سوريا إسلامية أم علمانية.. وهل يصلح الخلط بين الإثنتين؟
حين بدأ الحرَاك في سوريا، عابَ عليه الكثير من الباحثين والمُفكّرين خروجه من المساجد والجوامع الّتي شكّلت منطلقاً لمعظمِ التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، الأمرُ الّذي ساهم، بالشراكة مع جملة عوامل أخرى، في تسريع أسلمة «الثورة».
لم يستورد الحراك المعارض للنظام رجالاته من كوكبٍ آخر، فالمتظاهرون الأوائل كانوا مواطنين سوريين، ينتمون إلى جمهوريةٍ يَقول عنها منظّرو الفريق الحاكم إنّها «علمانية». وعليه، واستناداً إلى تنظيراتهم، فإنّنا ملزمون بمكاشفة أنفسنا بتساؤلٍ ملحّ يقول «إذا كانت سوريا دولةً علمانيةً بحقّ، فمن أين جاءت البيئة الحاضنة لكلّ هذه الراديكاليات والأصوليات الإسلاميّة؟ وكيف استطاع «المتآمرون» أن يُحقّقوا هذا النجاح المُدهِش في شقّ المجتمع السوريّ وتقسيمه إلى زمرٍ طائفيّة ينادي بعضها بإلغاء البعضِ الآخر؟
الحقيقة أنّ سوريا في زمن «البعث» لم تكن يوماً علمانيّة ولا يُمكن أن تكون. فـ «البعث» واجهة العروبة، والعروبة لا يمكن أن تنسلخ عن الإسلام. والمُشرّعون السياسيّون في سوريا لا زالوا يحاولون أن يحيطوا بأسباب المجد جميعها على مبدأ «من كلّ بستانٍ زهرة». فهم يُصرّون على اعتبار الفقه الإسلاميّ مصدراً للتشريع السياسيّ، وعلى طرف النّقيض، نجدهم يتباهون، في كلّ مناسبةٍ ممكنة، بسوريا العلمانيّة الّتي لا فرق فيها، أمام القانون، بينَ مواطنٍ وآخر.
يذهب البعض إلى حدّ اعتبار النظامِ في سوريا مرغماً على احتواءِ الإسلاميين وتقديم تنازلاتٍ لهم، وذلك تبعاً لديموغرافية البلاد. بعبارةٍ أخرى: فإنّ الأقليّات الحاكمة، بالمعنى الطائفيّ، لا تستطيع أن تُهمل الثقل الوازن للأكثرية المحكومة، ضمن المعنى ذاته، خوفاً من تمرّدات من شأنها أن تُسقط نظام الحُكم. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ النظام في سوريا كان حريصاً، منذ انقلاب «البعث»، على تمتين علاقته برجال الدّين وشيوخ العشائر، فهو يعتبرُ أنّ هؤلاء قادرون على مساعدته في منع انفلاتِ أمنِ البلاد وذلك استناداً إلى ما يتمتّعون به من سلطانٍ ضمن مجتمعٍ لا زال الدّين فيه يقبضُ على مفاصلِ حياته جميعها.
لم يتردّد الرئيس الراحل حافظ الأسد في اللجوء إلى القوّة للتعامل مع التمرّد المسلّح لجماعة «الإخوان المسلمين» العام 1983، الأمر الّذي كلّفه أثماناً باهظة، فوجد نفسه محاصراً اقتصادياً وسياسياً، وسارعت أطرافٌ كثيرةٌ إلى اتّهامه بمعاداةِ الإسلام، وذلك استناداً إلى معضلةٍ فقهيةٍ برزت بُعيد كتابة الدستور العام 1973، وكانت تعتبر أنّ العلويين ليسوا من سنّة الإسلام وليسوا من شيعته، وأنّهم ليسوا فرعاً أصيلاً منه حتّى (جاءت فتوى الإمام موسى الصّدر لتقلب العداءَ بين العلويين والشيعة إلى شكلٍ من أشكالِ التحالف السياسي الّذي ما زال مستمرّاً حتى اليوم)، وهذا ما يُفسّر إصرارَ الأسدِ الأب على الاحتفاءِ بالإسلام، كوسيلةٍ لدحضِ جملةِ الاتهامات السابقة، فسارع إلى إنشاءِ مدارسَ ومعاهد لتحفيظ القرآن، وعرفت سوريا في عهده كثافةً غير مسبوقةٍ في معدّلات بناءِ المساجد والجوامع.
لم يتغيّر الحال كثيراً في عهدِ الأسد الابن. فالرّئيس الشّاب الّذي تلقّى علومه في بريطانيا، حاول أن ينقل البلادَ إلى عتبةٍ جديدةٍ من الانفتاح من دون أن تُثير سياسته المُحدثة حفيظة أصحابِ الفكر الإسلاميّ في سوريا. إلّا أنّ إجراء مقارنةٍ بسيطة بين عدد المسارح ودور العرضِ السينمائيّ والمراكز الثقافية في العاصمة دمشق وريفها من جهة، وبين عدد المساجد والجوامع ودور تحفيظ القرآن ضمن الجغرافية ذاتها من جهةٍ ثانية، سوف يضعنا أمام نتيجة نستطيع أن نصفها، من دون مبالغةٍ أو تهويل، بالكارثية، إذا ما قيست بالعمق الحضاري والفنيّ للشام (في دمشق وريفها: ثلاثة مسارح وداران للعرضِ السينمائيّ، وأقلّ من عشرين مركزاً ثقافياً مقابل أكثر من عشرةِ آلاف جامعٍ ومسجد ودارِ تحفيظِ قرآن). يُضاف إلى ذلك الحضورُ المُتنامي للقبيسيات كواحدٍ من أكثرِ أشكال الدعوةِ النسوية نشاطاً في العاصمة. وبرغم الحديث عن كونِ القبيسيات يشتغلن على نشرِ صنفٍ معتدلٍ من الدعوة، وبرغم التأكيدات المتلاحقة على كونِهنّ لا يُشكّلن أيّ خطرٍ من أيّ طراز على هويّة الدولة، إلّا أنّ تصاعدَ نفوذهنّ داخل البلاد واشتغالهنّ المُمنهج والمدروس على ضمّ نساءٍ فاعلاتٍ ومؤثّراتٍ مجتمعياً، يجعل دقّ ناقوسِ الخطرِ من مدٍّ إسلاميّ جديد في سوريا أمراً واجباً.
نحنُ اليوم أمام ظروفٍ تشبه تلك الّتي عاشتها سوريا بُعيد فشلِ انقلابِ «الإخوان». فالدولة السورية سوف تخرج من هذه الحرب لتجد نفسها تُدير بلاداً دمّرتها حربٌ امتطت ظهرَ حراكٍ شعبيّ إسلاميّ القوام. وعليه فإنّها، أيّ الدولة، ملزمةٌ بمعالجة الأسباب الّتي أدّت إلى هذا الحراك وذلك بوساطة طريقةٍ من اثنتين:
الأولى، تحاكي الطريقة الّتي تعاملت بها الدولة مع المُجتمع السوري بعدَ قمع تمرّد الثمانينيات، وتتمثّل في منح الدّين بصورةٍ عامّة، والإسلامَ منه بصورةٍ خاصّة، مزيداً من السلطان وبعضاً مضافاً من الامتيازات على أن تساهم هذه المكتسبات في ضمانِ ولاءِ قادةِ الرّأي العامِ بصورةٍ تجعلهم يقفون إلى جانب الدولة إذا تكرّر سيناريو الأزمة الراهنة في قادماتِ السنين، وهي طريقةٌ أثبتت عدمَ جدواها على أكثر من جبهة، فالتجربة الحالية بيّنت أن الانتماءَ للهوية الوطنيّة السورية يُسجّل قيمةً خجولةً للغاية إذا قيسَ بالانتماءِ للأيديولوجية العقائديّة. وعليه فإنّ «الإسلام المتمرّد» سوف يُعيد إنتاج نفسه حين تتوافر الظروف المناسبة ولن يتردّد في الانقضاض على الدولة في محاولةٍ لسحبِ بساطِ الحكم لجهةِ أكثرية طائفيّة.
الطريقة الثانية، تتمثّل في تذويب الدين، وإعادته إلى مستوعباته الأصيلة في المساجد والكنائس، وإفراغ دستور البلاد من كلّ مدلولٍ دينيّ أو طائفيّ، وجعلِ قيمة المواطنةِ في سوريا مطلقةً لا تَمَايُز فيها، يستوي من خلالها السوري العربي مع السوريّ غير العربيّ.
إذا كانت الدولة راغبةً في استئصالِ أسباب المُصيبة الّتي دمّرت سوريا وأعادتها قروناً إلى الوراء، فإنّها ملزمةٌ بتحديد هويّة البلاد من دون مواربةٍ أو محاباةٍ أو اختراعِ محدّدات جديدة لم يعرفها العالم قبلاً، فإمّا سوريا ذات نظامٍ إسلاميّ وتلك مصيبة، وإمّا سوريا ذات نظامٍ علمانيّ وهو الترياق. أمّا الحديث عن «دولةٍ علمانيةٍ ذاتِ هوىً دينيّ» فإنّه ليس أكثر أو أقلّ من «اختراع» سياسيّ لا قيمة له.
بعيداً عن كلّ ما سبق، واستناداً إلى مشهدٍ مجتمعيّ دارج، وضمنَ سردٍ أستطيع أن أصفه اصطلاحاً بأنّه «دراميّ» بعض الشيء، يُمكن أن نعتبرَ أنّ الخطوة الأولى على طريقِ إعادة بناء المجتمع السوريّ بصورةٍ صحيحةٍ وصحيّة تكمنُ في إلغاءِ حصص الديانة ضمن المدارس، والّتي يبدأ تلقينها للطفل السوري وهو في عامه السادس، والّتي ينقسم على أساسها أولاد الصفّ الواحد إلى قسمين اثنين، فيذهبُ القسم المسيحيّ إلى قاعةٍ يتلقّى فيها درس الديانة المسيحية ويعلم أنّ هناك «قسماً آخر لا يُشبهه» يتلقّى «درساً آخر لا يُشبه درسه» في قاعةٍ ثانية. درسُ الديانة هذا هو الوجه اللطيف للسكين الّتي تمزّق سوريا، ومن أراد أن يُحافظ على وحدة هذه البلاد، أرضاً وشعباً وهويّة، عليه أن يشتغل بحزم على معالجة أسباب الشقاق.
رامي كوسا
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد