قول في منهج المناظرة في الفكر العربي الإسلامي
نرى أن الحديث عن منهج المناظرة في الحضارة العربية الإسلامية يقتضي بدءا تعيين المقصود من مفهوم المناظرة عند أهل الاختصاص. ولئن كان قد تبين في دراسات عديدة(لاسيما دراسات الباحث المغربي البازل حمو النقاري كمنطق الكلام والمنهجية الأصولية... ) موقف فلاسفة الإسلام من الصناعة الكلاميّة من خلال اعتبارها منهجيًّا ومضمونيًّا متهافتة، مسلوب عنها ما يوصف به العلم البرهاني، ومنطبق عليها ما تتسم به الأساليب المموهة المضلة. فإنّنا في هذا المقام سندلل على أصالة المناظرة كمؤسسة للفحص العلمي في الحضارة العربية الإسلاميّة، مع العلم أنّ علم الكلام يمثل أعلى درجة في التقيد بمسلكها (علم المناظرة العقدي) واضعين نصب أعيننا شموليتها وانطباقها على أغلب المعارف الإسلاميّة (في الأدب نتحدث عن النقائض، في الفقه عن الخلاف... بل وتصل أهميّة المنهج التناظري إلى التّفاعل بين أهل العلم من قطاعات مختلفة كحال مناظرة أبي سعيد السيرافي اللّغوي لمتى بن يونس القنائي المنطقي).
يحبل التراث العربي الإسلامي بزخم الدراسات الّتي انشغلت بمسألة التّناظر والجدال ممّا يجعلنا نقف على مسميات كثيرة تصل أحيانا إلى حدّ التباين والتمايز (علم المناظرة، علم آداب البحث، الخلافيات، علم الجدل، الحجاج..). ولعلّ إهمال المناظرة كقطاع غنيّ في ثقافتنا راجع إلى الفصل التّعسفي بين الفلسفة الإسلاميّة وعلم الكلام، تتوسّل الأولى بالمنطق حيث يتوسّل الثّاني بالجدل، فتقع المفاضلة العكاظيّة على أساس ادعاء برهانيّة الفلسفة وجدليّة الكلام وسمو البرهان عن الجدل. لذا يتوجب النّفاذ إلى مطاوي الممارسة المناظرتيّة للخروج من عمه إرسال الأحكام على عواهنها، إمّا أصالة عن حدوس لا يقيدها النّظر العلمي، وإمّا قياسا على قوالب وشرائح أخرى غريبة كلّ الغرابة عن بيئتنا الفكريّة.
ما فتئ الحوار العاقل يبدأ بالبراءة من دوافع اللاّعقل (الانغلاق، التّعصب، العنف، القمع...) والاحتفاء بقيم التّسامح والحقّ في الاختلاف والرّغبة في الوصول إلى الحقيقة عبر تنسيق الأنظار الفرديّة في ضوابط مسلكيّة يرتقي بها المعقول تدريجيًّا.
وهذا ما انتبه إليه مبكرا النّظار المسلمون في تقعيدهم لطرائق الجدل وأساليب المباحثة. كذا أمر غالب الأدلة على تعريفهم للجدل وبيان المبتغى منه.
يذهب الجويني أبو المعالي إلى عدم الفصل بين المناظرة والجدال وإن فرق بينهما من حيث الاشتقاق اللّغوي(1)، فبعد إيضاح فشل التعاريف في اقتناص دلالة الجدل (المناظرة) يقول: “والصحيح أن يقال: إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة، أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة”(2).
وفي ذات السياق يرى الباجي أبو الوليد أنّ “الجدل تردد الكلام بين اثنين قصد كلّ واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه”(3)، وبنبرة المشدّد على فوائد الجدل يضيف “وهذا العلم من أرفع العلوم قدرا وأعظمها شأنا، لأنه السبيل إلى معرفة الاستدلال وتمييز الحقّ من المحال، ولولا تصحيح الوضع في الجدل لما قامت حجّة ولا اتّضحت محجّة، ولا علم الصحيح من السقيم ولا المعوج من المستقيم”(4). إنّ الجدل كعلم “قانون صناعي يعرف أحوال المباحث من الخطأ والصواب على وجه يدفع عن نفس النّاظر والمناظر (المعلل والسائل) الشّك والارتياب”(5).
وبناء على هذه التحديدات الاصطلاحيّة تكون المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النّسبة بين الشيئين إظهارا للصواب، إذ من المتعذر أن يحيط المرء بكل المعارف وأن يصل إلى منتهاها بجهده وحده، ممّا يتطلب إسهام العقلاء في بنائها، وهذا ما أشار إليه طه عبد الرحمان بمصطلح المعاقلة الّتي كانت تسدّ في الفكر الإسلامي القديم مسدّ العقل في التراث اليوناني(6).
يفيد الجدل عند الأصوليين اليقين، إذ اعتبر وسيلة مثلى لتصحيح الآراء والمذاهب وتنقيحها من الشوائب، وبذلك يختلف عن جدل أرسطو الّذي قصر ثمرته على الظّن فقط(7)، وكذا عن جدل أفلاطون الّذي قيده بطرف واحد من أجل تمثل الحقائق(8). ومتى ثبت ذلك، تماهى مع منطق البرهان إضافة إلى منطق الرجحان الّذي يقوم على مفهوم النسبية (الجدل يشتمل على القطع والتّرجيح) ومراعاة الملابسات الخارجيّة(9) (يكون التّرجيح حيث لا قطع وذلك لتغليب الظّن ويقع عادة عند التعارض في الأدلّة)، ولعلّ ما يبرز وجاهة يقينية المناظرة هو انتهاء المشتغلين بالمنطق الحديث إلى إعادة الاعتبار للمكونات التداوليّة (المتكلم والمخاطب والسياق...) في تمييز الصواب من الخطأ والتحاج عامة.
من المعروف أنّ علم المناظرة (آداب البحث) فرع من إطار عام هو النظر المتضمن أيضا للخلافيات وأصول الفقه(10) (الجدل لا يتعلق بموضوع خاص، بل قابليته للتطبيق على أي من الموضوعات مسألة بديهيّة، صحيح أن الجويني في كتابه “الكافية” يجعل من الفقه وأصوله مادة للجدل، لكن تعريفه له “إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي” لا يقيده بموضوع مّا)، وقد رسم ابن خلدون معالم هذا العلم ومسوغاته وغاياته في “المقدمة”، فكتب “فإنّه لمّا كان باب المناظرة في الردّ والقبول متّسعا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الردّ والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوصا منقطعا، ومحلّ اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه إنّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال الّتي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره”(11). المناظرة أو الجدل في ارتباطها بالنظر الواجب بالشرع والمؤدي إلى العلم تصبح من أوكد الواجبات (ما لا يتوصل إلى الواجب إلّا به فهو واجب). وطبيعي أن تنعقد المناظرة الموسومة حميدة لإجابة مسترشد أو تنبيه غافل أو دفع غلط، أمّا المناظرة المذمومة فتبتغي التعالي والغلبة وحبّ الظهور(12) (جدل محمود هدفه إماطة اللّثام عن الحقيقة، وجدل مرفوض يشكل العناد ضالته).
وتبعا للقسمة السابقة تدخل المناظرة المفيدة في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إذ يطالها ما يطال الفعل التكليفي من أحكام شرعيّة (وجوب، ندب...)، ممّا يدل على أصلها التعبدي وصدورها عن أدب إسلامي أصيل هو “خشية الله”(13).
إنّ التقنين لصحة النظر في مجالنا التداولي تجاوز صبه في تأليف معلوم وقالب مخصوص إلى الوقوف على المقومات الأدبيّة والخلقيّة والمعنويّة والمميزات اللّغوية. وقد بلغ المسلمون قديما درجات عالية في استبطان وتمثل هذه العناصر القيميّة حتّى إنّهم جعلوا من الآداب المعتبرة في البحث أن يتمنى المناظر لو ظهر الحق على يد محاوره.
هاهنا ملاحظة متعلقة بإثبات وجود المناظرة طبعا وشرعا. فهي ميل طبيعي في الإنسان لإظهار الحقّ بالدليل، ومادام أنّ “بنية الكلام حواريّة، وبنية الحوار اختلافيّة”(14)، فإنّه على قدر الاختلاف تتطور المعارف الفلسفيّة والعلميّة (تناسب طردي)، ذلك أن الوجود الإنساني يغتني بالاختلاف لا بالتنميط وفرض الرأي الواحد(15). أمّا شرعيّة الاحتجاج والمناظرة فتظهر بشواهد من القرآن الّذي يعج بنماذج راقية في التدليل على التوحيد والمعاد وخلق العالم... وفيه مناظرات وجدالات بين جهات عدّة (مجادلات الكفّار مع رسلهم، حوار الله مع الملائكة...)(16). وإذا صحّ أن الأصل في المناظرة هو القرآن (وهذا لا يعني عدم استعانتها في تفصيل قواعدها ببعض مقررات الجدل اليوناني)، صحّ معه وجوب امتداد أثرها إلى حيث يمتدّ أثره في تراثنا(17). وقد يكون هذا الأصل هو الباعث في العناية البالغة لعلماء المسلمين بضرورة وصل العلم بالعمل والنظر بالأخلاق، حتّى لا تكون العوائق الأخلاقيّة سببًا يعطل العطاء العلمي ويحول دون طموح المجتمع في أبواب الكسب.
ولمّا كانت الغاية معانقة الإبانة وتقويم المعوج من التصورات وتصحيح المعتلّ منها، لزم أن يستند المنهج التناظري إلى شروط داخليّة وخارجيّة تميّز المسموح به من المقدوح فيه من شأن الإخلال بها عدم بلوغ المرام حين الإلزام أو الإفحام.
فما هي إذن أهمّ قواعد المناظرة خلقيًّا ومنطقيًّا؟ ما الآفات الّتي تصيب العمليّة التفكريّة ؟ هل من مآل في التفاعل التناظري؟
المراجع:
1) أبو المعالي الجويني، الكافية في الجدل، وضع هوامشه خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ/1999م، ص ص: 17-18.
2) نفسه، ص: 19.
3) أبو الوليد الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 3، 2001، ص: 11.
4) نفسه، ص: 8.
5) حمو النقاري، منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، منشورات الاختلاف، طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون، الأولى، 1431هـ، 2010م، ص: 366.
6) طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2007.ص: 157.
7) محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين، قراءة الكافية في الجدل للجويني”، مجلة المنهاج، عدد 59، السنة 15، خريف 1431هـ/2010م.ص: 177.
8) نفسه، ص: 194.
9) نفسه، ص ص: 193-194.
10) انظر مقدمة المحقق عبد المجيد تركي لكتاب المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 6-7-8.
11) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق خليل شهادة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2007م.ص: 466.
12) حسان الباهي، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، إفريقيا الشرق، 2004. ص: 19. وكذلك الجويني، الكافية، مرجع سابق، ص ص: 19-20.
13) حمو النقاري، منطق الكلام، مرجع سابق، ص: 374.
14) طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2، 2006.ص: 46.
15) المرجع نفسه، ص: 47.
16) حمو النقاري، منطق الكلام، مرجع سابق، ص: 373.
17) طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، مرجع سابق، ص: 21.
اشريف مزور
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد