في رحيل عمر الشريف

11-07-2015

في رحيل عمر الشريف

دكتور جيفاغو جاء من الاسكندرية
أول منبر أطلق خبر وفاة عمر الشريف أمس كان الصفحة الفايسبوكية لحفيده عمر الشريف جونيور. اكتفى الأخير بكتابة كلمة «البقاء لله» مع نشر صورة تجمعه بالنجم الجَد، قبل أن يثير البلبلة حين حذف الخبر الذي سارعت وسائل إعلام عدة إلى نقله. وسط نفي بعضهم النبأ، خرجت الممثلة يسرا لتؤكد أنّها تواصلت مع طارق عمر الشريف الموجود حالياً في فرنسا، فأكّد لها الخبر الحزين.

يصعب تلخيص مشوار عمر الشريف مع السينما العالمية، ومن قبلها وبعدها المصرية. الممثل الحائز ثلاث جوائز «غولدن غلوب»، أعطى للفن السابع كما لم يفعل غيره من نجوم جيله. دخل المجال في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وظل يمثل حتى وصل إلى عامه الثمانين قبل أن يصاب بضعف في الذاكرة منعه من حفظ النصوص وأبعده عن الكاميرا. مع ذلك، ظلّت عروض التمثيل تلاحقه، وكان مطلوباً من منتجين ومخرجين كثر حول العالم. وقبل أسابيع فقط، اضطرت أسرته إلى الإعلان رسمياً إصابته بالزهايمر.
ولد ميشال ديمتري شلهوب في نيسان (أبريل) 1932 في الإسكندرية لأسرة يعمل عائلها في تجارة الأخشاب، جاء الإسكندرية من زحلة في البقاع اللبناني. أما والدته كلير سعادة، فكانت من أصل لبناني ـ سوري. دخل الشريف «كلية فيكتوريا» الإنكليزية في الإسكندرية، ومنها إلى «جامعة القاهرة» حيث درس الرياضيات والفيزياء. بعد تخرجه، عمل لخمس سنوات في تجارة الأخشاب مع والده قبل أن يقرر دراسة التمثيل في «الأكاديمية الملكية للفنون الدرامية» في لندن. جاءته الفرصة حين عرض عليه السينمائي الراحل يوسف شاهين بطولة فيلمه «صراع في الوادي» عام 1954 أمام فاتن حمامة، واختير له اسم عُمر الشريف الذي اشتهر به لبقية حياته وفق المعلومات المنشورة عنه في «بوابة السينما دوت كوم». نجح الفيلم في شباك التذاكر، وبسرعة تصاعدت نجوميته، فشارك من 1954 حتى عام 1962 في أكثر من 20 فيلماً. قصة حبه مع فاتن حمامة حفرت في وجدان الجمهور. تزوجها عام 1955 وشاركا معاً تمثيلاً في خمسة أفلام آخرها «نهر الحب» (1960). في عام 1962، كان موعده مع الشهرة العالمية حين وقع اختيار المخرج الإنكليزي ديفيد لين عليه لتأدية دور في فيلمه «لورنس العرب» الذي خوّله للفوز بجائزة «غولدن غلوب» ومعها دخل باب الشهرة العالمية. في هذه الفترة، رفض العديد من نجوم جيله الخضوع لاختبارات للحاق به إلى هوليوود، ليصبح هو رائداً في الخروج من هوليوود الشرق إلى هوليوود الأصلية.
حاز 3 جوائز «غولدن غلوب» قبل أن يعود إلى السينما المصرية

توالت بعدها أدواره العالمية، منها «دكتور جيفاغو» (1965) لديفيد لين أيضاً، وفاز عنه بجائزة «غولدن غلوب» لأفضل ممثل. بسبب صرامة نظام الرئيس جمال عبد الناصر في إصدار تصاريح السفر والخروج من مصر، قرر الاستقرار نهائياً في أوروبا عام 1965، ما أثر في زواجه بفاتن حمامة وأدى إلى انفصالهما عام 1966 ثم طلاقهما عام 1974. ظلت حمامة المرأة الأهم في حياته بعدما أنجب منها ابناً وحيداً هو طارق، ولم يتزوج رسمياً بعدها، رغم كل ما تردد عن علاقات عاطفية جمعته بنجمات عالميات. ومن الستينيات حتى بداية التسعينيات، ظل مقيماً خارج مصر ومشغولاً بأدواره العالمية في السينما الأميركية والأوروبية التي قدم خلالها أدواراً كثيرة ومتنوعة بين الحربي والدرامي والكوميدي. وكان الشريف قد عاد إلى مصر بنحو متقطع في عهد الرئيس أنور السادات، كذلك عاد للتمثيل في السينما المصرية عبر أفلام عدة منها «أيوب» (1983) و«الأراجوز» (1989) و«المواطن مصري» (1991). اللافت أنّه نجح في الحفاظ على هويته المصرية، وإن كان انقطاعه عن هوليوود الشرق لسنوات طويلة جعله لا يتذكر بعض الأفلام التي صنعت جماهيريته مثل «إشاعة حب» (1959) الذي يعدّ الشريط الكوميدي الوحيد الذي شارك في بطولته داخل مصر. ارتبط الراحل بصداقة قوية مع النجم الراحل أحمد رمزي. وفي سنواته الأخيرة، كان مرافقاً لوزير الآثار السابق زاهي حواس. كان الأخير وسيطه مع الصحافة والدوائر المختلفة بعد وفاة مديرة أعماله في مصر ايناس جوهر العام الماضي. حرص الشريف على دعم السينما المصرية من خلال «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في السنوات العشرين الأخيرة. غاب الشريف عن مصر مجدداً بسبب الأحوال الأمنية بعد «ثورة يناير 2011»، خصوصاً أنه كان يقيم معظم الوقت في أحد الفنادق خلال وجوده في القاهرة، قبل أن يعود ويستقر ويموت على أرضها، تاركاً وراءه إرثاً لم يخلفه ممثل آخر غيره.

محمد عبد الرحمن

الإعلام الغربي يحتفي بـ«الأسطورة المصرية»
لم يحظ نجمٌ عربي بالشهرة التي حصل عليها عمر الشريف. النجم العربي الوحيد الذي فاز بـ 3 جوائز «غولدن غلوب» عن فيلميه «لورنس العرب» و»دكتور جيفاغو»، ثم خطف الأبصار والقلوب عن دوره في فيلم Funny girl مع باربرا سترايسند. لاحقاً، حاز جائزة «سيزار» الفرنسية المعادلة للأوسكار عن دوره اللافت في فيلم «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» (2003). بعد كل هذا، لم يكن مستغرباً أبداً أن «تحتفي» وسائل الإعلام الغربية بـ»الأسطورة المصرية» (كما عنونت الـ«إندبندنت» البريطانية).
مع بيتر أوتول في «لورنس العرب»
«نجم لورانس العرب يرحل عن 83 عاماً» هكذا عنونت الـBBC مقالها الذي تناول حياة الراحل، وهو تقريباً العنوان نفسه الذي اشتركت فيه وسائل إعلام عدة. توقفت «فرانس 24» عند نجاحه الكبير في فيلمين من إدارة المخرج ديفيد لين، مشيرةً إلى وفاته متأثراً بأزمةٍ قلبية في مصر، ومرفقة المقال بمقاطع فيديو من أفلامه. الـ«غارديان» البريطانية بدورها تناولت حياة الراحل، مذكرةً بإعلان طارق ابن الشريف إصابة والده بـ»الزهايمر» منذ فترة. (وهو ما ذكّرت به صحيفة «إل موندو» الإسبانية أيضاً). ورغم أنّ US Today اكتفت بعنوانٍ بسيط (الممثل عمر الشريف يرحل عن 83)، إلا أنها لم تنكر أبداً «مهارة» الشريف التمثيلية، وقدرته على أداء أدوارٍ صعبة.
وفي مقالها عن الراحل، أشارت «دايلي مايل» البريطانية إلى جماله الأخاذ وشخصيته الفذة وقدرته على أداء أصعب الأدوار، فضلاً عن إجادته لغات عدة، ما أهّله بسهولة لأداء أدوار عديدة. بدورها، قدّمت «فوكس نيوز» مقالاً «موسّعاً» عن الراحل. هكذا، تحدثت عن تحقيقه نجاحاً هائلاً في فيلميه الأولين، ليعود ويخفت بريقه بعض الشيء، إلا أنه حافظ على «قدراته» المميزة على تأدية أدوارٍ شديدة التنوع، فمن الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا في فيلم «تشي»، إلى البحار الإيطالي ماركو بولو في «ماركو الرائع» وقائد المغول «جنكيز خان» في الفيلم الذي حمل العنوان نفسه، و»جنرالٍ ألماني» في «ليلة الجنرالات»، وأمير نمسوي في «مايرلنغ». حتى إنّه أدى دور مجرمٍ مكسيكي في «ذهب ماكينا».

عبد الرحمن جاسم

 

شركاؤه على الشاشة: كان حضوره طاغياً
لم يصدق بعض الممثلين المصريين أنّ عمر الشريف رحل بهدوء، وهو الذي لطالما ملأ الدنيا ضجيجاً وجدلاً في العالم العربي. استقبلت النجمة نبيلة عبيد خبر وفاة بطل «لورنس العرب» بالذهول، خصوصاً أنّ أواصر صداقة جمعتها به. تقول لـ»الأخبار»: «كان عمر هو البطل في ثاني فيلم قدمته في حياتي أي «المماليك» تأليف عبد الحي أديب، وإخراج عاطف سالم عام 1965، وكان أول فيلم مصري له بعد نجاح فيلمه العالمي في «لورنس العرب». كان بسيطاً للغاية يحفظ الحوار ويهتم بالجمل الحوارية ومتعاوناً إلى أبعد حدود. وكان دائماً يذكرني بنص الحوار ويقول لي: «إوعي تنسي».ظلت فاتن حمامة حب عمره

وأبدت النجمة نادية لطفي حزنها الشديد على وفاة صديقها، مشيرة إلى أنّه من أولى الشخصيات التي تعرفت إليها في مطلع مسيرتها الفنية، واستمرت صداقتهما، وقدما مجموعة من الأعمال الناجحة منها فيلم «حبي الوحيد» (تأليف علي الزرقاني وصبري عزت وإخراج كمال الشيخ) عام 1960. تضيف بصوت مصحوب بالأنين: «عمر يحمل كل معنى الحب الوحيد وجعل علاقتنا حلوة مع العالم العربي. كان رقيقاً وبسيطاً، يسعى إلى أن يكون قريباً جداً من الشارع. كان ينزل إلى منطقة الحسين الشهيرة ليجلس مع العمّال ويعرف مدى معاناتهم، خصوصاً عند تجسيده أدواراً تتشابه معهم كما في فيلم «بداية ونهاية» (قصة نجيب محفوظ وإخراج صلاح أبو سيف) عام 1960». وتحدثت لطفي عن ذكرياتها معه قائلة: «كان شهماً ومقداماً يقدس قيم العدل ويكره الديكتاتورية.
كان ينزل إلى منطقة الحسين الشهيرة ليجلس مع العّمال
كان فناناً مثالياً جداً في علاقاته الإنسانية مع أصدقائه، كما يعد من الفنانين المهمين في تاريخ السينما العربية والعالمية»، مشيرة إلى أن عمر كان يعشق الطبيعة ويتأثر بها، وكذلك البحر ويهوى السهر والخروج، واصفة إياه بالفنان الخفيف الظل والروح. ونعى يوسف شعبان النجم الراحل، مضيفاً أنّه كان شخصاً متسامحاً مع نفسه ومع الآخرين، و«لمست هذا أثناء تعاوني معه في أعمالنا السينمائية منها «في بيتنا رجل» (قصة إحسان عبد القدوس وإخراج هنري بركات) عام 1961». ودخل هشام سليم في نوبة بكاء حال علمه بخبر وفاة الشريف، إذ كان الصديق الأقرب لوالده صالح سليم نجم الكرة المصرية الراحل، وتربى هشام على يديه، وقال الأخير: «عملت مع عمي عمر فيلم واحد هو «الأراجوز» عام 1989 وجسدت شخصية «بهلول» ابن «الأراجوز» عمر الشريف. يعشق الشريف عمله ويقدسه. وقتها لم يجاملني باعتباري ابن صديقه، بل كان يعامل الجميع معاملة واحدة».
الفنان حسن يوسف وصف الشريف بـ»الراقي وأحد أفضل الفنانين الذين تعاملت معهم، فتجربة «في بيتنا رجل» كانت كفيلة بأن أعرفه على حقيقته. إلى جانب موهبته، يمتلك حضوراً طاغياً، إضافة إلى أخلاقه الرفيعة والنادرة».

عباس محمد

 

طيف «مولاي حسن» يواصل سرد الحكاية
نهار داخلي في أحد المصحات النائية في حلوان جنوب القاهرة. بهدوء وتأنٍّ، لفظ أنفاسه الأخيرة وحيداً في غرفة موحشة وباردة. صاحب المشوار الفني الحافل بالنجاحات والتحقق والتألق، وحده كان يعرف أن كل هذا زائل، وأن الذي يبقى له هو قدرته على الاستمتاع بالحياة. عمر الذي أصيب بـ«الزهايمر» في آخر أيامه، لم يكن يتذكر شيئاً ولا أشخاصاً ولا حتى المقربين، رغم أنّه منح الفن ذاكرة حفرت في الوجدان. كان آخر ظهور سينمائي له يشبه التجلي الكامل لشخص خبر الحياة وعرف معناها. إذ أدى بطولة الفيلم المغربي الفرنسي «روك القصبة» (2013) للمخرجة ليلى المراكشي. منح عمر الفيلم سحراً خاصاً، إذ لم تقف سنوات عمره حائلاً بينه وبين مزيد من الإبداع. حضوره كان طاغياً، رغم أنه كان يجسد دور «مولاي حسن» المتوفى الذي يعلّق على الأحداث التي تدور في منزله، كاستعدادات جنازته، أو سخريته من صراع أفراد الأسرة حول شخصه.
عمر الشريف هو واحد من النجوم القلائل الذين جسد تكوينهم الإنساني والثقافي حقائق إنسانية شديدة الرقي. فالأب تاجر أخشاب لبناني، هاجر من زحلة إلى الإسكندرية في أوائل القرن العشرين، تلك المدينة «الكوسموبوليتية» التي كانت تضم مختلف الثقافات والحضارات، فاستقر وزوجته كلير سعادة هناك، وأنجبا طفلهما.

بدأ عمر يلفت الأنظار برشاقته، وتزامل مع المخرجين المصريين يوسف شاهين وشادي عبد السلام، والفنان النجم أحمد رمزي، فبدأ شغفه بالتمثيل، وقدم العديد من العروض المسرحية على خشبة مسرح «كلية فيكتوريا»، لكن والده كان يرى أن كل ذلك «كلام فارغ» على حد تعبير الشريف نفسه. ذلك الفتى الوسيم الذي قلب الموازين، صار المخرجون يحصرونه في الأدوار الرومانسية، إلى أن تمرد على تلك الصورة في «إحنا التلامذة» (1959) مع المخرج الراحل عاطف سالم، ومن بعدها في بداية الستينيات مع المخرج صلاح أبو سيف في «لوعة الحب» (1960)، أمام الفنانة شادية وأحمد مظهر، وهو الفيلم الذي جسد فيه دور مساعد لسائق قطار «عطشجي» يقع في غرام زوجة رئيسه. الفيلم عكس جزءاً كبيراً من موهبة عمر التي ظلت لفترة محصورة في زاوية واحدة، هي الفتى الرومانسي الوسيم. وفي المرحلة نفسها، أخذه المخرج الكبير فطين عبد الوهاب وحلق به بعيداً في منطقة غير متوقعة تماماً، حيث قدمه في واحد من أهم أفلام الكوميديا المصرية أي «إشاعة حب» (١٩٦٠) مع يوسف وهبي، وعبد المنعم إبراهيم، وسعاد حسني. في العام نفسه، قدم فيلم «بداية ونهاية» عن رواية للأديب نجيب محفوظ، ونقلها للسينما صلاح أبو سيف. في هذا العمل، جسد دور «حسنين»، الشاب الفقير الطموح، الذي يسخر أفراد أسرته الفقيرة من طموحه ورغباته. الفيلم الذي شارك فيه عدد كبير من النجوم إلى جانب عمر، ومنهم فريد شوقي، وسناء جميل، وأمينة رزق، يعد واحداً من أهم الأعمال في تاريخ السينما العربية.
ورغم أن الشريف كان قد بدأ يعرف طريق العالمية، إلا أنه كان يصرّ دائماً على تقديم تجارب سينمائية مصرية أو عربية، ومنها أفلام تلفزيونية مثل «الأراجواز» مع النجمة ميرفت أمين، وأيضاً فيلم «أيوب». وبعد فترة انقطاع، عاد وشارك عادل إمام فيلم «حسن ومرقص» (2008) الذي كان آخر أعماله في السينما المصرية، و«المسافر» (2009) للمخرج أحمد ماهر، بمشاركة عدد من النجوم المصريين ومنهم خالد النبوي.

علا الشافعي

 

لاعب البريدج غازل الحياة كامرأة جميلة
لقد تحوّل إلى شيخ شكسبيري الطابع والتاريخ. عمر الشريف المصاب بالزهايمر في ختام حياة حافلة، يصارع أشباحه في مصحّ علاجي. يعتصر ذاكرةً اختزنت آلاف الحوارات، لتذكّر اسم الطيف الماثل أمام عينيه الناطقتين. «الشريف علي» و«يوري جيفاغو» و«جنكيز خان» و«تشي» و«عبد الرازق الشرشابي» و«أيوب» و«الأراجوز» و«السيّد إبراهيم»، وحبيب فاتن حمامة في ستة أفلام، وتنويعات الشاب الرومانسي، وابن الذوات، والوسيم العابث.

لم يحتمل العربي الأهم في الأفلام الأجنبية، اضمحلال أهم سلاح لرجل بتاريخه: الذاكرة. يُروى أنّه امتنع عن تناول الطعام والشراب خلال أيّامه الأخيرة، غير عالم برحيل حبيبته الأثيرة. هذا إصرار شخصي على تطويع القدر، واختيار النهاية بإرادة حرّة. هو الزاهد بعد التهام تام للحياة طولاً وعرضاً. الناسك بعد مغامرات لا حصر لها. النزق صاحب الأفعال الحادّة، عند التقاط صورة، أو دفع مال لعامل مرآب. الشاهد على عصور وتحوّلات فنيّة وسياسيّة. الراسخ في عالم متحوّل، والثابت في رياضيات لاهثة. المتذمّر الحانق على ذاته قبل الآخرين. عمر الشريف بلغ مرحلة «مارلون براندو» في المحطّة الأخيرة. لم يعد يكترث كثيراً لمنجزه، أو حتى للسينما، رغم بصمته الباقية في العلب والبكرات. في فترة ما، كانت الحياة بالنسبة له جولة «بريدج» رابحة، أو رهاناً صائباً على حصان، أو عشاء مع امرأة جميلة. بعد تأمين ابنه الوحيد طارق، لم يتردد «ميشال شلهوب» في تبذير الملايين. أصلاً، هو معتاد على الحياة الكريمة.
زميله في «كلية فكتوريا» يوسف شاهين، ألقاه أمام نجمة الشبّاك فاتن حمامة من دون مقدّمات. في «صراع في الوادي»، اعترف لها بحبّه. منحته «قبلة الحياة» في مشهد بات أسطورةً في الذاكرة السينيفيليّة العربية. سريعاً، أشهر إسلامه، وتمّ الزواج الوحيد في حياته. كانت هذه فاتحة نجاحاته المصريّة مع كبار المخرجين، منهم كمال الشيخ وعاطف سالم والسيد بدير ونيازي مصطفى وفطين عبد الوهاب. قبلة أخرى أحدثت زلزالاً في مسيرة الشريف. بعد اقتحام هوليوود من بوّابة «لورنس العرب» لديفيد لين، لعب دور اليهودي «نيك» أمام باربرا سترايسند في «فتاة مرحة» (1968) لوليام وايلر. القبلة بينهما أثارت سخطاً عربيّاً بعد هزيمة 1967، على اعتبار أنّ سترايسند يهودية. هكذا، أسقطت عنه الجنسيّة المصرية أواخر عهد عبد الناصر، قبل أن تُعاد إليه «أيام السادات». قبله، وقف «الدنجوان» أمام أسماء ثقيلة. نجح ثانيةً مع ديفيد لين في أداء استثنائي لـ «دكتور جيفاغو». واجه أنطوني كوين في «انظر الحصان الشاحب» (1964) لفريد زينمان، وشهد مع صوفيا لورين «سقوط الإمبراطورية الرومانية» (1964) لأنطوني مان. بالمقابل، حقّق حضوراً عادياً في «جنكيز خان» (1965) لهنري ليفين، و«الموعد» (1969) لسيدني لوميت، ثمّ باهتاً في «تشي» (1969) لريتشارد فليتشر. يبقى «السيّد إبراهيم وأزهار القرآن» (2003) لفرانسوا دوبيرون من ألمع تجليّات الشريف وأكثرها روعةً (جائزة «سيزار» أفضل ممثّل).
قسى النقاد كثيراً على الشريف. بعضهم تجاهل نتاجه ليتفرّغ لمغامراته وغرابة أطواره. آخرون تناولوا فقط قبوله اللعب في أفلام لا تكنّ الودّ للعرب. «آشانتي» (1979) لريتشارد فليتشر مثال على ذلك. عمر اعتذر عن عدم أداء دور البطولة لصالح مايكل كاين، مكتفياً بدور صغير، بسبب تصوير جزء من الفيلم في إسرائيل. الهجوم العربي الشرس، قابله امتعاض صهيوني بسبب مكانته المتأصّلة في هوليوود والعالم. الحقيقة أنّ الشريف اختار خوض اللعبة حتى النهاية. غامر وجرّب وأخطأ وأصاب. قبل بعقد احتكار لسبع سنوات مع استوديو «كولومبيا»، وارتضى بالأدوار الصغيرة بعد سنّ الخمسين، معوّضاً بأدوار أخرى في السينما المصرية التي عاد إليها في التسعينات. عاش كما يحلو له، وعرف الحسناوات، من دون أن يغادره وجه فاتن حمامة الملائكي، حتى بعد وقوعه في شرك الزهايمر. «كل في الكل» يستحق صاحب «الأسد الذهبي» عن مجمل أعماله، أن يُقرأ كما هو. ما زال في جعبته شريط أنيماشن قصير بعنوان «ألف اختراع واختراع وعالم ابن الهيثم» (2015) لأحمد سالم، سيحمل صوته قريباً من العالم الآخر.

علي وجيه



أحمد منصور... وقاحة «بلا حدود»
ظنت «الجزيرة» بأنها أنقذت نفسها من مستنقع الوقوع في فخ أخلاقية محاورة العقيد علي عبود الأسير السوري لدى جبهة «النصرة» من خلال عرضها تنويهاً قبيل بدء حلقة «بلا حدود» يوم الأربعاء الماضي، يفيد بأن المقابلة تمت بموافقة كاملة من العقيد ومن الجهة التي تحتجزه، مع التأكيد على أن القناة القطرية لم تحاول «ممارسة التأثير أو التقييد أو الضغوط أثناء إجراء المقابلة». ها هو أحمد منصور العائد من «الأسر» في ألمانيا الشهر الماضي، يحاور أسيراً سورياً طياراً محتجزاً لدى التنظيم الإرهابي «النصرة» منذ آذار (مارس) الماضي، بطريقة المحقق العسكري الذي يريد استخراج كل معلومة من الأسير وبأي طريقة كانت.

الحوار الذي أجري ضمن 48 دقيقة وأداء منصور الاستجوابي التحقيقي، أعادا الى الأذهان مقابلته الشهيرة في أيار (مايو) الماضي مع أمير جبهة «النصرة» أبو محمد الجولاني. مقابلة بدا فيها أنّ منصور يعاني من داء الإستلاب، محاولاً قدر المستطاع تبييض صفحة التنظيم الإرهابي وتقديمه على أنه أنموذج للتسامح والتعايش مع الغير المختلف طائفياً. في هذه الحلقة، بدا الإعلامي المصري «جولانياً» أكثر من الجولاني. أبعد عنه صفة الصحافة والمحاورة وطرح الإشكاليات الجدلية والتذكير بجرائم الجبهة الدموية لصالح رجل منصهر الى حد الذوبان الكلّي في فكر وعقيدة أمير «النصرة». وقتها لم يكن قلب منصور على المدنيين ولا على الأطفال والنساء الذين حضروا بقوة في مقابلته مع الأسير الطيّار. وقتها أيضاً لم يتوان عن تظهير الوجه السموح لـ «النصرة» عندما ادعى أنها تحمي «الدروز والمسيحيين» ولا تفرض الجزية عليهم وتعيش هذه الطوائف في وئام وسلام مع هذا التنظيم.

إذاً وجهان مختلفان ظهر فيهما منصور في أقل من شهرين، قدمت له «النصرة» مرة أخرى خدمة في السماح له بإجراء هذه المقابلة، لكنها أتت غير متوازنة، كيف لا والعقيد الأسير معتقل ومتواجد تحت ضغط وهول هذا الإعتقال، مسلوب الإرادة وحرية التعبير والكلام؟ كل هذه الثغر استغلها منصور بطريقة لا أخلاقية. جلس مقابل عبود وبدأ ينهال عليه بسيل من الأسئلة السريعة على طريقة المحقق العسكري. الأسئلة التي غاب عنها النفس الصحافي لصالح آخر مليء بالحقد والطائفية، صبت كلها في مصلحة «النصرة» من خلال معرفة قدر الإمكان كل التفاصيل العسكرية واللوجستية التي يعرفها الطيار الأسير. سأله منصور عن أسماء المطارات العسكرية السورية. وأوقح من ذلك، راح يستجوبه طائفياً وبالتحديد عن الطائفة العلوية وطائفة باقي أطقم المطار الذي يعمل فيه.عاد وسأل مراراً وتكراراً عن المدنيين عن الأطفال والنساء الذين يقتلون على يد النظام السوري من خلال البراميل المتفجرة واستخدام غاز الكلور. وحاول تحميله المسؤولية بشكل مباشر. مارس منصور سطوته وابتزازه على الأسير عندما حاول إخافته لدى سؤاله بعينين جاحظتين «ألا تعلم أن الثوار باتوا على مقربة من المناطق العلوية ويمكن أن يحدث هناك مجازر؟». طبعاً قابل هذه السطوة والاستغلال الرخيص، ارتباك وضياع وتشتت الذهن لدى الطيار العقيد الذي لم يع في كثير من الأحيان ماذا يقول على القناة القطرية.

زينب حاوي

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...