كليبات سورية تكشف الوجه المزري لمجتمعاتنا
تحقيق ـ سعاد جروس :حديث الأغاني والكليبات الشعبية الجديدة من التي تعرضها قنوات فضائية عربية تعنى بترويج الغناء "الشعبي"، ليس بالمعنى الفلكلوري، بل بالمعنى الهابط للكلمة، كان محور نقاش، مجموعة من الشباب والمراهقين والأطفال بأعمار متفاوتة، جمعتهم مناسبة اجتماعية في إحدى القرى السورية. فاختلفت آرائهم حول أي تلك الكليبات أكثر إثارة ، ومن من المطربين هو الأجمل، أو أي الأغاني الأكثر تعبيراً عن مشاعرهم.
جريمة شرف
المدهش أن كل ما يظنونه مثيراً في الأغاني المصورة "الفيديو كليب"، يمكن أن يحرض المنظمات النسائية وحقوق الإنسان في العالم، على الدفاع عن الإنسان عموماً والمرأة بشكل خاص. فمثلاً أغنية "حوا" هي محط إعجابهم الشديد، ببطلها الدنجوان العاشق المخدوع الذي خانته زوجته مع شريكه الأجنبي، فالبطل رجل أعمال مغترب ولدى اكتشافه خيانة زوجته يقوم مع شلة قبضايات أو قتلة مأجورين بضرب الزوجة وعشيقها، حتى يسقط مضرجاً بدمائه، ليسحق رأسه حذاء الزوج المفجوع. أما حواء الساقطة، كان جزاءها القتل خنقاً بعدما باغتها الزوج في الحانة تراقص السكارى!!
إذاً نحن أمام جريمة شرف بامتياز، يبررها قول المغني في المحكمة: "الذي يريد أن يحافظ على شرفه يحافظ عليه أينما كان" إلا أن هذه الإشارة إلى الفارق في التعاطي مع جرائم الشرف بين المجتمع العربي والمجتمعات الأخرى، تفضح الصورة النمطية السطحية التي يحملها الشرقيون من العامة عن الغرب بوصفه مجتمعاً منحلاً لا يعرف معنى الشرف، حتى لو كان لدى الغرب العلماني من المحافظين والأصوليين والمتطرفين المتدينين ما يفوق ما لدى الشرق.
في أغنية"حوا" قد لا تفجعنا مصيبة المغني بخيانة زوجته، بل التحذير من جنس "حواء" عامة، بناء على نصيحة من أم لابنها منذ الصغر: حوا يللي قدامك قطعة صغيرة من جهنم/ بكره لما بتصير شب لا تقرب صوبا ولا تحب / !!!! هل المجال هنا يسمح باستحضار أغنية "لا تكذبي" لعبد الحليم حافظ وغناءه العذب الذي ارتقى بفجيعة المحب المخدوع، إلى مصاف الألم النبيل، مكتفياً بمكاشفة الحبيبة كحد للقطيعة، بين إنسانين حرين ندين، لا سطوة أو سلطة لأحدهما على الأخر ليسحق رقبته باليد أو فعس رأسه بالحذاء.
تفنن ذكوري
"سيديات" هذه الكليبات، ، تحتل مكاناً واسعاً على أرصفة الأحياء الشعبية في دمشق وسائر المدن السورية. فإذا استفسرنا من البائع الفتي عن أغنية "حوا". سوف يقول لنا فوراً أنها لربيع الأسمر، ويتابع بنشوة: "انه صوت" أي صوت يجمع الطرب والفن والشبابية معاً، حقيقة علينا التسليم بها، طالما سلمنا بالصمت عما يحدث حولنا في المجتمع. هل ثمة مجال لمناقشة المعجبين بهذا الغناء الذكوري حول المنطق اللا إنساني الذي يروجه؟ لا نبالغ إذا قلنا سيبدو كلامنا فذلكة بلا معنى، لأن ذلك المنطق هو منطق المجتمع الذي نعيش ضمنه، المجتمع؛ الذي ما تزال غالبيته تبرر جرائم الشرف، ولا تقيم حداً يفرق بين الرجولة والقوة الجسدية، أو بين الشجاعة وبين الخروج عن القانون، وبين الذكاء وبين الفهلوة...إلخ، وبالتالي يغدو مبرراً أن يبدأ كليب "أبو شحادة" للمطرب علي الديك، بلقطات لعناوين صحف تتناول أنباء قيام "عصابة علوش" بخطف سلمى بنت المختار في ليلة الزفاف، وعلوش هو ذاته المطرب الذي يتوعد أبو شحادة بأنه سيجعله يكره ثيابه،كما يتوعد الكون أجمع بالخراب إذا لم يتزوج سلمى!! ومن حسن الطالع انتهاء الكليب بحل الأزمة علوش بموافقة سلمى على الهروب معه، ومنع حدوث ما قد يثير أزمة دولية، فيما لو وصل شريط كليب تهديدات علوش الى قنوات الأخبار وشاهده صقور الإدارة الأمريكية، حينها من يضمن أن لا تتحول الجيوش الدولية من مغاور تورا بورا، إلى مجاهل كليب "أبي شحادة" للقبض على الإرهابي المغرم علوش حياً أو ميتاً. ذلك من حسن الطالع أما سوءه يكمن في تشابه مشاهد العنف في الكليبات السورية الشعبية، الى حد بعيد مع مشاهد التشبيح و المشاجرات وأحداث الشغب التي شهدتها عدة مناطق ريفية في سورية خلال الأشهر الأخير، وكذلك مشاهد مطاردات المزمنة في المناطق الحدودية .. إلخ !!
ولا يقتصر الأمر على الواقع السوري، بل أن بعض ما ينشر في صحافتنا العربية عن جرائم القتل والسرقة في بقاع عدة من البلاد العربية، تشبه قصص الكليبات المصورة، فهل ثمة رابط؟ سؤال ينبغي على الأقل أن لا يغيب عن بالنا! أمام مد الكليبات التي تروج العنف حتى السادي منه تحت عناوين غرامية، كالأغنية الوحيدة للمطرب اللبناني عزيز عبدو"ولعت النار" حيث يظهر المطرب بداية في البانيو عبر مشاهد غير الحميمة مع البطلة، التي ستنتقم وتعذبه بأدوات جلد وكي وهو مشدود الى كرسي، قبل أن تمن عليه بقبلة حانية على الجبين المهشم!!
إذاً هكذا تفاجئنا كومة الكليبات الرائجة، بنسخة مخبأة للمجتمعنا ، كتلك التي يخبئها محرك البحث غوغل في صفحة نتائج البحث، وبقدر ما هي مبذولة بقدر ما هي مجهولة، ربما بسبب قناعتنا بأنها لا تشكل ظاهرة، باعتبار أن ما لا نقر بوجوده غير موجود؛ نسخة مخبأة تُنمذج مجتمعاتنا عموماً، وبالوقوف عند الكليبات السورية الشعبية سنكون في مواجهة مع واقع الشباب المهمش في المناطق الريفية النائية، وفي مدن الصفيح، أو ما نحب تسميته بمجتمع القاع. ويكاد الأمر يلتبس علينا في تحليل تلك الكليبات ومدى تأثيرها في الأوساط الشعبية في سوريا، فيما كانت أحد تمظهرات مرحلة انحطاط عام، من حيث تدهور مستوى الوعي الفني والجمالي والأخلاقي، أم أنها ليست أكثر من ظاهرة طارئة، أو مفرزات ظواهر اجتماعية مستديمة، وبالتالي ترى هل يكشف انتشارها عن مدى استفحالها، أم درجة تجذرها، وربما كلاهما معاً؟
فتازيا تاريخية
لنراقب بتمعن غرائب كليب "قالولي بيك شاويش" عدا استخدام العاشق الرصاص والقنابل لتليين قلب الشاويش والد المحبوبة، لنلاحظ الخلطة الفلكورية العجيبة: البطل المزنر بالخرطوش يرتدي الزي العسكري الفرنسي في العصر الكولونيالي، فيما ارتدى الشاويش وحرسه زي العسكر الفرنسي في القرون الوسطى، قصر الشاويش ديكور لآثار رومانية، الراقصون يلبسون أزياء مزيج من العسكرية والمدنية، البطلة تتمايل تارة بفستان قصير جداً، وأخرى بجينز آخر صرعة مع سيارة فارهة وسط الآثار والعسكر، فانتازية تذكرنا بموجة الدراما التاريخية التي ابتدعها نجدت أنزور واجتاحت الإنتاج التلفزيوني السوري لسنوات، كما تجتاح اليوم الفانتازيا الشعبية الأغنية السورية، بعدما افتتح عهدها الميمون المطرب علي الديك بأغنية "الحاصودي". وحينها تصدى بعض المثقفين للدفاع عن ظاهرة "الديك" بمقولة إنعاش ذاكرة الريف، لا الريف نفسه!! على أن الذاكرة لم تنتعش، مجرد أن أبناء الريف تطاولوا على فلكورهم والطبيعة الخلابة، والفن طبعاً، واستنسخوا الرداءة من الجمال.
كليبات فقيرة للفقراء
لا نضيف جديداً، إذا قلنا بأن الكليبات "الشعبية" تعاني من فقر إنتاجي مدقع بالمقارنة مع نظيرتها التي تنتجها كبرى شركات صناعة النجوم، فالبذخ على تقنيات الصورة، يخلق مشاهد بصرية خلبية آسرة تُضيِّع الصوت والمعاني مثل الكليبات الساحرة لنانسي، وكليب "بدي عيش" لهيفا الذي يقدم صيغة تشكيلية سوريالية تغطي على ضعف الصوت. بينما الكليبات "الشعبية" ينتجها مطربون محليون جداً بهدف الانتشار الفضائي، تتحايل على فقر الإنتاج باستغلال جمال الطبيعة، لكنها تعجز عن تأليف صورة بصرية تستر نشاز الموسيقى وسخف الكلمة وقد تقضي على فرصة ظهور جمال الصوت الذي يتمتع به كثير من أبطال تلك الكليبات، ليؤدي الكليب هنا عكس المطلوب، بالإضافة لكونه عاملاً بصرياً مخرباً، يعتمد على الإسفاف في استنهاض القيم الاجتماعية المتخلفة، بزعم محاكاة الوعي الشعبي البسيط، وكذلك العزف على وتر اللهجة المحكية كعنصر فلكلوري تارة وكعنصر كوميدي تارة أخرى.
غفوة رقابية
المأساة فعلاً، غياب الرقابة عن سوق هذا النوع من الإنتاج الفني، وانتشار الأقراص الليزرية المنسوخة، بأسعار زهيدة جداً، ما يساهم في تعميم ثقافة التسخيف والتجهيل.
وللعلم هذا المستوى من الانحطاط الفني ليس جديداً على مجتمعنا، لكنه كان غالباً حكراً على علب الليل. المصيبة اليوم، انه استفاد من ثورة وسائط الميديا ليحتل مكاناً على الشاشة الصغيرة في عقر دار الأسرة العربية "المحافظة"، عبر قنوات عربية تتسابق إلى التوالد في السنوات الأخيرة، تنشط في إنتاج وترويج الفن الرخيص في العالم العربي، في أسوأ استغلال لحالة الخواء الفكري والثقافي التي تعيشها مجتمعات مقهورة ومهمشة. والمتابع لتلك القنوات يذهل من بذاءة وتفاهة متابعيها التي تنضح من شريط رسائلهم ومحادثاتهم، فنقرأ: / أنا مطلقة ... بحاجة من يواسيني/ عمري 14 عام بيضاء البشرة/ أارغب في ـ كلمة نابية ـ هيفا ونانسي عجرم واليسا/ من الأرملة ... وين الشباب !!
من الصعب جداً فهم حقيقة ما يجري في معمعة هذه الفوضى، ولماذا يغض الطرف عما يجري من تشجيع للجهلة والسماسرة وتجار الرق على الاعتداء السافر على الفن والثقافة والتراث، وترك الساحة الشعبية لهم يملؤون الفراغ الذي تعيشه الناشئة في المجتمعات المقهورة، ليصعد منطق الغابة والقوة والعصابة والقتل واحتقار المرأة والإنسان ... إلخ تحت غلالة الطرب والغرام والعنف إلى حد الجريمة؟.
الجمل
إضافة تعليق جديد