فوكوياما : على أميركا التخلي عن فكرة فرض الديمقراطية
وسط الإشكالية التي أثارها بمقاله الذي سلم فيه بفشل الفكر المحافظ الذي يساند السياسة الخارجية الحالية للبيت الأبيض، يؤكد مؤلف كتاب «نهاية التاريخ» على أنه يتعين على الولايات المتحدة مواصلة الحرب ضد الإرهاب، لكن بأسلوب معالجة جديد لا يضع العنصر العسكري على رأس سلم أولوياته.
كما يسلم فوكوياما بأن الحرب الحقيقية يجب أن تكون على المدى البعيد ومركزة على «الكفاح السياسي لغزو عقول سكان الشرق الأوسط».وكان المفكر السياسي الأميركي، المعروف بإشكالية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى نشبت بسبب أطروحته حول «نهاية التاريخ»,
قد قطع صلاته منذ بضعة أسابيع مع المحافظين الجدد في مقالة مسهبة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز», ويشكو فيها من أن الحركة التي ألهمت السياسة الخارجية لإدارة جورج دبليو بوش انحرفت عن منطلقاتها وجذورها وتحولت إلى «شيء» لم يعد قادرا على مساندته، رغم علاقاته التاريخية مع هذه الحركة.
في هذا الحوار، يتعمق فوكوياما في فشل الفكر المحافظ الذي سلم ولسنوات طوال بفكرة أنه يتعين على الولايات المتحدة السعي وراء القوة والسلطة لفرض الديمقراطية في العالم،
معارضاً الأطروحات التي شجعت رؤية أكثر انعزالية في السياسة الخارجية الأميركية وكذلك واقعية هنري كيسنجر الذي تحدث، بلا حياء، عن فرض مصالح الولايات المتحدة فوق كل المصالح الأخرى من دون الاهتمام بما إذا كان ذلك يعني التحالف مع العدو.
من هنا، يؤكد فوكوياما أنه آن الأوان للتسليم بواقع أن الحرب الاستباقية قد فشلت وأن الوضع الراهن يتطلب رؤية جديدة تأخذ في الاعتبار أساليب جديدة دون تجاهل الواقع وتحافظ على مثاليات المحافظين الجدد. فيما يلي نص حوار مع المفكر الأميركي نشرته صحيفة «لا تيرسيرا» التشيلية أخيرا
* قلتم بشكل صريح بفشل سياسة بوش في العراق. لكن بمعزل عن ضرورة غزو العراق من عدمها، ألا ترون ولو أدنى إمكانية لأن ينجم عن كل هذا حكومة ديمقراطية مستقرة نوعاً ما؟
ـ بلى، أعتقد أن ذلك يعد ممكنا، لكني أعتقد كذلك بأن هذا الوضع سيعاني من ضعف جوهري وبأن ذلك الفراغ سيملأ بكل أصناف الجماعات الخارجية، بما في ذلك جماعات من بلدان مثل إيران ستسعى إلى أن يكون لها تأثير كبير. ذلك الضعف يفترض كذلك الحضور النشط لجماعات عنفية خلال وقت طويل.
* اعتراضك يبدو اعتراضا على المبادئ بقدر ما هو اعتراض على الممارسة. ما هي الحجة الجوهرية للتأكيد أن تجربة العراق سينظر إليها على أنها تجربة فاشلة من المنظور التاريخي؟
ـ رغم الفوائد الواضحة التي يفترضها سقوط صدام حسين، إلا أن ذلك لا يبرر في المحصلة النهائية الأرواح التي أزهقت والأموال التي أنفقت في العراق، البلد الذي بات الآن قطبا للإرهاب مثلما كانت عليه أفغانستان، لأن الاحتلال يجذب المقاتلين المتشددين الذين كانوا مشتتين. فلقد قدمت لهم تجربة العراق قضية ومركز ثقل ومكانا للتدريب.
* لم تكن بالضبط عضوا في جماعة المحافظين الجدد الخالصة والقاسية التي كانت وراء الاحتلال، لكنك عبرت عن دعمك للسياسة العامة وكنت متوافقا مرارا وتكرارا مع المحافظين الجدد، إلى أي درجة كنت أحد المحافظين الجدد؟
ـ هذه الحركة تملك فروعا كثيرة وأنا كنت متوافقا مع العديد منها. وربما يتمثل العامل الأهم من بينها جميعا في أني كنت في مؤسسة «راند كوربوريشن» وفي أني أنجزت أعمالا حول منطقة الخليج لهم. كما أني عملت مع بول وولفويتز في بعض المناسبات وهو الذي كان أحد العقول المدبرة في سياسة الولايات المتحدة في العراق.
* قرأ البعض كتابك «نهاية التاريخ» على أنه بيان للمحافظين الجدد...
ـ ومع ذلك، فإن مكمن الاختلاف موجود هناك، حيث ساد الاعتقاد بأني قلت إن الديمقراطية الليبرالية قد انتصرت، بينما ما قلته في حقيقة الأمر هو أن الديمقراطية الليبرالية هي على المدى البعيد نتيجة طبيعية للتطلع نحو الحداثة، أي نحو التقدم التقني والازدهار،
لكن بطريقة تدريجية وبطيئة. واستخدمت بصورة تهكمية المنهج الجدلي الماركسي. لكن المحافظين الجدد يعتقدون بأن المرء يستطيع تسريع العملية الديمقراطية وتوطيدها عن طريق استخدام القوة.
* هل تتفق مع أي من أطروحات المحافظين الجدد؟
ـ جذورهم أو بالأحرى الحركة الأصلية، التي ما زالت حيوية جداً. فلقد شهدت المجموعة الأصلية، المكونة من الأب كريستول ودانييل بيل وناتان غليزر، الكثير من عدم الثقة فيما يتعلق بفكرة أن الدولة- السلطة السياسية- قادرة على حل المشكلات الكبرى.
وكما كانت حال التروتسكيين السابقين، فإن بعضهم لا يزال مؤمنا بالتقدم الاجتماعي، لكنهم استوعبوا أن الستالينية كانت تمثل الشيوعية في تعبيرها الأكثر نقاء وأنها مثلت خطر محاولة تسريع التقدم عن طريق الدولة. لذلك ينتقدون كثيرا الهندسة الاجتماعية وفكرة أن الحكومة قادرة على جلب العدالة الاجتماعية عن طريق برامج مساعدة.
لكن الجيل التالي من المحافظين الجدد، بما فيهم كريستول الابن، يعتقد، على ضوء أن الولايات المتحدة كسبت الحرب الباردة، بأن الدولة والسلطة نعم قادرتان على تسريع التقدم. وهناك تعيش أفكار التدخل العسكري في الخارج وذلك كشكل لتسريع الأمور بصورة متعمدة.
* أو أن الخطيئة تتحملها الحرب الباردة...
ـ الذي يتحمل المسؤولية جزئيا هو النصر الذي أحرزته الديمقراطية الليبرالية على الشيوعية، أي نهاية الحرب الباردة، لأنها تبددت تلك الريبة التي كانت تسيطر على المحافظين الجدد السابقين أمام الهندسة الاجتماعية وقدرة الدولة على تعزيز التقدم.
* على أي حال، ما حدث في العراق يدفع الكثير من المحافظين الجدد إلى استرجاع فكرة محافظة، بمعنى فكرة الانعزالية.
- هذا خطر كبير. ذلك أن اهتمام الناس بحد ذاته غالبا ما ينصب على السياسة الأهلية. وفقط بسبب اعتداءات 11 سبتمبر فقط، أدار الناس اهتمامهم إلى الخارج. ولا تزال هناك الآن غالبية تريد دعم المرحلة الانتقالية، رغم أنها يمكن أن ترفض فرصة الاحتلال. لكن ثمة رفض متنام لفكرة المشاركة في العالم.
وفي القطاعات المحافظة في عالم الريف سيكون ذلك التوجه أكثر قوة مع مرور الوقت. ولا ننسى أن تلك القطاعات هي جزء من قاعدة الفكر المحافظ والجمهوري. وهذا خطأ. فالهدف ليس المشكلة، وإنما الأسلوب الذي أستخدم.
* تصوبون كذلك على عامل آخر ألا وهو انبعاث «الواقعيون» على طريقة كيسنجر،أي أولئك الذين يدعمون فكرة التحالف مع الأنظمة غير الديمقراطية وقبول العالم كما هو...
ـ نعم، ونصر حماس في فلسطين والنتيجة الجيدة التي حققها الإخوان المسلمون في مصر أو النصر الذي حققه الراديكاليون في إيران، كل ذلك دفع الكثيرين إلى الشكوى من سذاجة الرغبة في دمقرطة العالم . وعلى وجه الخصوص العالم الإسلامي. يهاجمون مثالية ويلسون، التي يريدون إحياءها في هذه الحكومة و هؤلاء يجدون تجاوبا وصدى لدى الكثير من الناس الذين يروا ما يحدث في الشرق الأوسط.
* هل تعتقد أن الحرب الاستباقية قد دخلت في أزمة كذلك؟
ـ ذلك أن مشكلتها الجوهرية هي أنه لا يمكن التكهن بالمستقبل إذا لم يتم الاعتماد على معلومات مناسبة. وما حدث في العراق يشير إلى الفشل الذريع لأجهزة الاستخبارات الأميركية. فلقد كان خطأ من جانب الذين دعموا الحرب بحجة أن العراق كان يشكل خطرا نوويا أو بيولوجيا، لأنه عند التحقق من أن المخابرات أخفقت، فإن أي حجة تسقط بدورها أيضا.
وقد يدفع هذا إلى هبوط مستوى الحراسة أمام الخطر الحقيقي الذي تمثله الجماعات التي تريد عمليا امتلاك واستخدام أسلحة دمار شامل. ولا بد من القول إن أجهزة الاستخبارات نفسها لا تشاطر السياسيين الإحساس بحالة الخطر القادمة من العراق.
* أنت تقترح «لا عسكرة» السياسة الخارجية واستبدالها بشيء مغاير. بماذا تفكر؟
ـ أعتقد أنه يتعين علينا مواصلة الحرب ضد الإرهاب،لكن لا بد من تنويع أسلوب المعالجة كي لا نعطي العنصر العسكري أولوية. في الواقع إن للحرب بداية ونهاية والحرب ضد الإرهاب ليس لديها ذلك، ولذلك فإن الأمر لا يتعلق بحرب في الواقع.
والحرب الحقيقية يجب أن تكون حرباً على المدى البعيدحرب النضال السياسي من أجل غزو عقول سكان الشرق الأوسط. وجزء من تلك الحرب سيكون في الشرق الأوسط، لكن الجزء الآخر سيحدث في أوروبا، حيث نرى أن هناك تناميا للتعصب بين المجتمعات المهاجرة. والدنمارك أحدها. أعتقد بأنه يجب إنشاء منظمات جديدة لا تعاني من العجز الذي تعاني منه الأمم المتحدة في هذا السياق.
* هل يتعين على الولايات المتحدة التخلي عن هدف دمقرطة العالم؟
ـ لا، فذلك سيكون أمرا سيئاً وهو أحد مخاطر رفض الكثير من الناس لما يجري في العراق الآن. الأهداف جيدة ولا غبار عليها، فنحن ندرك أن الديمقراطية الليبرالية ودولة القانون هي النظام الأمثل للتمكن من تقليص الفقر وجلب السلام.
لكن ما يتعين علينا القيام به هو التراجع عن فكرة أننا نستطيع فرض عملية إرساء الديمقراطية وأن ذلك يستلزم بشكل آلي هزيمة الإرهاب. فالأمر على العكس من ذلك إلى حد ما.
إذ أن عملية التحديث تزيد من مستويات الإرهاب لأن الكثير من هذه الحركات المتشددة هي رد فعل يائس على الدمقرطة. ولا بد من التسليم بأن بعض الأمور ستأخذ وقتا أطول مما ستأخذه أمور أخرى.
* هل تعتقد أن أدوات السياسة الخارجية يجب أن تبقى نشيطة في الولايات المتحدة؟
ـ نعم، حتى أني أرى دورا لمؤسسات مثل مؤسسة «ناشيونال إندومينت للديمقراطية» ومؤسسة «إيد», اللتين تلعبان بالفعل دورا الآن. ما يقلقني هو أن يتعين علينا إنشاء منظمات دولية. ونحن بناة جيدون للمنظمات الأهلية ويتعين علينا الآن عمل منظمات فعالة على المستوى الدولي لأجل هذا الغرض.
ترجمة: باسل أبو حمدة
عن «لا تيرسيرا» ـ تشيلي
إلى الندوة
إضافة تعليق جديد