غسان رفاعي: عن مجلة «الأوغاد» والبطر..
ـ 1 ـ حينما صدر العدد الجديد من مجلة «الأوغاد» قررت أن أقتنيه، لا بدافع الفضول، وإنما لأنني بدأت أسأم قراءة الصحف الرصينة «المتوازنة». وإذا كانت الديمقراطية، حتى ولو صبغت بأحمر شفاه أميركي فاقع هي البضاعة الفاخرة التي تتصدر كل واجهات الدكاكين السياسية المعاصرة، فلماذا لا يسمح للأوغاد أن يعبروا عن وجهة نظرهم، وأن تكون لهم مجلة تنطق باسمهم؟ لقد دهشت بعد قراءة افتتاحية رئيس التحرير فريدريك باجاك التي تزعم أن الأوغاد ليسوا أقلية مهمشة في المجتمع وإنما جماعات كثيفة غير منظمة، ولو رشحوا واحداً منهم للانتخابات، لكان من المرجح أن ينجح، وأن يشكل جماعة مستقلة في مجلس الشعب.
الهاجس الذي يؤرق جفون الأوغاد هو اكتشافهم أن كل ما هو جميل ونبيل وطيب محصور في الماضي، وأن كل ما هو قبيح، غث، مرذول هو حديث ومعاصر. وإذا كان «التقديس» هو الموقف الذي ينبغي أن نتخذه حينما نقف أمام عظمة التاريخ، العابق بالأرج والعطر، فإن «التخريب» هو ما يغلي في داخلنا حينما نصدم ببشاعة المدن الحديثة، وما تفرزه من أوساخ وتلوث. يقول بطل رواية فيليب هارول وهو من الروائيين الأوغاد الموهوبين: «حينما أعود الى بيتي الإسمنتي، المؤلف من غرفتين ضيقتين وحمام مشؤوم ومرحاض مقشر أشعر برغبة في البكاء. وأول ما يخطر على بالي هو أن أحمل فأساً حاداً وأحطم كل شيء بلذة ونشوة، وأن أصيح كالكنغرو: إلى الجحيم يا حضارة القرن الحادي والعشرين».
ـ 2 ـ
زعيم أدب الأوغاد هو ميشيل هولبروك الذي أثار ضجة كبرى حينما أصدر روايته الشريرة «المنصة» الطافحة بالحقد والكراهية والحسد، والتي يعلن فيها بكل وقاحة: «نعم، أتلذذ حينما أرى الأبرياء الفلسطينيين يقتلون بقسوة وفجور، وأتمنى لو ننجح في إبادتهم جميعاً، أليس هذا ما يدعونا إليه ساستنا الفخورون بحضارتهم وديمقراطيتهم؟ ألن يصبح العالم أجمل وأنظف لو اختفى هؤلاء البؤساء، بشهدائهم، وتوابيتهم، وعويلهم، ونحيب نسائهم، وبقايا منازلهم المهدمة، ومزارعهم المحروقة؟».
ولا يخفي هولبروك في روايته الثانية «كونوا أحياء» رغبته في تيئيس جيله وتجريده من إرادة التحرك، وخلف امتداح الغثاثة تكمن كراهيته للتحنيط والبرمجة. إنه يصرخ في المثقفين: «عالجوا الموضوعات التي يرفض الكل معالجتها وأظهروا الوجه الآخر للديكور، تحدثوا عن المرض، القلق، الاستباحة، تحدثوا عن الموت عن الحسد، عن عدم الاكتراث، عن الإحباط، عن جنازة الحب، أريدكم أن تكونوا أنذالاً، وإلاّ حكمت عليكم بالجبن، نعم، أطالبكم بالنذالة، فهذا يجعلكم مخلصين لإنسانيتكم».
ـ 3 ـ
كل واحد منّا معرض للتساؤل التالي: «ماذا أفعل أمام الاضطهاد والاستبداد؟ هل أقبل أن أتعرض للخطر وأقامر بعملي والمجازفة بحياتي لإنقاذ أناس أبرياء؟ أم إنني أفضل الإذعان للخوف، للضغوط والتواطؤ، وهكذا أساعد على ارتكاب الجرائم» قد لا نشعر بأننا نملك القدرة على أن نكون أبطالاً ولكننا أحياناً نشعر بأننا مؤهلون لأن نكون جلادين.
رواية وفيلم أثارا إعجاب القراء والمشاهدين هذا الشهر: الرواية لجوناثان ليتل الأميركي الذي يكتب بالفرنسية وعنوانها «المتسامحون»، تروي قصة ضابط نازي يمارس التعذيب براحة ضمير، والفيلم واسمه «حياة الآخرين» يروي قصة عميل للمخابرات الألمانية الستاسي. والعضو البارز في الحزب الشيوعي الألماني والذي كان يصفي المشتبه بهم بلذة ظاهرة. ما يثير الدهشة هو الإعجاب الكبير بشخصية الجلادين في الرواية والفيلم، ما دفع بالكثير من المثقفين للتساؤل: هل أصبح الجلاد هو البطل الحقيقي في هذا العصر الرديء، لقد كان التركيز في الرواية والفيلم على معاناة الجلادين الداخلية، وعلى وصف عملية تحول الإنسان الطبيعي إلى بربري.
ـ 4 ـ
لا أدري ما الذي أغراني بحضور ندوة حول «البطر في المجتمع المعاصر» نظمتها مجلة الأوغاد: هل هي مازوشية مطمورة في لا شعوري؟ أم تطلع جانح نحو العملقة كما يزعم علماء التحليل النفسي؟ كل ما في الأمر أنني كنت متعباً ومرهقاً، وتوجعني المشاهد التي تعرضها شاشات التلفزيون عن يوميات الشرق الأوسط الفاجعة. كنت أتوقع أن استمع الى شهادات كتّاب فرنسيين «أوغاد ومتبرجزين» عن بطر المجتمعات الغربية واستهتارها بالموارد والثروات في حين يحتضر العالم الثالث وتنهب ثرواته وتسلح طوائفه واثنياته لتخوض حروباً أهلية دامية، ولكنني فوجئت بمباريات ثقافية تطرح البطر والفخفخة قديماً وحديثاً لتجعل منهما أهم إنجازين حققتهما الحضارة، ولولاهما لما اختلف الإنسان عن الحيوان.
السؤال ـ الفضيحة الذي استأثر بالمناقشات والحوارات هو: «كيف يجوز أن نولي البطر ومظاهر البذخ الوقحة كل هذه الأهمية في عصر تتلاحق فيه الكوارث والانهدامات؟». والجواب ـ الفضيحة هو أن الإنسان ليس مصنوعاً من النوازع والصبوات الأخلاقية فحسب، وإنما هو مصنوع من الغثاثة والحماقة. كان أحد الحكماء يقول: «يخجل الإنسان من المجاهرة بسعادته حينما يشاهد مظاهر البؤس من حوله: هناك أناس يملكون كل شيء وآخرون لا يملكون شيئاً، وهذا واقع مؤلم وموجع» إن وجهة نظر الأوغاد تؤكد أن الإنسان، من دون النزوع الى البذخ والبطر يفقد إنسانيته، ولا يتجاوز الحيوانية التي لا همّ لها إلا تأمين البقاء وتوفير الحاجات الأولية. ألم يقل شكسبير: «جردوا الإنسان من الغثاثة وسيفقد إنسانيته الى الأبد» ثم أليس عالم اليوم بعد أن سقطت أليوتوبيات «الفراديس» السياسية والاجتماعية بحاجة الى الأمل في حياة أفضل، يقول أحد المتحمسين في الندوة: «لم يعد البطر الجزء الملعون من وجودنا ولكنه الجزء المقدس منه، إنه الحلم، إنه القدرة على التجاوز، إنه الطموح، الشوق الى السفر في المجهول».
ـ 5 ـ
حينما خرجت من الندوة بدا لي أن مظاهر البطر تزحف إلينا من الجهات الأربع لتولد عندنا عاهات مستديمة. إنها نوع من التورم الاصطناعي الذي يتستر على عوراتنا، وقد نحتاج الى جهود فائقة الى التحرر منه. هناك البطر السياسي أولاً الذي يتجلى في المجاهرة بسياسات فضفاضة باذخة لا تتناسب مع حجمنا، ولا مع طاقاتنا، ما ولد طلاقاً تاماً بين شعاراتنا السياسية المطروحة وممارساتنا الفعلية، كما ولد أزمة ثقة بين السلطة التي تبيعنا قصوراً في إسبانيا وجماهير الناس التي لا تنتظر المعجزات، وإنما تقنع بما هو مستطاع. وهناك البطر الاجتماعي ثانياً القائم على المبالغة في حجم مراكزنا الوظيفية وأهميتنا المسلكية، بحيث يخيل إلينا أننا جميعاً مديرون عامون ورؤساء مسؤولون، في حين إن بعض صلاحياتنا في بعض الأحيان لا تتجاوز طقطقة الأصابع. ما علينا إلا الاستماع الى أدعياء الثقافة الذين يفاخرون بشهادات لم يحصلوا عليها، أو موظفين يتحدثون عن صلاحيات لم تمنح لهم، وقدرات غير مؤهلين لها.
إننا نتسوق الأهمية مجاناً دون أن ندفع ثمناً لها، وهناك أخيراً البطر الاقتصادي القائم على اقتناء ما هو فاخر من الخارج ولو كان مزوراً، واستبخاس ما هو وطني ولو كان من النوع الجيد، إننا مولعون بما هو موقّع عليه من العلامات المسجلة المعروفة، وندفع الغالي والرخيص من أجل الحصول عليه والتفاخر باقتنائه، وما علينا إلا أن نشاهد هذه الطوابير من المواطنين الذين يتهافتون على حوانيت السلع الفاخرة أصالة أو تزويراً، ولا همَّ لهم إلا الحصول على السلع التي تحمل علامات أجنبية Signee متداولة في سوق الفخفخة والمباهاة.
وواقع الحال أنه لم يعد الهدف الانتساب إلى النخبة وإنما الشعور بالراحة الذاتية، كان نيتشه يقول: ما أجمل أن أشعر بأنني متفرد عن الآخرين!، وقد يكون ما دفع هؤلاء المهووسين هو الشعور أنهم أصبحوا يستحقون ما حصلوا عليه، لا مجرد الشعور أنهم قد اقتحموا أسوار طبقة النخبة، إننا نستهلك اليوم أضعاف ما كنا نستهلكه سابقاً ولكن لا يبدو أن متعة الحياة الرغيدة قد أصبحت في متناول يدنا، بل لعل العكس هو الصحيح: كلما تضاعف اقتناؤنا للسلع الفاخرة ازداد «شبقنا» للحصول على المزيد منها.
غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد