيها، يمكن طرح سؤال على الأزهر عن نظرته للآيات الواضحة في شأن قتل غير المسلم أو اعتباره كافرا ما يضعه في خانة مشروعيّة قتله. ألا تعتبر هذه الآيات على غرار آيات الميراث؟ وهل نصنفها آيات غير قابلة للاجتهاد ممّا يجعلها راهنيّة؟ ألا يعتبر الابتعاد عن التّطرق إليها من قبل الأزهر حجّة للتّنظيمات المتطرّفة في اعتماد هذه الآيات، غير القليلة في القرآن، لتبرير أعمالها باسم الإسلام، وأنّها تطبق ما هو وارد في القرآن، الّذي لا تقبل آياته الاجتهاد، وأنّ كلّ ما ورد فيه صالح لكلّ زمان ومكان؟ هذه أسئلة غير شكليّة، بل تطرح على الأزهر، الّذي يصرّ على كونه المدافع عن الإسلام، أن يعطي رأيا بآيات “القتال”، كما في آيات كثيرة لم تعد تتوافق مع شرعة حقوق الإنسان، من قبيل الرّق وقطع اليد وسبي النّساء، و”ما ملكت أيمانكم” وغيرها من الآيات الواردة في النَّص المقدَّس.
إنّ الإسلام في أزمة لجهة قراءة نصوصه ووضعها موضع التّطبيق. وإذا كانت قوى غربية تحاول إلصاق الإرهاب بالإسلام واعتبار هذا الإرهاب بنيويا، وهو اتّهام يغيب عنه جملة عوامل سياسيّة واجتماعيّة تتّصل بتطوّر المجتمعات الإسلاميّة وبدور أنظمة الاستبداد والديكتاتوريّة في المسؤوليّة عن العنف المنفلت من عقاله اليوم، على أنّ هناك مسؤوليّة خاصّة تطال الإسلام نفسه والقائمين عليه لجهة تقديمه وفهم نصوصه. تفتح هذه النّقطة على أحد شروط الإصلاح الدينيّ في الإسلام، والّذي لم يعد ممكناً التّهرب من مواجهته، هذه المسألة تتعلّق بقراءة النّص المقدّس. إذا كان التّمييز واجبا وقطعيّا بين الدّين في جوهره كعقيدة وقيم روحيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة، فإنّ سائر القضايا المتّصلة بتطبيق الشّريعة تستوجب قراءة تاريخيّة لهذه النّصوص. تقوم القراءة التاريخيّة على قراءة النّص في سياقه الزَّمني الّذي نزل به، وفي البيئة الجغرافيّة الّتي توجّه إلى القاطنين فيها، وإلى السّبب الحقيقيّ لنزول الآية المحدّدة. هذه المقاييس تسمح بقراءة موضوعيّة للنّص بما يحرّره من أحكام قطعيّة كانت لها ظروفها ولم تعد قائمة اليوم.
في آيات القتال، والمستخدمة في وجه الإسلام اليوم، لا يستقيم الرّد على الافتراءات ضدّ الإسلام من دون مراجعة هذه الآيات والإعلان صراحة أنّ الزّمن قد تقادم عليها، وأنّها نزلت في ظروف معينة خلال الدّعوة الإسلاميّة وما واجهته هذه الدّعوة من حروب، كان على القائمين بها، وخصوصًا الرَّسول، اللّجوء إلى العنف جوابًا على ما يواجهه المسلمون. ممّا يعني أنّ الأزهر ملزم بشرح ظروف هذه الآيات، وبالرّد على التّنظيمات المتطرّفة الّتي تستند إليها لتبرير قتالها، سواء ضدّ المسلمين أم غير المسلمين. إنّ تهرّب الأزهر من إخضاع النّصوص الدينيّة للقراءة التاريخيّة لا تصبّ في الدفاع عن الإسلام، بمقدار ما تدخل التّشويش حول ما هو جوهري في الدّين، وبين ما هو ظرفي ومؤقّت يجب الحسم في قول رأي بعدم صلاحيته لزمننا الرّاهن. أمّا إذا كان الموقف سيظلّ متصلبًا عند مسألة أنّ نصوصنا صالحة لكلّ زمان ومكان، وأن لا اجتهاد في النّص لأنّه كتب في اللَّوح المحفوظ ولا يمكن مسّ أي حرف منه، فإنّ الاتّهام بأنّ الإسلام يبرّر الإرهاب يصبح في محلّه، ولا يمكن الدّفاع عن الدّين بتكرار مقولات من قبيل أنّ الإسلام دين تسامح ومحبّة، وهو ضدّ العنف والتّكفير وغيرها من العبارات الّتي لا تكفّ ألسنة رجال الدّين عن النّطق بها، في وقت تنفذ أبشع المجازر بحقّ المسلمين ومن قبل المسلمين أنفسهم.
خلال الأشهر الأخيرة، شارك شيخ الأزهر أحمد الطيّب في جملة مؤتمرات: مؤتمر مكافحة الإرهاب، مؤتمر الإسلام العالمي، مؤتمر الحريّة والديمقراطيّة .. التَّنوع والتّكامل، قدّم في هذه المؤتمرات خطابات تكاد تكون واحدة في مضمونها. نفى عن الإسلام صفة الإرهاب أو التّرويج له، وأعلن أنّ الإسلام يقول بالمواطنة وهي أصيلة في الإسلام، وتحدَّث عن حريّة الاعتقاد الّتي يقول بها النّص القرآني، وألقى اللَّوم على الَّذين يتّهمون الإسلام بالإرهاب بأنّهم من الملحدين والمروجين للفلسفات الماديّة. واعتبر أنّ المشكلة تعود إلى “تجاهل الحضارة الحديثة للأديان الإلهيّة وقيمها الخلقيّة الرَّاسخة الَّتي لا تتبدَّل بتبدّل المصالح والأعراض، والنّزوات والشَّهوات..”، كما دعا إلى “اخضاع الخطاب الحداثيّ المنحرف لقراءة نقديّة عميقة تنتشل العقل الإنساني ممَّا أصابه من فقر الفلسفة التجريبيّة وخوائها..”. باختصار، يكاد شيخ الأزهر أن يحمّل التّطور الحضاري للمجتمعات، وعدم سيطرة الدّين عليها والتّحكم بها، مسؤوليّة الإرهاب. في كلامه دعوات صريحة لكي يتحمّل رجال الدّين مسؤوليّة إدارة البشر، وليس القوانين المدنية الّتي هي حصيلة التّقدم البشريّ. يحتاج الشّيخ إلى من يذكّره بأنّ السبب الرّئيس للحروب الدينيّة، سواء أكان في الإسلام أم في المسيحيّة، إنّما يعود إلى توظيف الدين في السّياسة، وسعي رجال الدّين ومؤسّساتهم إلى الهيمنة على السّلطة. وما يدعوه انحرافًا في الحضارة إنّما هو توصل المجتمعات الغربيّة، الّتي دفعت مئات الآلاف من الضحايا في حروبها الدينيّة، إلى فصل الدّين عن السّياسة، وقيام كلّ طرف بمهامه وضمن اختصاصه، وهي المسألة الّتي لا تزال مفقودة في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، والّتي تشكّل أحد شروط الإصلاح الدينيّ المطلوب بإلحاح في عصرنا الرَّاهن.
يقول شيخ الأزهر في كلامه أمورًا كثيرة متداخلة، يبدو فيها أنّه يهرب من ملامسة الموضوع الحقيقيّ في ما يخصّ الإسلام، نصوصاً وتراثاً، وما يستوجب المراجعة والتّخلي عنه، وما يجب التّمسك به والدَّعوة بإلحاح لالتزامه. بل يبدو في كثير من مقاطع خطبه كأنّه يتكلّم “خارج الموضوع”. وإذا كان يذكر، وبحقّ، في بعض أسباب الإرهاب النّاجم عن ظروف اجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق بالفقر والبطالة والتّهميش والسّيطرة الاستبداديّة، إلاّ أنّه يتجاهل أمورًا، منها ما يتّصل بدور المؤسّسة الدينيّة في تخلّف المجتمعات العربيّة، سواء عبر علاقتها الوثيقة مع أنظمة الاستبداد، أو من خلال نشر ثقافة الجهل والتّجهيل في صفوف الشّعب. ورد على لسان الشّيخ الطيّب ما يشير إلى دور المؤسّسات التعليميّة والتربويّة في مكافحة الإرهاب، لكن يجب تذكيره أنّ المدخل إلى ذلك يبدأ بتعديل المناهج التربويّة والدينيّة الّتي يعتمدها الأزهر نفسه، والّتي تتضمّن نصوصًا صريحة تدعو إلى التّكفير والتَّخوين ورفض الاعتراف بالآخر، ممّا يؤدي إلى شبكة أيديولوجيّة تبني جدرانًا من الكراهيّة وتؤسّس لحقن الطلاّب بكلّ ما يؤدّي إلى العنف والإرهاب.
تبقى كلمة حول دور الأزهر في حماية الدّين وتطويره أو تجديد خطابه. ليس في تاريخ الأزهر ما يوحي بدور تجديدي في الدّين، بل على العكس، وقف الأزهر ضدّ الاجتهادات ومحاولات الإصلاح الّتي سعى إليها رجال دين متنورون ومن خرّيجي الأزهر بالذّات، ورماهم بالارتداد وكفّرهم.. من قبيل مفتي الديار الإسلاميّة الشيخ محمد عبده والأفغاني والشّيخ علي عبد الرازق وطه حسين، ثمّ لاحقا محمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد وفرج فوده الّذي أفتى بقتله.. وغيرهم كثيرون ممّن دعوا إلى إصلاحات في الإسلام بما ينزع عنه الجمود والتّحجر والإقامة في العصور الجاهليّة. ولعلّ الأمثلة الحديثة دليل على رفض الأزهر لمحاولات الإصلاح، حيث خرجت دعوات من السّلطة السياسيّة والمؤسّسات المدنيّة إلى تجديد الخطاب الدينيّ وتنقيته من الشَّوائب، فكانت ردّة فعل الأزهر الفوريّة تنمّ عن الارتياب والرَّفض للدّخول في هذا المجال. بدا الأزهر متخلّفًا عن السّلطة السياسيّة بأشواط بعيدة. وأحد الأمثلة الفاقعة ما يتّصل بالطَّلاق الشّفوي، حيث يمكن لأيّ رجل، حاليًا، بمجرّد قول كلمة “طالق” لزوجته ليصبح الطّلاق أمرًا واقعًا. وهو أمر فيه من الاحتقار للمرأة ومكانتها ودورها ما لا حدّ له. دعا رئيس مصر إلى أن يكون الطّلاق في المحكمة ولا يصبح نافذًا إلَّا بعد قرارها. إنتفض الأزهر ورفض التّخلي عن الطّلاق الشَّفويّ، بل اعتبره مقدَّسًا ولا اجتهاد فيه. فهل تصبّ مثل هذه المواقف في خدمة الإسلام وصورته في الدَّاخل والخارج، أم تشكّل في جوهرها الإساءة الأكبر للإسلام من قبل مدّعي المحافظة عليه والمدافعين عنه؟
خالد غزال - أوان
إضافة تعليق جديد