علاء الأسواني: مواطنون أم أبناء قبيلة؟

29-10-2013

علاء الأسواني: مواطنون أم أبناء قبيلة؟

أثناء دراستي في الولايات المتحدة كنت أعيش في سكن الطلبة التابع لجامعة ألينوي، كان زملائي في السكن من كل أنحاء العالم وبينهم بعض الطلبة العرب الذين كنت أتبادل معهم التحيات والأحاديث العابرة. ذات يوم جاءني زميل عربي وقال:
«معنا في الجامعة زميلة عربية (ذكر اسمها وبلدها) وهي على علاقة بطالب بولندي. هل رأيتهما؟
كنت قد رأيتهما من قبل في حديقة السكن والمطعم وبدا لي أنهما في حالة من الغرام العارم. استطرد الزميل قائلا:
ـ هذه الفتاة منفلتة أخلاقياً وهي تتبادل القبلات علناً مع رفيقها البولندي من دون احترام لمشاعرنا نحن العرب في الجامعة. إن دمنا حر ولن نقبل هذا الخزي أبداً. لقد حصلنا على بيانات أبيها كاملة وقررنا أن ننذرها، أولا لعلها تترك رفيقها البولندي وتعود الى الصواب وإلا فإننا سنخبر أباها بتصرفاتها الداعرة».
قلت: «ألا تلاحظ أنكم بذلك تتطفلون على إنسانة لا تعرفونها وتحشرون أنفسكم في حياتها الشخصية.. إنها ليست قاصراً ولستم أوصياء عليها».
بدت الصدمة على الزميل وصاح:
«يا أخي هل أنت عربي..؟ هل تقبل عروبتك أن ترى فتاة عربية تتبادل القبلات مع عشيقها الأجنبي أمام عينيك فلا تغضب ولا تثور.. أمرك غريب فعلا».
قلت له:
«أنا مسؤول عن نفسي فقط، ولست مسؤولا عن ملايين النساء العربيات، ثم إذا كنتم تعتبرون أنفسكم مسؤولين عن هذه الفتاة فلماذا لم تساعدوها في أي شيء من قبل، ولماذا تتدخلون الآن بغرض قمعها وتهديدها بسبب تصرفات شخصية»؟
بعد نقاش عبثي أكدت له انني لن أشترك معهم في «الشرطة الأخلاقية» التي شكلوها، فانصرف وهو يشيعني بنظرة احتقار صريحة، وعرفت بعد ذلك أنهم فعلا واجهوا الفتاة بغضبهم من سلوكها. فردت عليهم بأنها حرة في حياتها، ثم تقدمت ضدهم بشكوى الى إدارة الجامعة التي استدعتهم للتحقيق، فكفوا عندئذ عن ملاحقة الفتاة خوفاً من العواقب.
هذه الواقعة تدل على أن بعض الناس، بالرغم من حصولهم على قسط راق من التعليم، لا يتصرفون باعتبارهم مواطنين أحراراً وإنما باعتبارهم أعضاء في قبيلة. لقد أحس هؤلاء الطلبة بالغضب لأن فتاة لا يعرفونها عشقت رجلا لا يعرفونه لمجرد ان الفتاة عربية، وهم يعتبرون أن العرب جميعاً أعضاء قبيلة واحدة كبيرة، وبالتالي فإن كل فتاة عربية تعشق رجلا غريباً يصبح من واجبهم ردعها أو الانتقام منها. ان انتشار التفكير القبلي في مجتمعاتنا العربية يشكل عائقاً حقيقياً أمام بناء الديموقراطية. إن ثقافة القبيلة تتناقض مع الديموقراطية لأنها تؤسس للاستبداد والظلم والتمييز اذ تعتمد على المبادئ التالية:

أولا: المسؤولية الجماعية

بينما تؤكد الثقافة الديموقراطية ان المسؤولية فردية، بحيث يصبح كل مواطن مسؤولا فقط عن تصرفاته التي فعلها بارادته الحرة، فإن التفكير القبلي يعتمد مبدأ المسؤولية الجماعية، فيعتبر مثلا ضباط الشرطة جميعاً مسؤولين عن جرائم التعذيب وقتل المتظاهرين التي اقترفها بعض زملائهم، ويعتبر الأميركيين جميعاً مسؤولين عن جرائم الجيش الأميركي في العراق، ويعتبر اليهود جميعاً في كل أنحاء العالم مسؤولين عن جرائم اسرائيل (حتى لو كانوا معارضين لها) ويعتبر الأقباط مسؤولين عن تصرفات أي قبطي، فعندما أنتج أحد أقباط المهجر فيلما يسيء للإسلام، أطلق شيوخ الاسلام السياسي لعناتهم وشتائمهم ضد الأقباط باعتبارهم مسؤولين جميعاً عن الفيلم المسيء.. إن مبدأ المسؤولية الجماعية يمنع قيام الدولة الحديثة التي تقوم على أن كل مواطن له حقوق وعليه واجبات لا تتغير طبقاً لدينه أو مهنته أو جنسه.

ثانياً: التعصب المهني

عندما تقرر تحويل روايتي «عمارة يعقوبيان» الى فيلم فوجئت ببعض الصحافيين يتقدمون بشكوى ضدي الى نقابة الصحافيين يعتبرون فيها ان شخصية الصحافي الشاذ في الرواية تسيء الى الصحافيين جميعاً، وقد طالبوا بحذف الشخصية من الفيلم أو منحها أية مهنة أخرى غير الصحافة، حتى لا يفهم الجمهور أن بين الصحافيين شواذاً جنسياً. كان نقيب الصحافيين آنذاك مثقفاً كبيراً هو الاستاذ جلال عارف، الذي بادر بحفظ الشكوى وأكد لي ان نقابة الصحافيين ـ قلعة الحريات ـ لا يمكن أن تحاسب مؤلفاً على خياله. لكن ما حدث معي، تكرر عشرات المرات، فما أن تظهر شخصية سيئة في فيلم أو مسلسل إلا ويعلن من يشاركونها في المهنة احتجاجهم الشديد. اذا كانت الشخصية المنحرفة محامياً يحتج المحامون، واذا كان طبيباً يرفع الأطباء دعوى لمنع عرض الفيلم او المسلسل. هذا التعصب المهني جانب من التفكير القبلي، وهو يشكل قيداً مزعجاً على حرية الإبداع، لكنه أيضاً قد يأخذ طابعاً معادياً للديموقراطية عندما يحاول أصحاب كل مهنة انتزاع مكاسب تخصهم وحدهم، كما يحدث الآن في لجنة كتابة الدستور، فالقضاة يرفضون إخضاع ميزانية نادي القضاة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، ويريدون إدراجها كرقم واحد غير قابل للنقاش أمام مجلس الشعب، والعسكريون يصرون على استمرار محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهو سلاح في يد السلطة تم استعماله لتأديب المعارضين وقمعهم منذ العام 1954 وحتى الآن، كما يرفض العسكريون الاعتراف بحق الرئيس في تعيين وزير الدفاع (وهو الأمر المتبع في كل الدول الديموقراطية) لأنهم يعتقدون أنه لا يجوز لرجل مدني حتى لو كان رئيساً انتخبه الشعب أن يحدد من يرأس الجيش.

رابعاً: صناعة رمز الوطن

في البلاد الديموقراطية يعتبر الناس رئيس الجمهورية موظفاً عاماً، من حقهم وواجبهم أن يوسعوه نقداً وتوبيخاً اذا أخطأ، واذا لم ينصلح أداؤه فإن البرلمان يسحب الثقة منه ويطرده من منصبه. في هذا الاطار هناك في الغرب مئات البرامج الكوميدية التي تسخر من أداء كبار المسؤولين وأولهم رئيس الجمهورية الذي يتقبل دائما ان يكون مادة للدعابة، لأنه يدرك أن النقد الموجه اليه، مهما يكن مؤلماً أو جارحاً، الغرض منه أولا وأخيراً تحقيق الصالح العام وليس الإهانة الشخصية. أما في مصر فإن التفكير القبلي يدفعنا الى رفع الحاكم فوق مستوى البشر العاديين. الحاكم بالنسبة الينا ليس موظفاً عاماً وإنما هو والدنا الذي ننحني لنقبل يده، ورمز الوطن الذي يعتبر نقده قلة أدب وربما خيانة. الدليل على ذلك ما يحدث مع الاعلامي الموهوب باسم يوسف الذي اشتهر بتقديم صور كاريكاتورية تسخر من شخصيات عامة في برنامجه الشهير الممتع (وإن كنت أتمنى أن يتخلص من التلميحات الجنسية التي تسيء اليه). خصص البرنامج حلقات كاملة للسخرية من الرئيس المعزول، وعندما اعترض أنصار «الاخوان» وقف الجميع لمساندة باسم يوسف دفاعاً عن حرية التعبير، ثم ثار المصريون ضد مرسي وعزلوه، وانحاز الجيش لارادة الشعب وعاد برنامج باسم يوسف ليستأنف طريقته المعتادة، فقدم بعض الدعابات ضد الفريق السيسي، هنا قامت الدنيا ولم تقعد، وتبرأت قناة «سي بي سي» من البرنامج الذى أنتجته، واعترض كثيرون على إطلاق الدعابات ضد الفريق السيسي، لأنه قائد الأمة ورمز الوطن... الى آخر هذه العبارات التى قيلت نفاقاً عن كل رؤساء مصر السابقين بلا استثناء. الفريق السيسي أدى مهمة وطنية عظيمة وجنب مصر الحرب الأهلية وحمى ارادة الشعب. كل هذا صحيح، لكن الفريق السيسي لا يجب أن يكون رمزاً للوطن، لأن رمز الوطن الوحيد يجب أن يكون المواطن الذي أقيمت الدولة أساساً من أجل تحقيق مصالحه وحماية حقوقه.
السير ونستون تشرشل (1874 ـ 1965) قاد بريطانيا الى النصر في الحرب العالمية الثانية واستمد منه الانكليز شجاعتهم في أصعب الأوقات، وبالرغم من ذلك، فقد سقط تشرشل العظيم في أول انتخابات عامة أجريت بعد الحرب، أحب الانكليز تشرشل واعتبروه بطلا قومياً لكنهم لم يؤلفوا الاغاني في حبه وتمجيده ولم يعتبروه رمزاً للوطن، بل أسقطوه في الانتخابات لأنهم اعتقدوا ان بريطانيا تحتاج بعد الحرب الى سياسي آخر غير تشرشل يحمل لها أفكاراً جديدة وسياسات مبدعة مختلفة.. إن صناعة الفرعون التي يتقنها للأسف بعض المصريين هي المسؤولة عن كل الكوارث التي حاقت بنا. كان عبد الناصر زعيماً عظيماً لكننا صنعنا منه فرعوناً فحاقت بنا هزيمة 1967 المنكرة وصنعنا من السادات فرعوناً فحدثت الثغرة في حرب 1973 ووقعت مصر في براثن الانفتاح الاقتصادي الذي ألقى بملايين المصريين في هوة الفقر أو أجبرهم على الهجرة، ولولا أن صنع بعض المصريين من مبارك فرعوناً لما ساد الفساد في عهده ولما استمر في الحكم ثلاثين عاماً بالقمع والتزوير، ولما جرؤ على محاولة توريث مصر لابنه وكأنها مزرعة دواجن.
لن تنجز الثورة أي تغيير ما دام الفكر القبلي موجوداً في أذهاننا.

علاء الأسواني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...