طرطوس في "البشرة المالحة" يا له من فقر جميل
<لا شك أن في الملح قوة مقدسة عجيبة، فهو كائن في دموعنا وفي البحر>. مقطع افتتاحي مستلّ من كتابات جبران خليل جبران، يأخذه المخرج السوري نضال حسن أشبه بمنارة لفيلمه الروائي الأول <البشرة المالحة>، الذي يحكي مقاطع من حياة مدينته البحرية طرطوس. ومنه يهتدي إلى الملح كقوة غامضة تفعل، حسب المخرج، في الجسد البشري، ما تفعله في المعدن، وفي الأسماك. والفيلم يحاول بصرياً أن يتنقّل بين هذه العناصر، ليستكشف الآثار المتشابهة، ومرة أخرى حسب المخرج، التي يلقيها الملح على العناصر، إن كان على مستوى اللون، أو الانسيابية، انسيابية الجسد البشري التي تشبه انسيابية الأسماك، قتامة الجسد البني المحروق إلى جانب قتامة المعدن، ثم إلى جانب قتامة الأسماك، التي بدت وكأنها استعارة من أسماك يوسف عبدلكي. ولذلك سيترك الفيلم لأبطاله حرية الظهور عراة، عري يكشف اللون، يخلطه أحياناً بالرمل والمعدن، كما يكشف عن تلك الانسيابية.
<البشرة المالحة> مقاطع من حياة بحرية، ولكن تلك الحياة الأكثر فقراً، التي تعيش شخصيات الفيلم في كنفها، الفقر الذي تراه على الشاشة فتحبه، وتقول يا له من فقر جميل. ولا يستبعد المخرج الفكرة ويتحدث عن جماليات الفقر، الذي ينبغي أن يكون صافياً على الشاشة ليعطي هذا الانطباع، الصفاء الذي تؤكده أيضاً قوة اللون، وضوحه وبساطته. بالإضافة إلى تلك الحياة البسيطة التي تخلد إلى البحر، إلى شخصيات كل همها وانشغالها أن تذهب إلى البحر وتؤوب منه.
يتمحور الفيلم حول حياة طفلين (هيثم وأحمد) في واحدة من صيفيّات طفولتهما، التي تروى على لسان أحدهما بعد انقضاء زمن. ورغم أن الفيلم يحكي يوميات عادية جداً من حياة المدينة الساحلية، فإن حياة الطفلين تبدو في ذلك الصيف كما لو كانت مغامرة سندبادية. فيها البحث في ظلام الباخرة المهجورة والصدئة المركونة على شاطئ بحر طرطوس (يكتب عليها أحد الأطفال تايتانك)، وفيها الرحلة إلى الجزيرة (أرواد) بعد حصول أحمد على مبلغ من المال يعفي صديقه من العمل كبائع في السوق، وفيها البحث عن أسطورة تشبه حكاية المصباح السحري، أو ما يسميه الفيلم <علي البحر>، الذي، على ما يقول المخرج، يعتمد أسطورة شعبية، اللافت فيها أولاً هو الاسم، حين يكون للبحر أيضاً عليُّهُ ومخلّصه، وكذلك يلفت ذلك الإيمان الذي لدى الناس بأن علي البحر سيستجيب إليهم حين ينادون. وعلى ذلك سنرى إلى الطفلين يصعدان <التايتانك> يناديانه تارة باللعب، وتارة حين تشتد وتيرة الظلم، وهذا هو الوسط الذي يتنفسانه، ولكن إذا كان أحد الطفلين (أحمد) يظل يؤمن حتى النهاية بعلي البحر، فإن الآخر، الذي يفترض أنه الراوي، يختتم الفيلم بموجة غضب عارم حين لا يستجيب المخلّص، فيروح الطفل يضرب حديد الباخرة، كما لو كان يعلن يأسه من مخلصه، وفي النهاية يقول الطفل، الذي صار راوياً، إن هذا هو الفارق بينه وبين صديقه الذي ظل يؤمن لأنه بقي طفلاً، فيما فقدنا، نحن الذين رحنا نكبر، ذلك الإيمان. لا شك في أن ظهور علي البحر للطفل الراوي على ذلك النحو الذي ظهر فيه، إذ ظهر هو الآخر جائعاً، نحيلاً، خائفاً، وبعينين تائهتين، أسهم في زعزعة إيمانه.
بين التسجيلي والروائي
لكن القضية برمتها ليست هنا، أو لا ينبغي أن تكون في الحكاية الضعيفة التي ابتدعها الفيلم ووجد نفسه مضطراً ليقفلها على نحو درامي في آخره، فقوة الفيلم في تصوير نتف من حياة ذلك المجتمع البحري الصغير، نتف متجاورة ومعبرة، من حكاية الريس محمد، صاحب أكبر عدّة صيد في المنطقة، والذي يشكل في الفيلم رمزاً للظلم والاستغلال، وسبباً لانتفاضة واحد من الطفلين الذي كان سيجد أن مستقبله، وصديقه، عاملاً ذليلاً عند هذا الرجل، الأمر الذي يدفعه للتسلل وتمزيق الشباك، إلى أن يقبض عليه فتصبح هذه المشكلة سبباً في تركه للدراسة. إلى كشاش الحمام خضر، ابن الريس محمد، الذي تعلّم القسوة من والده، بل صار قاسياً لشدة ما قسا عليه الأب، إلى حكاية والد الطفل الراوي الذي فقد إحدى ساقية في حرب تشرين ,1973 إلى بطالة الأزقة المشغولة بلعب النرد، أو حتى بالنوم، إلى ذلك التأكيد المستمر على تداخل البيوت، فقرها وحميميتها، إلى تأكيد الكاميرا دائماً على صور وشعارات الحيطان التي تشكل زمناً هي أيضاً، كذاك الذي تكرر مراراً وبوضوح: <سوريا الأسد>، كما لو كان الشعار اختصاراً لزمان ومكان.
تفاصيل كثيرة أظهرها الفيلم، لم تكن كلها لازمة للحكاية، حتى بدا وكأن الفيلم تسجيلي، وما أعطى هذا الانطباع اعتماد الفيلم على شخصيات من البيئة ذاتها، لتمثل أدواراً قد تكون مجاورة لها، والممثلون، خصوصاً الطفلين، قد برعوا فعلاً في الأداء على نحو مقنع ومؤثر، حين نسأل المخرج لماذا استغنى عن ممثلين محترفين يقول إنه لم يكن ممكناً العثور على أطفال محترفين في التمثيل، كما لا يمكن الاستعانة إلى جوارهما بممثلين محترفين فيخشى أن يستأثروا بعين المتفرج. أما عن الالتباس بين التسجيلي والروائي فيقول إنه حتى الفيلم التسجيلي غالباً ما يبدو روائياً، فصحيح أنه يعتمد شهادات وصوراً مسجلة، سوى أن إعادة منتجتها لا شك سيجري تركيبها بطريقة روائية.
ليس جديداً فيلم نضال حسن، فهو من إنتاج العام ,2003 ولكننا إذ نعيد اكتشافه مع عرضه للجمهور السوري أخيراً في <تظاهرة الوردة>، نكتشف مخرجاً مقنعاً في استخدام أدواته السينمائية، وواعداً، على ما يبدو، بالكثير.
راشد عيسى
المصدر السفير
إضافة تعليق جديد