سنة على توقيف الضباط الأربعة المتهمين في قضية الحريري
في 30 آب من العام المنصرم (2005) قام رئيس لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة، المكلّفة بالتحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري و20 آخرين، السيد ديتليف مليس «باستدعاء» كلّ من اللواء جميل السيد، العميد ريمون عازار، اللواء علي الحاج والعميد مصطفى حمدان. وقام المحققون الدوليون بتفتيش منازل المذكورين قبل جلبهم بصفتهم مشتبهاً بهم الى مقر لجنة التحقيق، وما زال الضباط الأربعة موقوفين حتى اليوم.
مرّت سنة على توقيف الضباط الأربعة في قضية اغتيال الرئيس الحريري، ولم تنشأ حتى اليوم المحكمة ذات الطابع الدولي التي كثر الحديث عنها طوال العام الماضي، لا بل لم يُعلن عن برنامج لحماية الشهود لتسهيل عمليات التحقيق. ولا نعلم حتى اليوم كما لا يعلم محامو الضباط الأربعة الأسباب والدوافع القانونية الصالحة لاستمرار توقيفهم طوال هذه الفترة. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن القانون اللبناني يسمح بتوقيف أشخاص في هذه الحالة لمدة غير محدّدة، بينما لا تسمح أصول ومبادئ «القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الانسان» المشار إليها في تقرير لجنة التحقيق الدولية الرابع (الفقرة 111) بتوقيف أشخاص مشتبه بهم لمدّة غير محدّدة دون تحديد موعد للمحاكمة.
وكان محامو الضباط الأربعة الموقوفون قد تقدّموا بمذكرات منفصلة (وبالمناسبة، قال مصدر مطّلع إن محامي الضباط يشدّدون على فصل ملفات الضباط الأربعة عن بعضها، وإن فكرة خلطها ببعضها كانت «خطّة اعتمدها الرئيس السابق للجنة الدولية ديتليف ميليس لأسباب سياسية») مع طلبات محددة بالنسبة الى استرداد مذكرات التوقيف انطلاقاً من حسم الموضوع لناحية دخوله في اختصاص القضاء اللبناني.
وقال مصدر معني إن الدكتور سيرج براميرتز كان قد أبلغ النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا أن ملف أحد الضباط لا يتضمّن أدلّة تدينه في المحكمة، بينما حسمت لجنة التحقيق الدولية هذه المسألة لناحية أن كل ما يرتبط بالترك وإخلاء السبيل واسترداد مذكرات التوقيف لا دور للجنة التحقيق الدولية فيه، وقد حسم القاضي براميرتز المسألة بأن الأمر من الاختصاص الحصري للقضاء اللبناني.
وتنشر «الأخبار» رسالة تتناول أحد الضباط الموقوفين وجّهها براميرتز إلى محاميه بتاريخ 6 حزيران 2006، يؤكد فيها على ذلك. إذ يقول فيها (بالفرنسية) إن موضوع إخلاء سبيل الضابط هو «حصرياً من اختصاص السلطات القضائية اللبنانية». بينما كانت اللجنة الدولية تعتبر نفسها مختصة في 1/10/2005 لإصدار توصيات بالتوقيف أو بإخلاء السبيل الى القضاء اللبناني. والبرهان على ذلك أنها أصدرت التوصية الأساسية بالتوقيف وأكدت عليها في 1 تشرين الأول 2005. ولم تعد اللجنة تعتبر نفسها مختصة في 6/6/2006 بإصدار التوصيات. النقطة الأهم هي أن اللجنة في جوابها على طلب أحد المحامين الاستطرادي بالرجوع صراحة عن التوصية بالتوقيف وإبلاغ موقفها خطياً الى القضاء اللبناني قد اعتبرت أن رجوعها عن توصيتها السابقة ليس من اختصاصها.
في حين كان بإمكانها التأكيد بكل بساطة على موقفها الخطي السابق المتخذ في 1/10/2005 بالتوصية باستمرار التوقيف فيما لو ارتأت أن استمرار التوقيف لا تزال تفرضه مصلحة التحقيق. واللافت أن اللجنة وصفت في جوابها المؤرخ في 1/10/2005 أحد الضباط بالمشتبه به، وسمحت لنفسها نزع الصفة العسكرية عنه مخالفة القانون اللبناني والمسلكيات العسكرية وكرامة الضباط، في حين أنها أزالت عنه صفة المشتبه به واستبدلتها بالصفة العسكرية في كتابها بتاريخ 6/6/2006. ولم تعتبر اللجنة نفسها مختصة قانونياً لإصدار أية توصية إضافية إلى القضاء اللبناني بخصوص التوقيف بما في ذلك توجيه كتاب بسحب التوصية السابقة.
على ضوء هذا التطور الذي كان يطالب به وكيل الدفاع عن أحد الضباط الموقوفين منذ فترة، تم تحديد وضع معين لمذكرات الطلب، وبات على القضاء اللبناني اتخاذ قراره في هذا الموضوع، لكن ذلك لم يحصل. وأعرب مصدر أمني رفيع أن لدى السلطات القضائية اللبنانية معلومات دقيقة ودلائل تبرّر استمرار توقيف الضباط الأربعة، لا بل تجرّمهم في المحكمة التي يُعمل على إنشائها؛ مع العلم أن التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق الدولية والمعلومات التي سرّبت عن التحقيقات لا تشير الى وجود أي دليل من هذا النوع.
وكان الضباط الأربعة قد اقتيدوا بتاريخ 30/8/2005 من منازلهم الى مقر اللجنة الدولية بموجب مذكرات موقّعة من رئيس اللجنة السابق ديتليف ميليس. تنشر المذكرة المتعلّقة بأحد الضباط الأربعة مؤرّخة في 29/8/2005، كتب فيها أن سبب اقتيادهم وتفتيش منازلهم هو إفادة شاهدين.
وعُلم أن أحد الشاهدين هو الشاهد محمد زهير الصدّيق، والثاني هو هسام هسام الذي تراجع في ما بعد أمام عدسات التلفزيون عن إفادته. وكان التقرير الثاني للجنة التحقيق الدولية (10 كانون الأول 2005) قد ذكر في الفقرة 27: «تقدم السيد الصديق الى اللجنة في البداية كشاهد سرّي لديه معلومات تفصيلية عن اغتيال السيد الحريري. واستناداً الى إفادات أدلى بها أمام اللجنة، تقرّر بعد ذلك اعتباره مشتبهاً به في ما يتصل بالتحقيق». وتبيّن للجنة أن إفادات الصدّيق بما يتعلّق بالتحضير لعملية الاغتيال كانت كاذبة (بحسب الفقرة 28 من التقرير نفسه). وعلى رغم اعتبار اللجنة أن الصديق مشتبه به، أفرجت السلطات الفرنسية عنه في باريس. وقام الصديق بمقابلات صحافية وتلفزيونية وهو يتجوّل بحرّية في العاصمة الفرنسية، ويعيش برفاهية نجهل حتى الآن مصدر تمويلها.
منذ حوالى شهرين، أدلى محامي الصديق، غوييوم سيلنيت، بحديث أشار فيه إلى أن الصديق مستعد لوضع نفسه تحت تصرف القضاء اللبناني أو التحقيق الدولي وطلب ضمانات معينة، وبعد هذا الحديث تحرك محامو الضباط الأربعة في اتجاه لجنة التحقيق من أجل الضغط على فرنسا لوضع الصديق في تصرفها لتتمكن اللجنة من إجراء المواجهة الضرورية بين الضباط والصديق، انطلاقاً من أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي واشتركت في صياغة وتعديل وإقرار جميع القرارات، ولا سيما تلك التي تفرض موجب التعاون على جميع الدول المعنية بالتحقيق، فكيف إذاً في موضوع الصديق، كما طلب المحامون منذ حوالى أربعة أشهر تحضير طلب استرداد ثان للصديق بعدما أعلن رئيس الجمهورية استعداده ضمان عدم تطبيق عقوبة الإعدام عليه. لكن السلطات القضائية اللبنانية لم تتجاوب ولم تنظر في إمكانية إرسال أسئلة للصديق عبر القضاء الفرنسي مثلاً أو من خلال الأمم المتحدة. وكانت القاضية جوسلين تابت قد سافرت الى باريس منذ حوالى خمسة أشهر، وأعرب مصدر معني أن السلطات الفرنسية لم تسمح للقاضية اللبنانية باستجواب الصدّيق.
بتاريخ 9 حزيران 2006 صدر التقرير الرابع الذي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أية مسؤولية للضباط الأربعة في الجريمة ولا الى أية ناحية من نواحي التحقيق تتعلق بهم، مع أن التقرير تناول مختلف الاتجاهات التي يسلكها التحقيق الدولي.
من المفروض حصول نقلة نوعية في موضوع التحقيق الدولي بشأن الصديق أو على الأقل أن يرد طلب استرداد ثان من الدولة اللبنانية. وفي الثالث من آب 2006 كرّر أحد المحامين طلب استجواب الصديق من دون جدوى. كما لم يلق جواباً حتى اليوم على طلب استرداد مذكرة التوقيف بحق موكله الذي كان قد تقدّم به في 28 تموز الماضي.
بانتظار تقرير لجنة التحقيق الدولية الخامس في منتصف أيلول، يبقى السؤال: أين الادلّة؟
تعتري مسار التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إشكالات مهنية عدة توجب إبداء بعض الملاحظات:
1ـ إن ازدواجية التحقيق بين التحقيق اللبناني والتحقيق الذي تجريه اللجنة الدولية تضعف إجراءات التحقيق وتفتح المجال أمام التسريبات، وقد تسمح بتدخّلات في التحقيق وبتشويه للحقائق.
2ـ إن تغيير أعضاء فريق التحقيق الدولي ورئيسه قبل ختم التحقيق يسمح أولاً بتسريب معلومات عن التحقيقات الأولية، وثانياً بعدم متابعة دقيقة لتلك التحقيقات من قبل الفريق البديل، وثالثاً بعدم معرفة كلّ التفاصيل والأجواء التي تمّت فيها أوّل مرحلة من التحقيقات. أضف الى ذلك احتمال عدم تلازم أسلوب الفريق المستبدل بأسلوب الفريق البديل في التحقيقات.
3ـ إن غياب آلية أو هيئة تفتيش ومراقبة عمل اللجنة الدولية وعدم تعيين مدّع عامّ في القضية والغموض في ما يتعلّق بالقوانين التي ستجرى المحاكمة على أساسها يفتح المجال واسعاً أمام مشاكل إجرائية ويمنع المحامين من العمل على تأمين حقوق موكليهم.
و في 30 آب 2005 صدر عن المكتب الإعلامي لوزارة العدل بيان جاء فيه: «عند الساعة العاشرة من صباح اليوم، عقد اجتماع في مكتب وزير العدل الدكتور شارل رزق مع رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة السيد ديتليف ميليس، حضره النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سعيد ميرزا. جرى خلال الاجتماع التداول في ما حصل يومي 29/8/2005 و30/8/2005، وتعهد السيد ميليس بإطلاع النائب العام التمييزي على نتائج التحقيق مع الأشخاص المذكورين أعلاه، والأدلة المتوافرة بحقهم، واقتراح اللجنة بشأنهم، تاركاً للقضاء اللبناني اتخاذ القرار المناسب في ضوء القوانين اللبنانية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1595 ومذكرة التفاهم الموقعة بين هيئة الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية». وبناءً على ذلك، إن قرار استرداد مذكرات التوقيف بحقّ الضباط الأربعة أو الاستمرار بتوقيفهم بيد القضاء اللبناني دون غيره، على أساس أن القضاء اللبناني يُفترض وبحسب تعهّد رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة أن يكون مطّلعاً على كافّة الأدلّة ونتائج التحقيقات.
وبدوره «على قاضي التحقيق» (المادة 76 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) وهو القاضي الياس عيد في هذه القضية، أن يحيط المشتبه به «علماً بالجريمة المسندة إليه فيلخّص له وقائعها ويطلعه على الأدلة المتوافرة لديه أو على الشبهات القائمة ضده لكي يتمكن من تفنيدها والدفاع عن نفسه».
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد