فيلم قصير يطرح بعض إشكالات السينما العربية
تلعب المصادفات لعبتها، وأحياناً في شكل سيء لبعضهم. فمثلاً في الوقت ذاته الذي كانت لجنة تحكيم الأفلام القصيرة في الدورة الأخيرة لمهرجان مسقط السينمائي (21-25 آذار - مارس)، غير قادرة على ان تجد ولو فضيلة واحدة جديرة بالفوز او التنويه في الفيلم البحريني/ الإسباني القصير «سارق النور» (19 دقيقة) من إخراج السينمائية البحرينية السورية الأصل، إيفا داود، كانت لجنة تحكيم أخرى، على المقلب الثاني من الأرض، في أميركا، تعلن وفي الحفل الختامي لمهرجان «يوتا» العالمي للسينما، عن فوز الفيلم نفسه، بثلاث جوائز رئيسية: جائزة أفضل إخراج، جائزة افضل فيلم قصير، وجائزة افضل مونتاج. فكيف يمكننا تفسير هذا التفاوت في «الفوز»، وهو بالتالي تفاوت في الرؤية والتقييم؟
لن يكون من السهل الدخول في حديث الأبيض والأسود هنا. ولن يكون من السهل اتهام لجنة مهرجان مسقط بالتحيز ضد الفيلم، ولا بالتالي اتهام لجنة يوتا، بالتحيز للفيلم. ففي الواقع ان أياً من اللجنتين ليس لديها من الأسباب ما يدفعها الى أي تحيز. كما - ويا للمفارقة - لم يشكل حضور المخرجة صاحبة الفيلم في مهرجان وغيابها عن الآخر، مبرراً أو حتى تفسيراً. ما الذي حدث هنا تناقضي تماماً، فإيفا داود بلطفها وسينمائيتها، كانت حاضرة في المهرجان الذي لم تفز فيه، فيما كانت غائبة عن المهرجان الذي توج فيلمها بثلاث جوائز. وإلى هذا، لن يكون من المنطقي القول انها كانت، في مسقط، تنافس أفلاماً قوية، ما أبعد فيلمها عن الجوائز والتنويه ضمن لعبة مقارنة رياضية بحتــــة، فيما نافست افتراضياً أفلاماً ضعيفة في «يوتا». بالنسبة إلى الأفلام المنافسة لـ «سارق النور» على الأقــــل، يمكن المرء الذي شاهدها، أن يحكم، ببساطة، أن معظـــمها لم يكن على مستوى تنافسي حقيقي... لذا تبقـــى هنا فرضية أخيرة، وهي ان لجنة تحكيم مسقط لم تتمكن من تقبل فيلم «سارق النور»، لأسباب غير سينمائية، فيما تقبلته وتوجته لجنة «يوتا» لأسباب سينمائية بالتحديد. ويزيد من قوة هذا القــــول، أن «سارق النور» ليس فيه سوى سينما، سواء أحـــــببناه أو لم نفعل، فهو، وعلى عكس الأفلام القصيرة التــي تعرض عادة في المهرجانات العربية، لا يتضمن مـــواعظ أو رسائل أو أيديولوجيات. ومن هنا قد يمكن القــــول إن «سينمائية» هذا الفيلم هي التي «قضت» عليه فــي مسقط. وربما بالتحديد، لأن المحكمين أنفسهم لا يمكنهم تقبل فيلم سينمائي الأبعاد في مهرجان عربي.
بين عالمين
والحال أن «سارق النور» هو أولاً وأخيراً فيلم سينمائي. فيلم يعبق بالرغبات السينمائية وبحب السينما. وهذا ما اكتشفه بالتحديد، على رغم تعسف لجنة التحكيم في مسقط، سينمائيون ونقاد شاهدوه ليتساءلوا، بعدما أثنوا على عمل مخرجته الفني ولغتها السينمائية وإدارتها للممثلين: «... ولكن ماذا أراد أن يقول؟». وفي المقابل بدا واضحاً أن محبي السينما يمكنهم أن تكون لهم مآخذ عديدة على هذا الفيلم، لكنهم سينتهي الأمر بهم إلى أن ينظروا إلى «كيف يقول ما يقوله» وليس إلى «ماذا يريد أن يقول». ولعل في إمكاننا أن نقول إن من حظ هذا الفيلم القصير، أن يشكل نقطة مفصلية في طرح مشكلة غاية الفن، ووسيلته للوصول إلى غايته، في عالم سينمائي عربي يجد الكثير من الصعوبة في التخلص من تراكم تراثه الإيديولوجي، وتغليبه المضمون (الرسالة... الإيديولوجيا) على الشكل (الإبداع).
ومهما يكن من أمر هنا، لا بد في النهاية وبعدما طرحنا هذه الإشكالات في السطور السابقة، أن نتوقف عند الفيلم نفسه، في محاولة للبحث عن سوء التفاهم الذي يحكم النظرة إليه. وهناك بالتأكيد سوء تفاهم يخلقه «سارق النور»، نقولها على رغم أن نظرتنا إلى الفيلم، نظرة شديدة الإيجابية، ولا سيما بالنسبة إلى أبعاده الفنية، ما يجعلنا نعتبره مؤشراً إلى ولادة سينمائية جديدة لمخرجته التي سبق أن خاضت تجارب عديدة أخرى في مجال الفيلم القصير (من أفضلها «ربيع مرّ من هنا»). ففي اختصار يمكننا أن نقول هنا إن إيفا داود سينمائية حقيقية. غير أن مشكلتها الأساس تكمن في أنها - وهذا ما يؤشر إليه «سارق النور» بكل وضوح، وفيه تكمن مشكلته الأساسية -، أكدت، مرة أخرى، في «سارق النور» أن نَفَسها نفس سينما روائية طويلة. أي في كلمات أخرى، ما أمامنا هنا إنما هو موضوع غنيّ ومبتكر لفيلم طويل يبدو وكأن توليفاً ما قصّره، إلى أقل من ربع الطول الذي كان يستحقه. فالموضوع، الذي ينتمي إلى نوع شديد الخصوصية من الخيال العلمي الغرائبي، إنما الميتافيزيقي، لم يُخدم كما يجب بسيناريو مكثف توصّل إلى نتائج المواقف والعلاقات في شكل أتى دائماً مباغتاً ومن دون مقدمات تمهيدية. كل شيء مرّ هنا سريعاً: من تقديم شخصية البطل الذي اعتاد أن «يسرق النور» - الرامز هنا إلى الشغف الإنساني - ويخبئه في قوارير (سندرك لاحقاً مدى رمزيتها الليبيدية إنما من دون أن يكون ذلك واضحاً إلا لمن يشاهد الفيلم غير مرة)، إلى المرور بالكيفية التي «يصطاد» بها حبيباته المرشّحات لأن يسرق النور منهن؛ وصولاً إلى تلك القلبة «المسرحية» التي تحوّله من جلاد في لعبة ابتكرها بنفسه، إلى ضحية في لعبة انقلبت عليه، بحيث أن واحدة من حبيباته الأخيرات، إذ تكتشف، وبسرعة أيضاً، وقوعها ضحية له، تتمكن - ودائماً بسرعة سينارستية غير مبررة -، تتوجّه إلى شقته، فيما يكون هو منهمكاً في ممارسة لعبته مع حبيبة تالية لها، لتعثر على القوارير، ما يتيح لها بالتالي تحرير النور/ الشغف المتعلق بسابقاتها، قبل أن تقدم على سرقة نوره، لتضعه في زجاجة (قضيبية الرمـــزية هي الأخرى) سرعان ما تصبح في قبوها واحدة من مئات الزجاجات، ما قد يعلن، ضمنياً تحوّل اللعبة البطريركية إلى لعبة ماتريركية (بداية عصر النساء!؟).
في انتظار خطوة تالية
في هذا الوصف الذي نورده لمجرى الفيلم هنا، ستبدو الأمور واضحة مفسَّرة بالتأكيد. وربما يصل هذا الوصف بسهولة أيضاً إلى من يشاهد الفيلم. غير أن المشكلة تبقى في طول الفيلم والسيناريو المكتوب له. فالحقيقة أن موضوعاً كهذا، له هذه الجدّة وهذا العمق الفكري والفلسفي، يعيش مجازفة قوية هنا، كما أشرنا أعلاه، إذ يُطلب من المتفرج أن يتابع ما يحدث وكأنه يقرأ عناوين لأحداث سوق تُفسر في ما بعد. عناوين تريد منه أن يقتنع بكل التغيرات في سياق حكاية لا يصله منها سوى علاماتها الأساسية. ولا سيما إذا كان المتفرج من النوع الذي اعتاد السينما التي تشرح وتفصّل، وغريباً عن ذلك النوع من السينما الغرائبية المثيرة لإشكالات فكرية واجتماعية.
يقيناً أن إيفا داود في كلاسيكية لغتها السينمائية واقتصادها في الحوار، ولعبها على التفاصيل، واشتغالها على الديكور والتوليف في شكل فائق الجديّة والجمال، بذلت جهوداً كبيرة - وربما مجازفات أيضاً - في هذا الفيلم، حيث أكدت أن في إمكانها أن تفعل أفضل لو أن بين يديها سيناريو أكثر توازناً وأكثر قدرة على خدمة أفكارها التي لا شك في أنها تقف خارج التفكير التقليدي - الاجتماعي الذي تحمله السينما العربية (ما يفسر، مرة أخرى، احتفاء محكّمي «يوتا» بها، في مقابل تجاهل محكّمي «مسقط»). إيفا داود تبدو وكأنها خاضت بنجاح امتحان «تخرّجها» السينمائي في هذا الفيلم، وبات عليها الآن أن تخطو خطوتها التالية، إنما عبر سيناريوات توازي قوتها الإخراجية ولا سيما في إدارة الممثلين.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد