سنّة أنتم... أرثوذكسي أنا
عروبيّون أنتم، عروبيّ أنا. بعثيّون أنتم، بعثيّ أنا. إسلاميّون أنتم، إسلاميّ أنا. مسيحيّون أنتم، مسيحيّ أنا. قوميّون أنتم، قوميّ أنا. ماركسيّون أنتم، ماركسيّ أنا. درج السرايا في جب جنين يعرفني. أنا، والله، أنا القائل قبل سنتين «عندما تسقط العروبة من ثقافتنا السياسية، نذهب إلى التمذهب، إلى تفتيت البلد». أنا، حدّقوا وستتذكرون أني أنا الذي دفعتني حماستكم لخطبتي عام 1998 إلى حدّ التهليل «لا إله إلا الله محمد رسول الله». أنا الذي شبّهت الرئيس الراحل حافظ الأسد عام ألفين بآخر الأنبياء. وأنا الذي شبّهت الحركة التصحيحية في سوريا بانطلاقة المسيحية في الوثنية. أنا القائل إن «الذي يترسمل بإرادة أهله وشعبه لا يتخوّف من أي شيء على الإطلاق».
إيلي الفرزلي، خذله الشعب. وقف عام 2009 مدهوشاً في جب جنين. تفرّج كالمجنون على أولئك الذين سابقهم سنوات في حب العروبة، الذين سهر الليالي معهم في المستشفيات، والذين حفظ من أجلهم الآيات القرآنية، ينتخبون ضدّه. «زي ما هيي».
كان رهان الفرزلي كبيراً. ظلّ يردّد حتى موعد إغلاق الصناديق أن أكثرية اللبنانيين ليسوا قطعاناً في طوائف يقودها زعيم هنا وآخر هناك. فلسطين. كان الفرزلي يعتقد أن فلسطين ستوصله من البقاع الغربي إلى المجلس النيابي. كان يعتقد أن الأحلام السياسية التي ينثرها هنا وهناك أقوى وأفعل من توصية زعيم الطائفة أو مفتيها. هو الذي يتأبّط مفكرته مسجّلاً المواعيد. هو بوصلة التوابيت إلى المقابر. هو «المياه المصلاة» في المعموديات. هو بيت القربان في الاحتفالات الدينية. يروى أن سيدة كان ابنها مريضاً أغمي عليها حين رأت الفرزلي عند باب بيتها، لاعتقادها أن ابنها قد فارق الحياة. هو الذي لا يترك عزاءً إلا يحضره، ويصل غالباً إلى العزاء قبل أهل الفقيد. هو يسقط في الانتخابات: أنا كل الدوائر الرسمية تعرفني، كل الغرف في مستشفيات البقاع وبيروت تعرفني، كل محتاج يعرفني. أنا، الفرزلي أنا.
قبل مغيب الشمس في ذلك اليوم الانتخابي الطويل، تراءت له سنواته تضيع هباءً. اكتشف أن كل التصفيق لخطاباته كان نفاقاً، وكل العلاقات الاجتماعية والأحلام السياسية والنقاشات كانت كذباً. تركوه في العروبة وعادوا إلى طوائفهم. لماذا سقط الفرزلي في انتخابات 2009 النيابية؟ هناك بالطبع آلاف الأسباب، لكن أبرزها عودة الناخبين من العروبة إلى الطوائف. أسقط جمهور تيار المستقبل الفرزلي لارتدائه ثياب البعث الكشفية التي سبق للجمهور نفسه أن فصّلها على قياسه، لاستعماله لساناً وعبارات ومفردات كان الجمهور نفسه أيضاً سباقاً في اختراعها.
أنا ردّ الفعل، لست أنا الفعل. خذوا هذه الجديدة: سنّة أنتم، أرثوذكسي أنا. أنا «المستقيم الرأي» أنا.
حين أنشئ اللقاء الأرثوذكسي قبل نحو عام، بدا حضور الفرزلي مفاجئاً. لكنّ كثيرين اعتقدوا أن مهمة اللقاء إحياء دور العلمانيين في الكنيسة الأرثوذكسية وإعادة إحياء ما كان يعرف في هذه الكنيسة بمجالس الملة. بدت مشاركة الفرزلي وبعض الآخرين في هذا السياق منطقية. لكن سرعان ما تبيّن، بحسب أحد المتابعين، أن أهداف اللقاء بعيدة كل البعد عن توفير الديموقراطية واحترام مبدأ المشاركة في إدارة شؤون الطائفة بين الإكليروس والعلمانيين. وبدأ غرق اللقاء في المواقف التقليدية: لم يسعَ اللقاء إلى بناء جسور تواصل جدية مع علمانيي الكنيسة، لم يرسم خطة لتفعيل الوجود الأرثوذكسي في مؤسسات الدولة أو توفير مشاريع إنمائية تبقي الأرثوذكسيين في مناطقهم.
هكذا، يكمل المصدر، تحوّل اللقاء إلى ناد لوجهاء الطائفة البعيدين كل البعد عن عموم أبنائها. همّ الطائفة تثبيت حضورها في الدولة، وهمّ اللقاء إعادة أعضائه إلى المجلسين النيابي والحكومي.
الفرزلي هنا بطريرك. من يمين اليسار إلى يمين اليمين. أنا الفرزلي نفسه اليوم أقول «تمسُّك الطوائف اللبنانية بخصوصيتها وتشييد كل مذهب حدوداً وإعلاماً ومؤسسات وأدبيات وعلاقات بالخارج وتمويل»، كل ذلك يدفعني إلى «التمسك بانتمائي الطائفي وإقامة حدود عازلة وإعلام ومؤسسات وأدبيات وعلاقات بالخارج وتمويل». و«ما دامت الظروف أرجعت البلاد 120 عاماً إلى الوراء، إلى نظام الملل والعلل في ظل الدولة العثمانية»، فإني لن أقف متفرّجاً. أنا أصلاً، وأنتم تعرفونني جيداً، لا أستطيع الوقوف متفرّجاً. هذا خطاب المرحلة: «نظام الملل والعلل». هاتوا لي المنبر إذاً، أنا الميكروفون. ألم أقل لكم سابقاً: هاتوا لي المناسبة وخذوا المضمون. يقترح الفرزلي أن يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، وأن تنتخب كل ملة على امتداد الأراضي اللبنانية النواب المخصصين لها. هم، بحسب قراءة الفرزلي للدستور اللبناني، نواب «ملل وعلل» وليسوا نواب أمة. هو جديّ، لا يمزح الفرزلي بأمور كهذه. من سيزايد أكثر. خسئ أولئك الذين ناوشوني في تملّق العروبة وتمجيد العلمانية ونبذ الطائفية. وخسئ الطائفيون. أنا الفرزلي أنا. تنتخب كل طائفة نوابها: الأرثوذكسي الذي في مرجعيون يعلم أكثر من السنّي الذي في عكار من هو الأجدر بتمثيل العكاريين. الشيعي الذي في بنت جبيل يعلم أكثر من الماروني الذي في جبيل من هو الأجدر بتمثيل الجبيليين.
يضحك كثيراً أحد أصدقاء الفرزلي البقاعيين، يضحك من قلبه. فعلى حدّ قوله، طُرح مشروع انتخابي مماثل عام 1970، على أساس إنشاء «فدرالية طوائف»، فتنتخب كل طائفة ممثليها وترسلهم كمندوبين عنها إلى المجلس النيابي المركزي للأمة اللبنانية. لا ديموقراطية من دون مواطنة، يقول صديق الفرزلي في هجاء القانون «العصري». ويشير إلى أن اللقاء الأرثوذكسي أخطأ العنوان ربما. فبدل المطالبة بمجالس ملة داخل الطائفة الأرثوذكسية، ذهب ليطالب بمجالس ملة داخل الدولة اللبنانية. يخالف المشروع، بحسب صديق الفرزلي، كل فلسفة الطائف التي تدعو إلى انتخاب مجلس نيابي تشريعي وطني بالكامل وحصر التمثيل الطائفي بمجلس الشيوخ. لعل الفرزلي، ينهي الصديق، أخطأ العنوان فأطلق على قانونه صفة قانون انتخاب مجلس نيابي، وهو يقصد قانون انتخاب مجلس شيوخ.
أنا الفرزلي أنا. كلّي مفاجآت أنا. سأحاول في ختام العرض إقناعكم بأن هدفي من كل ما سبق «إلغاء الطائفية السياسية».
غسان سعود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد