عن البابا الألماني والأسقف البريطاني والمحرقة اليهودية
ما قصة هذا البابا الألماني الذي لا ينفك كل فترة من الزمن يثير عاصفة هوجـاء من المواقف والردود الغاضبة حيال موقف هنا أو هناك؟ لنستمع لما يقوله هانس كوينغ، بروفسور اللاهوت من جامعة توبنغن، التي درس ودرّس فيها البروفسور راتسينغر أو البابا الحالي بيندكتوس السادس عشر، موّصفاً حالة السخط والبلبلة التي تهيمن على أجواء الصحافة والسياسة في ألمانيا والعالم، إثر قبول البابا للأسقف البريطاني ويليامسون في الكنيسة الكاثوليكية: «المشكلة الرئيسية هي البابا نفسه، الذي يسعى لاستعادة الوحدة والقوة للكنيسة، لكنه يفعل ذلك من خلال إلحاق الضرر الكبير بالعلاقة مع الآخرين. بالأمس أثار حفيظة المسلمين والآن اليهود. ولأن هذا كله يحصل من قِبل بابا ألماني فهذا يصعب المسائل ويزيدها تدهوراً، بحيث يصبح معها ترميم البورسلين المكسور غير ممكنٍ...»، كما يقول في دير شبيغل، على خلفية صفح البابا عن الأسقف ويليامسون.
غير أن لويليامسون هذا مواقف مثيرة للجدل حيال الـ«هولوكوست»، إذ يرى أن أعداد ضحاياها المتداولة (أكثر من 6 ملايين) مبالغ فيها جداً. وأن الحجم الحقيقي لضحايا هذه المجازر التي ارتكبت بحق اليهود، يتراوح بين 200 و300 ألف ضحية على أبعد تقدير. كذلك ينفي أن يكون أياً من الضحايا قد سقط من جراء الإعدام في غرف الغاز، وفق ما تفيد الروايات المعتمدة.
ويليامسون هو أحد أساقفة طائفة أو رعية أخوان بيوس المسيحية. يقدر أتباع هذه الطائفة بأكثر من نصف مليون شخص عبر العالم، وقرابة 500 أسقف، 50 منهم على الأقل من الألمان. ويحمل كثير من اليهود على البابا بيوس الثاني عشر (1939-1958) الذي تنتمي إليه هذا الطائفة، إنه صمت عن الإبادات الجماعية التي تعرض لها اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية. وكان ويليامسون، إضافة إلى ثلاثة أساقفة آخرين قد حرموا من عضوية الكنيسة الكاثوليكية في ستينيات القرن المنصرم، إثر رسامتهم كأساقفة من دون إذن البابا يوحنا بولس. أطلق هذا القرار آنذاك أول شرارة انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية في العصر الحديث.
لا أحد يستطيع الجزم بالأسباب الحقيقة التي دعت لظهور قضية المحرقة مباشرة بعد المجازر الوحشية التي اقترفها الجيش الإسرائيلي في غزة، بحيث طغت على كل ما عداها من أحداث.. حتى أن المستشارة ميركل أبدت استغرابها من موقف البابا هذا وطالبته بتوضيح موقفه. لكن رد البابا جاء عبر متحدثه الرسمي: «الموقف لا يمكن أن يكون أوضح من ذلك...».
لا تزال القضية تتفاعل إذا، فيما تشن الصحف الألمانية حملة شعواء على البابا وموقفه هذا. ولم تقتصر الحملة على الأصوات اليهودية التي عبّر رئيس الجالية اليهودية في ألمانيا سالمون كورن عنها: «الآن سوف يكون بإمكان أي يميني متطرف أن يقول: البابا ضم إلى كنيسته ناكراً للمحرقة...»، إنما تعداه الى رجال من الكنيسة هنا ومن الأحزاب المسيحية وغيرها. وبدأت الأصوات المتطرفة تعلو مطالبة بطرد الأسقف «الدجال» من الكنيسة: «أرسله إلى الجحيم!»، عنونت جريدة «إكسبرس» اليومية الواسعة الانتشار. أما «ديرشبيغل» فحفرت في عمق تاريخ العداء بين الكنيسة واليهود.
قليلة وخافتة هي الأصوات التي أبدت بعض التفهم لموقف البابا الراهن. بعض هذه الأصوات رد الأمر إلى قلة خبرة أو سوء نية معاوني البابا والإدارة في الفاتيكان، التي عرضت مرسوم قبول ترشيح الأسقف ويليامسون المثير للجدل، دون أن تضع البابا في صورة مواقفه إزاء الـ«هولوكوست».
وفيما بدا أنه محاولة منه لتهدئة الأزمة، أعلن البابا عن تضامنه الكامل مع اليهود، مطالباً الأسقف البريطاني أن يعيد النظر في مواقفه من المحرقة. رد ويليامسون جاء في مقابلة نشرتها «ديرشبيغل»: «أنا أريد إخضاع المعطيات والأدلة التاريخية المتعلقة بالمحرقة للفحص العلمي، ومن ثم أصلح موقفي بناءً على النتائج. لكن هذا يحتاج بلا شك إلى وقت...».
لا شك أن الأسقف البريطاني المذكور قد طرق موضوعاً محرماً، يحيطه اليهود وأنصارهم هنا بأسيجة عالية من الحظر والمنع والتحريم، وحتى المعاقبة القانونية لكل مشكك في تلك الأحداث. لكن على الرغم من هذا الحظر فإن التشكيك بأمر الروايات المقدمة لأعداد ضحايا الـ«هولوكوست»، يبدو أنه يشق طريقه إلى النور، ليس بهدف تبرير تلك المجازر الأليمة، وإنما بهدف التقليل من حجم التوظيف السياسي لها.
ناجي طاهر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد